د. لويس صليبا/مراجعة لكتاب”يوسف والبئر أسطورة الوقوع في غرام الضيف”، تأليف فاضل الربيعي، صدر عن رياض الريّس للكتب في بيروت، في 254ص.

مجلّة الأمن/أيّار – 2024/  بقلم أ. د. لويس صليبا

 

 

د. لويس صليبا/مراجعة لكتاب”يوسف والبئر أسطورة الوقوع في غرام الضيف“، تأليف فاضل الربيعي، صدر عن رياض الريّس للكتب في بيروت، في 254ص.

النبي يوسف أو يوسف الحُسن كما تعرفه العامّة شخصية أجمعت على إجلالها وإكرامها الديانات الإبراهيمية الثلاث، وهو حقّاً نقطة لقاء وقاسم مشترك بينها. وقصّته، ولما فيها من طرافة وتشويق، كان الكبار ولا يزالون يروونها للصغار في كلّ من هذه التقاليد الدينية الثلاثة، وهي مدار أسمارٍ وموضوع جلساتٍ وسهرات. ويجمع الآباء وشرّاح البيبليا من علماء اليهود وملافنة الكنيسة على أن دورة أخبار يوسف في سفر التكوين تحفة في الفنّ القصصي.

ومن البديهي أن تُنسج حول شخصيّة دينية شعبية كهذه الحكايات وتُضاف إلى قصّتها الكثير من العناصر الآجيوغرافية، ويستقلّ كلّ من التقاليد الدينية الثلاثة بجوانب وعناصر ينفرد فيها عن سائر التقاليد.

يستهلّ المؤلّف فاضل الربيعي دراسته يوسف والبئر (ص11-12) بنقل رواية الأبشيهي عن يوسف والتي تنطلق من القصّة القرآنية لتضيف إليها مشاهد وأحداث تجعل يوسف بعد أن ولي المُلك بعد موت العزيز يتزوّج زليخة وهي عجوز عمياء فيردّ الله عليها حُسنها وشبابها، ويواقعها يوسف فإذا هي بكر. ويعقّب الربيعي (ص15): “على هذا النحو تَحْدث المعجزة في الأساطير العربية–الإسلامية، فيستردّ المسنّ شبابه والعاشقة تفوز بمعشوقها، والنبي/الملك يحصل أخيراً على المرأة التي وهبَتْ نفسها قرباناً له”.

ويرى الباحث أن من ميّزات الرواية الإسلامية تركيزها على الصراع المحتدم في النفس البشرية (ص20): “قد تكون أسطورة يوسف كما روتها الميثولوجيا العربية، وكما أعاد روايتها الفقهاء المسلمون، واستند بعضهم فيها إلى النصّ العربي من التوراة مباشرة (…) هي التصوير النموذجي الأكثر فاعلية في الثقافة القديمة لفكرة الصراع ضدّ الدنس”.

وعن طريقته في مقاربة حكاية يوسف يقول المؤلّف (ص22): “اتّجاهنا في التحليل أن أسطورة يوسف يجب أن يُنظر إليها لا كواقعة تاريخية أو دينيّة بل كجزء من أدب عالمي كان شائعاً ومألوفاً في العالم القديم. كما أن قصّة السنوات السبع العجاف التي تشكّل محوراً هامّاً من محاور الأسطورة معروفة جيّداً في ملحمة جلجامش”.

ومن هذه الزاوية ينظر الكاتب إلى ما يُروى في قصّة يوسف عن العلاقة بامرأة العزيز زليخة (ص21): “أدبٌ كامل تركه لنا البابليّون والأشوريّون واليونانيّون القدماء يمكن تصنيفه في أدب الوقوع في غرام الضيف حيث نشاهد النساء وهنّ يقعن في غرام ضيوفهن”.

وهنا يربط الربيعي أسطورة يوسف بتراث الحكايات والأساطير في العالم القديم (ص25): “في هذه الحالة يجب أن نرى في المشهد صورة من صور الزواج المقدّس الذي يجري رمزيّاً وبصورة مموّهة بين المرأة العذراء وغلامها أو ضيفها”. ويتابع الكاتب (ص26): “هذه صورة من صور الجنس المقدّس (البغاء المقدّس) الذي كان شائعاً في ثقافات العالم القديم”.

وتبيّن الرواية العربية القديمة تفاعلاً مع تراث الأساطير اليونانية (ص28): “إن سائر القصص والأساطير والروايات التاريخية الخاصّة بعرض المرأة لنفسها على النبي أو الملك إنّما تدور في فلك الموضوع نفسه، إنّه أدبٌ عربي قديم موازٍ للأدب اليوناني ومطوِّر لموضوعاته”.

ويرى الباحث أن الروايات الإسلامية للأبشيهي وسواه من المؤرّخين والإخباريين (ص29): “مصمَّمة لأجل تصحيح النهاية التي وُضعت لقصّة يوسف، وذلك بجعل اللقاء ممكناً، والهدية قابلة لأن تُهدى”.

ويربط الربيعي بين حكاية يوسف وأساطير الخصب لا سيما عند قدامى العرب (ص35): “ترتبط أسطورة يوسف مباشرة وعضويّاً منذ ولادته بواسطة اللفاح البرّي بعقيدة قديمة من عقائد القبائل العربية في طفولتها البعيدة تصوّره رمزاً للخصب”.

وفي تقييم أوّليّ لعمل المؤلّف نرى أن هذا الاستقراء للقصة التوراتية والقرآنية من ثمّ، وربطها بسابقاتها من أساطير يونانية ورافدية وعربية جاهلية أمر هو بلا ريب جليل الفائدة إن من حيث التحليل الأدبي ونقد النصوص أم من حيث علوم الأديان ولا سيما الأديان المقارنة، وهو ينمّ عن حذقٍ في التحليل وعمق في النظرة وبراعة في العرض، ويؤشّر، على مستوى ما، إلى وحدة التراث الإبراهيمي على اختلاف في المقاربة والنظرة وفي تفاصيل الحكاية بين تقاليد الملل الثلاث.

ونحن إذ نُقرّ بأهمّية هذا العمل البحثي وننوّه بجهد الكاتب في تفكيك عناصر الأسطورة والبحث الدؤوب عن مصادرها ومظانّها في الحكايات وميثولوجيّات الحضارات القديمة والتراثات المتوسّطية، ومن ثمّ إعادة تركيبها وبالتالي استنباط دلالات كلّ ذلك، يبقى أنه لنا عليه جملة ملاحظات إن في الشكل أو المضمون.

وأوّل ما لحظناه في هذا السياق عمل الكاتب على تطويع النصّ بل وليّ عنقه ليخدم تحليله الخاص للأسطورة وتوظيفه لها. وأوضح مثل على ذلك زعمه أن راحيل والدة يوسف كانت قبيحة وأنّها كانت زوجة يعقوب الأولى، يقول (ص32): “في النصّ التوراتي كانت راحيل امرأة عاقر قليلة الجمال وربما قبيحة، بينما كانت شقيقتها الجميلة ليئة زوجة ثانية ليعقوب”.

ويضيف الباحث زاعماً (ص37): “في النصّ التوراتي عمل يعقوب في رعي الأغنام عند خاله لابن سنواتٍ سبع من أجل أن يتزوّج ليئة الجميلة، لكن خاله المخادع زوّجه راحيل فاضطرّ للعمل سبع سنوت أخرى من أجل أن يحصل على ليئة”.

وواقع الأمر أن النصّ التوراتي يروي نقيض ذلك تماماً، نقرأ في سفر التكوين وفي الترجمة الحرفية عن العبرية (تكوين 29/16-19): {وللابان اثنتان ابنتان اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل. وعينا ليئة ضعيفتان وراحيل كانت جميلةَ صورةٍ وجميلة منظر، فأحبّ يعقوب راحيل. فقال أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى فقال لابان حسن}. (العهد القديم العبري ترجمة بين السطور ، ترجمه فريق من الآباء وعلماء الكتاب المقدّس بإدارة وإشراف ومشاركة الأبوين بولس الفغالي وأنطوان عوكر، بيروت، الجامعة الأنطونية، ط1، 2007، ص46-47).

أما خديعة لابان فكانت أنّه زوّج يعقوب بليئة عوضاً عن راحيل، يتابع النص (تكوين29/25-31): {فلمّا طلع الصباح عرف يعقوب أنّها ليئة، فقال للابان: ماذا فعلتَ بي؟ أما خدمتُك لآخذ راحيل؟ فلماذا خدعتني؟ فأجاب لابان: أعطيك راحيل أيضاً بدل سبع سنين أخرى من الخدمة عندي. فوافق يعقوب، وأعطاه لابان راحيل امرأة له. (…) فدخل يعقوب على راحيل أيضاً وأحبّها أكثر من ليئة. ورأى الرب أن ليئة مكروهة فجعلها ولوداً، وأمّا راحيل فكانت عاقراً}.

طَلع الصباح: كانت ليئة تحت الحجاب وكان الوقت ليلاً، وهذا ما منع يعقوب من معرفة تلك التي أعطيت له. ولمّا طلع الصباح عرف. ولكنّه ما استطاع أن يفعل شيئاً تجاه خاله. هذا باختصار ما يذكره المفسّرون لهذه الآية. ستمنع شريعة موسى لاحقاً أن يتزوّج الرجل من امرأة وأختها، ففي سفر اللاويين (18/18): {ولا تأخذ امرأةً مع أختها لتكون ضرّتها وتكشف عورتها معها في حياتها}. كما ستمنع الشريعة الإسلامية الرجل من أن يجمع الرجل بين امرأة وأختها ضرّتين.

وما تقوله الرواية التوراتية ضمناً والإسلامية الموازية لها، أن يوسف الحُسن، كما يُعرف في اليهوديّة والمسيحية والإسلام، وتسمّيه العامّة قد ورث الحُسن والجمال عن أمّه راحيل الجميلة الحسناء. والمؤلّف نفسه يتحدّث عن راحيل ووليدها الجميل. (ص110)!! فكيف يكون النبي يوسف آية في الحسن كما تروي التوراة والقرآن كذلك وأمّه قبيحة؟!

ولكن لماذا يقلب الباحث الوقائع التوراتية رأساً على عقب؟ كي يتيسّر له التحليل وربط حكاية يوسف بعناصر أسطورية قديمة في الخصب، يقول (ص34): “كان يعقوب امتنع عن إهداء راحيل القبيحة هديّتها الموعودة، لكنّه قام بتقديم الهدية المماثلة لأختها الجميلة ليئة، التي أنجبت له الكثير من الأولاد”.

ويتابع الربيعي فيتّضح لنا المغزى من قلبه للوقائع التوراتية (ص34): “تظهر راحيل العاقر كنموذج لإلهة العقم القبيحة التي صدّ عنها الراعي في البداية ورفضها، لكنّه أُرغم بواسطة الخداع على الزواج منها أي على عبادتها”.

وهكذا فالعودة إلى النصّ التوراتي تنسف هذا التحليل من أساسه! وهذا من شأنه كذلك أن ينسف أطروحة الكتاب برمّتها، لا سيما وأن التلاعب بنصّ مقدّس كهذا، ورواية تُجمع على خطوطها الكبرى الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام ليس بالأمر اليسير والعابر!!

وممّا قد يؤخذ على دراسة الربيعي أنها لا تحفل بتفاسير الآباء ولا بشروحات علماء اليهود للنصّ، فلا أثر لكلّ هذه فيها. فهل هو جهلٌ لهذا التراث التفسيري المهمّ أم مجرّد تجاهلٍ له؟! ومعلوم أن نصّاً مهمّاً ومقدّساً بنظر الكثيرين لا ينفصل عن تاريخ تلقّيه وتفسيره وفهم الأجيال العديدة له! وليوسف مكانة مميّزة في التقليد المسيحي ولا سيما كرمز يمهّد لظهور المسيح، ولا نرى لذلك، على أهمّيته، أي ذكر في الكتاب باستثناء إشارة سريعة (ص68). وتقصيرٌ كهذا من شأنه أن يكون مأخذاً مهمّاً يلام الباحث عليه!

وإضافة إلى كلّ ذلك فعندما يتحدّث المؤلّف مراراً وتكراراً عن النصّ العربي للتوراة، كمثل نقله (ص96، هامش 51) آية عن “النص العربي للتوراة”، فأيّ نصّ عربيّ وأيّ ترجمةٍ للتوراة يقصد؟ إنّه لا يحدّد، ويتركنا في لُبسٍ كبير، وفي شبه استحالة في التدقيق والتحقّق ممّا يذكر من آيات، لا سيما وأن طريقة تخريجه للآيات البيبلية غريبة عجيبة مثل: تكوين4: 42: 28 (م. ن)، وهو ما سنتوقّف عنده في ما سيلي.

ولمّا كان المؤلّف يعتمد غالباً التحليل الفيلولوجي نراه يشطح أحياناً في تفسير بعض التعابير المفتاحية، كمثل قوله (ص68): “إحدى أهمّ دلالات الاسم يوسف كإله للخصب، تكمن في بنيته التي تتضمّن الإشارة إلى الزيادة والكثرة (الخير). إن الجذر الثلاثي (يسف) [سفَف] يعني الزيادة، ومن ذلك قولنا إن فلاناً يسفّ في الحديث بمعنى يزيد فيه أي يكثر ويستطرد”.

وفي الواقع فقد بحثنا في مختلف المعاجم العربية قديمها وحديثها فلم نجد أي أثرٍ لمعنى شبيه أو قريب ممّا ذُكر. ففي القاموس للفيروزبادي (مادة سفف): “أسفّ: طلب الأمور الدنيئة. وأسفّ الطائر: دنا من الأرض”.(الفيروزآبادي، مجد الدين محمّد بي يعقوب (729-817هـ)، معجم القاموس المحيط، تحقيق خليل شيحا، بيروت، دار المعرفة، ط2، 2007، مادة: سفف، ص620)

وفي المنجد: أسفّ: هبط إلى مستوى متدنّ: أسفّ في حديثه. إسفاف: إنحدار معنوي وسقوط فكري في نقاشٍ أو بحث” (المنجد في اللغة العربية المعاصرة (إشراف صبحي حموي)، بيروت، دار المشرق، ط3، 2008، ص675)

أما بشأن معنى اسم يوسف بالعبرية، فهو وخلافاً لما يذكر الباحث (ص68 و 94): “الربّ يزيد”، أي ليزد الله ابناً آخر على الابن الذي ولد. (الفغالي، الخوري بولس، المحيط الجامع في الكتاب المقدّس والشرق القديم، بيروت، جمعية الكتاب المقدّس، ط2، 2009، ص1431). ومعلوم أن يوسف كان أوّل أبناء راحيل بعد عقم طويل، وبإطلاقها هذا الاسم على بكرها وفاتح رحمها كانت تطلب من الله المزيد من الأبناء.

أما اسم راحيل فمعناه بالعبرية رخلة أو “النعجة” لأنها كانت راعية (تكوين 29/9). وليس الترحال والرحيل كما يذكر المؤلف (ص105). وهي امرأة يعقوب المفضّلة. وأم يوسف وأم بنيامين. ماتت حين كانت تلد بنيامين، ودُفنت على طريق إفراته بين بيت إيل والرامة. (الفغالي، م. س، ص559).

وليئة هي ابنة لابان وشقيقة راحيل الكبرى، ومعنى اسمها: بقرة (مقابل راحيل: نعجة). وقد فرضها والدها بالحيلة زوجة أولى ليعقوب (تكوين 29/23-35) وهي أمّ رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا (تكوين 29/30-35)، ثم أمّ يساكر وزبولون وابنة اسمها دينة. (الفغالي، م. س، ص1112).

فهذه الأخطاء البيّنة في تفسير أسماء يوسف وأمّه راحيل وأختها ليئة تظهر عدم درايةٍ واضحة للمؤلّف باللغة العبرية وجذور الأسماء والألفاظ فيها، رغم محاولاته الدؤوبة على إظهار نقيض ذلك!

ومن حيث التعامل مع المصادر والمراجع فليت الباحث ذكر في أسفل كلّ صفحة مراجعها، كما هو متداول ومتعارف عليه أكاديميّاً وجامعيّاً في الوقت الراهن! أما الإشكالية الكبرى في تعامل الباحث مع المصادر فتكمن في أنّه، في معظم الأحيان، يكتفي بذكر مصدر استشهاده، ولا يورد أرقام الصفحات. وعلى سبيل المثال لا الحصر ففي ص93 المخصّصة للهوامش يذكر 13 مرجعاً ومصدراً في حين أنّه لا يحدّد الصفحة المنقول عنها سوى في 3 مراجع!!

وكذلك فطريقته في تخريج آيات التوراة غير مألوفة كما أشرنا، ولم تتِح لنا العودة إلى أيّ من الآيات المذكورة، على سبيل المثال ص96: تكوين: 42: 41: 3، وتكوين4: 42: 28 وغيرها، أما المتعارف عليه فذكر رقم الفصل متبوعاً برقم الآية كما يلي: (تكوين16/7) !! وهذا ما يتّفق عليه الباحثون المسيحيّون واليهود في آن، فلا خلاف في بحوث كلا الطرفين ومقالاتهما في الدراسات البيبلية في ترقيم آيات التوراة وبالتالي تخريج هذه الآيات. فمن أين جاء المؤلّف بهذه الطريقة الغريبة وغير المألوفة في ترقيم الآيات البيبلية وتخريجها؟!

ولا يسعنا إلا أن ننوّه بمقاربة الباحث لمسألة الأحلام في حكاية يوسف والتركيز على هذا الجانب ينمّ عن رؤيا ميثولوجية ثاقبة، يقول (ص98): “لا ريب أن الأحلام في أسطورة يوسف، بحسب رواية النصوص المقدّسة هي المادّة الصلبة التي تمثّل عنصراً رئيساً وحاسماً في بنيتها السردية. بل وحتى على مستوى إنشاء النصّ الأصلي كقصّة دينية. فإذا ما تمّ مثلاً تجريد الأسطورة من هذه الأحلام أو إفراغها من مادّتها الصلبة، فإن مضمون الأسطورة سيكون في هذه الحالة بسيطاً وربّما خالياً من الدلالات العميقة”.

والباحث يشير (ص108) إلى طريقة إريك فروم في بناء علاقات بين الأسطورة والحلم على مستوى اللغة الإشارية، بيد أنّنا نجد أن مقاربته تذكّر أحياناً أيضاً بطريقة كارل غوستاف يونغ.

وتستوقفنا مقاربة الربيعي لسرّية الحلم (ص99): “رواية الحلم قد تنطوي على خطر إفساده. سوف يفسد الحلم العجائبي حين يُروى. ذلك هو منطق الأسطورة وربّما منطق الواقع كذلك”.

ويستوحي الباحث من تحذير يعقوب ابنه يوسف من رواية أحلامه سبباً للهلع الدفين من رواية المنامات (ص102): “الأحلام لا نجرؤ على قصّها أمام آخرين يتشوّقون إلى سماع تفاصيلها، لا بسبب كونها ذات طابع غرائبي، بل لأنّنا في لاوعينا نخشى التحذير القديم الذي أطلقه الأب في وجهنا، ونرتعد بالتالي من فكرة توبيخه لنا بفضح سرّية الحلم”.

لا يبعد هذا التحليل عن مقاربة يونغ الذي شدّد على أن في الأحلام عناصر من السيكولوجيا الجماعية والموروث الثقافي.

وآخر ما يستوقفنا في منهج الربيعي في مقاربة أسطورة يوسف في المأثورات الإسلامية ما عبّر عنه كما يلي (ص155-156): “علينا دائماً في التحليل أن نعيد للأسطورة براءتها وعذريّتها الأولى التي خرقها الإخباريّون المسلمون من خلال حرصهم غير المبرّر على تضمين مرويّاتهم الأسطورية جانباً من الواقع والتاريخ. فكانت طريقتهم بذلك مصدر اضطراب على مستوى تلقّي النص، فلا هم نقلوا لنا عمليّاً أخباراً تاريخية وواقعية صحيحة وموثّقة المصدر، ولا هم عرضوا علينا “أساطير الأوّلين” كما رواها العرب. وبدلاً من تجريد الأسطورة من الميثولوجيا أي من روحها لأجل امتلاك الواقع أو اكتشافه فيها، سنقوم بالضدّ من ذلك بتجريدها من الواقعي لمصلحة الأسطوري”.

وإنّنا هنا لنوافق الكاتب تماماً في حكمه الموضوعي والمنصف على الحوليّات التاريخية العربية كالطبري وسائر ما كُتب في قصص الأنبياء وغيرها، ونثني بالتالي على منهجه في دراسة الأسطورة ولا سيما “أساطير الأوّلين” (أساطير الأوّلين: تعبير قرآني، ورد 9 مرّات في القرآن، منها الأنعام6/25، والأنفال8/31) وتحليلها بتجريدها من الواقعي.

وممّا لحظناه في هذا المصنّف كذلك، غياب خلاصةٍ عامّة واستخلاص لنتائج البحث وما أكثرها! وكان حريّ بالمؤلّف أن يجمع أبرزها في خاتمةٍ لكتابه تمهّد وتؤسّس لمزيد من البحوث!!

وبالمقابل فلا بدّ من التنويه بلغة الكتاب وأسلوبه الإنشائي عموماً. فلغته متينة وبسيطة وواضحة الدلالة في آن، وخالية عموماً من الركاكة ومن الأخطاء النحوية والإملائية وغيرها.

وختاماً فهو كتابٌ يدعو الباحث المتخصّص والقارئ في آن إلى إعمال الفكر والبصيرة في الموروث الديني وغربلة وتفكيك الكثير من الروايات والتمييز بين الأسطوري والآجيوغرافي والمزاعم والحكايا وغيرها. وطرح الربيعي ومشروعه في هذا المجال جديرٌ بالاهتمام، ويبقى أن منهجه غير الأكاديمي في التعامل مع المصادر، وإغفال ذكر الصفحات التي ينقل عنها، وطريقته الغريبة في تخريج الآيات البيبيلة، وكذلك ما لجأ إليه من ليٍّ لعنقِ النصّ المقدّس وتقويله نقيض ما يقول كلّها أمور غير محمودة، ومن شأنها أن تنسف مقولاته في “إسرائيل المتخيّلة” من أساسها!!

 

شاهد أيضاً

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its prevention.

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *