قراءة نقدية في كتاب غسّان شربل “لبنان دفاتر الرؤساء/رياض الريّس للكتب، بقلم لويس صليبا

قراءة نقدية في كتاب غسّان شربل “لبنان دفاتر الرؤساء/رياض الريّس للكتب، بقلم لويس صليبا

مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن/ عدد أذار – 2024 بقلم أ. د. لويس صليبا

 

1-“لبنان دفاتر الرؤساء

“لبنان دفاتر الرؤساء”، تأليف الصحافي غسان شربل، صدر عن رياض الريّس للكتب/بيروت في 487ص.

هو نمطٌ من الكتابة والكتب عرفناه من الصحافي الرصين غسان شربل، وصار هو معروفاً به: حوارات طويلة ومركّزة مع سياسيّين وفاعلين في الأحداث تظهّر الكثير من خلفيّات هذه الأخيرة وخفاياها، وتقدّم بالتالي للمؤرّخين والباحثين في العلوم السياسية والإنسانية عموماً أصولاً ومصادر أوّلية لتحليلاتهم ودراساتهم.

ويعرض شربل في المقدّمة محاور مصنّفه هذا وفصوله كما يلي (ص17-18): “أجريتُ في مطلع التسعينات حواراً مع الوزير فؤاد بطرس بعنوان: ثلاثة عهود شهابية وفكرة الدولة، وأرفقتُ الحوار بشهادتين لـِ مُنح الصلح وكريم بقرادوني، ونُشرَت كلّها في جريدة الشرق الأوسط. عام 1994 حاورتُ الرئيس حسين الحسيني. سنة 1995 حاورتُ العميد ريمون إده في باريس. عام 1996 حاورتُ الرئيس صائب سلام. وسنة 1999 حاورتُ الرئيس شفيق الوزّان. وعام 2001 حاورتُ الرئيس كامل الأسعد”.

وليت المؤلّف حدّد بمزيد من الدقّة تواريخ حواراته، ولا سيما الثلاثة الأولى منها: بطرس والصلح وبقرادوني. فعبارة مطلع التسعينات تبقى فضفاضة، لا سيما وأن تلك الحقبة كانت حافلة بالأحداث الجسام: قيام جمهورية ما بعد الطائف في لبنان، سقوط حكم عون، إلخ. فهل أجريت هذه المقابلات قبل هذه الأحداث، أم خلالها أم بعدها؟! وكان الأولى بالكاتب أن يذكر في بداية كلّ حوار طويل أجراه تاريخه وتاريخ نشره، ممّا يسهّل على القارئ وبالباحث بالأخصّ وضعه في سياقه.

ويبقى الرئيس شهاب والتجربة الشهابية عموماً محوراً أساسياً في الكتاب، وستكون مدار بحثنا الأساسي. وفي ذلك يقول شربل (ص16): “لا يحقّ لنا تجاهل أن لبنان حاول بعد استقلاله بناء دولة ومؤسّسات. صحيح أن تلك التجربة سقطت تحت وطأة مطالب الداخل وتجاذبات الخارج، لكن الصحيح أيضاً هو أن لا معنى للبنان إن لم يحتفظ ببعض روح تلك التجارب”.

وبغضّ النظر عن أسباب سقوط هذه التجربة، والمقصود بها الشهابية بلا ريب، فنحن نوافق الكاتب أن تجاهلها أو عدم استلهامها خسارة كبرى لا تعوّض. وتبقى المعادلة التي يطرحها في هذا الصدد مدعاة تفكّر وتبصّر (ص28): “لا الاستسلام للماضي ينقذ، ولا شطب الماضي يخلّص. وسلام لبنان أكبر من لبنان، تماماً كما كانت حروبُه”.

ويُحسن المؤلّف تحديد موقع كتابه والتعريف به، فيقول بواقعية لافتة (ص19): “لا يدّعي هذا الكتاب تأريخ مرحلة أو ما يُشبه ذلك. إنّه كتابٌ صحافي يطمح إلى أن يحرّض القارئ على المزيد من الأسئلة والمقارنة بين الروايات”.

وكلّ كتاب يتيح الفرصة للمزيد من البحث وطرح الإشكاليّات هو في الحقيقة كتاب ناجح وقد أدّى وظيفته على ما يُرام!

وعن مواضيع كتابه وعُقدة قصصه يقول (ص19): “في حكايات الرؤساء جزء من مأساة كيانٍ هشّ اسمه لبنان، وجزء من قصّة الموارنة وهي جميلة وشيّقة”.

وعبارة كيانٍ هشّ موفّقة ومعبّرة عن حقيقة تاريخية وواقع سياسي آنف وراهن. أمّا عن جمال القصّة وما فيها من إثارة وتشويق فقد نجح المؤلّف ببساطة أسلوبه ومتانته في آن وفي تسلسل أسئلته وانسيابيّتها وانبثاق العديد منها من الأجوبة في جعل كتابه هذا يجمع بين الممتع والمفيد ويُقرأ بالتالي في جلسة واحدة.

وماذا الآن في المضمون، ولا سيما في المحور المشار إليه؟

يقول شربل عن الرئيس شهاب والفريق السياسي الذي عاونه (ص24): “جاء فؤاد شهاب إلى الرئاسة من الثكنة. من الانضباط الصارم والخوف من المدنيين وألاعيب السياسيين. وراح يبحث عن مدنيين يشبهون العسكر في انضباطهم. عن أركان لثكنة الشهابية، وتحديداً عن الذين يقدّمون الولاء للدولة على الولاء لما هو أقلّ منها”.

وهي ملحوظة في محلّها، وتنطبق بالأخصّ على الثنائي سركيس/بطرس الذي سيقود سفينة الحكم وسط الرياح العاصفة والأمواج العاتية.

وعن امتناع شهاب عن الكتابة بل وحتى الدفاع عن عهده يقول شربل (ص31): “لم يترك فؤاد شهاب أوراقاً تكشف أو تفضح أو تصحّح. انتصر الجنرال في نفسه على الرئيس، وربّما لم يكتب لشعوره بأنّه أدّى واجبه وفعل كلّ ما بمقدوره. وربّما لشعوره بأن بعض صفحات لن تغيّر رأي الناس وحكمهم. وقد يكون شعَر باليأس من اللبنانيين خصوصاً حين سارعوا إلى الانقسام في عهد خلَفه، وهزّوا دعائم الدولة التي حاول أن يبنيها”.

ونحن نقول أن الجنرال امتنع عن الكتابة لهذه الأسباب مجتمعة، ولغيرها، لا سيما وأنّه أحرق أوراقه في ثورة غضبٍ عارمة قبل يوم من وفاته. ويروي الإعلامي أنطوان الخويري في هذا الصدد أنّه زار يوماً مع الصحافي الآخر الياس ربابي الرئيس شهاب واقترحا عليه أن يدوّن مذكّراته على غرار الجنرال ديغول، فأجابهما: “الله يرى الأعمال لا الأقوال، والذي لا يرى لا يقرأ”. (الخويري، أنطوان، تاريخ غزير السياسي والحضاري والاجتماعي، بيروت، مطبعة شمالي، ط1، 2007، ص419). وجواب الأمير هذا مسألة فيها نظر لا سيما وأنّه ألِف من موقعه العسكري أن تكون الكلمة للفعل، لا الفعل للكلمة، بحسب تعبير مُنح الصلح (ص170). وفؤاد بطرس يقول في هذا الصدد (ص51-52): “مشكلة الرئيس شهاب أنه كان عنده نوع من التحفّظ الشخصي، ولم يكن يتكلّم كثيراً أو يعطي الإعلام حقّه. كان الرئيس شهاب منكمشاً على نفسه، وهذا خطأ، وهذا ما كان عليه الياس سركيس أيضاً. أخذ شيئاً منه، فكان عنده نوع من التحفّظ إلى حدّ الحياء بالنسبة إلى الإعلام. شهاب كان عسكريّاً، وفي التربية الفرنسية يسمّون الجيش الصامت الأكبر. تعوّد على الصمت، ولم يتكيّف مع رئاسة الجمهورية بسهولة بل تدريجيّاً”.

وعن تجربة المكتب الثاني في عهدَي شهاب وخلفه يقول شربل (ص37): “لا شكّ أن ممارسات المكتب الثاني ساهمت في اغتيال الشهابية، أو سهّلت على الأقلّ اغتيالها والانقضاض عليها. لكن الذين رفعوا الصوت أو فتحوا الحنفية لإسقاط دولة المكتب الثاني ساهموا دون قصدٍ منهم في إسقاط دفاعات الدولة اللبنانية أيضاً”

وهي ملحوظة في محلّها. فقد أسرف المعارضون في التهجّم والتهويل، حتى أنهم في دكّهم لأسوار المكتب الثاني دكّوا معها الحصون التي كانت تحمي أمن لبنان!!

وفي هذا الصدد ينقل المؤلّف عن الرئيس الراحل رنيه معوّض قوله عام 1988 (ص41): “أخاف أن يبكي اللبنانيّون دماً على الشهابية، وهم يبكون دائماً متأخّرين، ويتذكّرون متأخّرين”. وأغلب الظن أن تخوّف معوّض كان في محلّه، وأن “نبوءته” قد صدقت! أمّا شربل فيعقّب على مقولة الرئيس الشهيد كما يلي: “لبنان الباحث عن دولة ترمّم الأبنية والنفوس والمعادلة لا يستطيع إلا الاعتراف بأن الشهابية شكّلت أوّل محاولة جدّية لبناء الدولة”. وقد لا نجد حرجاً في أن نحشر كلمة “وآخر” بعد أوّل. فكلّ ما أعقب الشهابية من محاولات قبل الطائف وبعده شابها الفساد، وأعوزتها النزاهة والتجرّد وبُعد الرؤيا! ولعلّ المؤلف كان يعرّض بكل هذه المحاولات عندما ذكر مقارناً الشهابية بسائر العهود (ص43): “ليس بسيطاً في لبنان أن يكون الرئيس زاهداً، وألا يصطحب معه إلى القصر حاشية من المنتفعين”.

وتأتي شهادة الوزير فؤاد بطرس القيّمة لتسلّط أضواءً كاشفة على الكثير من المواقف والأحداث في العهود التي شهدت سطوع الشهابية ومن ثمّ أفول نجمها. فعن موقع شهاب بين الأميركيين والناصريين يقول فؤاد بطرس (ص60): “من دون شكّ كان فؤاد شهاب تسوية على أساس أنّه حلّ التعادل السلبي. ففي المباراة لم ينتصر أحد لأن فؤاد شهاب لم يكن أميركيّاً، ولم يكن ناصريّاً، ولكنه كان يراعي هذا وذاك باعتبار أن كلّ واحد كان يقبل به ليس على أساس أنّه له، بل على أساس أنّه ليس ضدّه، وهكذا تحصل التسوية”.

وواضح أن تحليل بطرس هذا متّزن وينمّ عن نظرة ثاقبة وموضوعية للأمور، ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه.

ويركّز بطرس على غُربة شهاب عن الطبقة السياسية التي كانت تحكم أو بالحري تتحكّم بمقدّرات البلاد، وينقل عنه أقوالاً ومواقف جدّ معبّرة في هذا الصدد (ص61): “أحياناً كان الرئيس شهاب يقول لي: أنا شو عم بعمل هون؟ مزاجي مش هيك، والذي يحكم يضطرّ أن يتساهل ويساوم، وأنا لستُ كذلك، وعقليّتي مختلفة. فماذا أفعل هنا؟ ولماذا أقبل بالبقاء؟ لا يجوز”

ويروي بطرس عن شهاب كلاماً آخر لا يقلّ عن الآنف دلالة (ص62): “ذات يوم قال لي بعد جلسة مجلس الوزراء: أريد أن أتكلّم معك. فمررتُ على مكتبه، وقال: لماذا عليّ أن أتحمّل السياسيين اللبنانيين؟ ماذا يُجبرني على ذلك؟”

وهذا الاغتراب الذي كان الأمير يشعر به من شأنه أن يقدّم لنا مفتاحاً لفهم الكثير من مواقفه المفصلية، ولا سيما استقالته صيف 1960، ورفضه للتجديد سنة 1964، وعزوفه عن الترشّح للرئاسة عام 1970.

ويعتبر فؤاد بطرس أن (ص50): “الحلف الثلاثي أو حلف انتخابات 1968 (شمعون، الجميّل وإده) شئنا أم أبينا هو الجدّ البعيد لحرب 1975”.

وهو تحليل لافت، ويبيّن أن كل اصطفاف طائفي أو مذهبي لا يمكن إلا أن يؤدّي إلى تشنّج في كيانٍ هشّ كلبنان. ولعلّ “الخطأ” عينه تكرّر مع التحالف الرباعي في انتخابات أيار 2005!!

وعن عهد سركيس، وكان شريكه الأساسي في الحكم، يروي بطرس (ص90-91): “كانت الضربة القاضية بالنسبة إلى مسيرة الحلّ والسلام في ذهاب الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس. وهنا تغيّرت كلّ المقاييس، وخُلطت الأوراق مجدّداً. وتأكّد الرئيس سركيس، وتأكّدنا نحن أيضاً، أن لا حلّ. واعتباراً من هذا الوقت صار المطلوب إدارة الأزمة بأقلّ كلفة ممكنة، والمحافظة على المقوّمات الأساسية للبنان (…) حتى إذا جاء وقت وتيسّر فيه الحلّ تكون هذه المقوّمات موجودة والبلد على قيد الحياة”.

إنها بلا ريب مسألة محورية لفهم مجمل العهد السركيسي ومعضلاته. فزيارة الرئيس السادات إلى القدس كانت الحدّ الفاصل بين رئيس الحلّ ورئيس إدارة الأزمة. أياً يكن فقد أحسن سركيس إدارة هذه الأزمة، وصان ما تبقّى من مقوّمات الدولة. ولم يقدّر الناس والمحلّلون أهمّية الدور الذي لعبه حقّ قدره إلا بعد أن عرفوا غيره من الحكّام. وفي ذلك يقول بطرس مستخلصاً في عهدي الرئيسين الشهابيّين (ص118): “أعتقد بأن الرأي العام الماروني، كما أسمع من الناس، يترحّم على فؤاد شهاب والياس سركيس، لأنّه، إضافة إلى الناحية السياسية، لم تكن لدى الأوّل ولا الثاني مطالب شخصيّة أو عشائرية أو مالية. والبلد لم يعوّدنا كثيراً على الترفّع عند الناس”.

ومن أبرز ما ورد في شهادة المفكّر مُنح الصلح ما رواه عن أصل مصطلح الشهابية ومفهومه. قال (ص160-161): “الشهابية ككلمة ظهرت أوّل ما ظهرت في مقال للأديب الفرنسي بيار ليوتيه، وهو عضو في الأكاديمية الفرنسية. جاء إلى لبنان في أوّل عهد الحكم الشهابي، وذهب إلى فرنسا وكتب مقالاً عنوانه الحلّ الشهابي. وهو مبني على دعوة فرنسا إلى حلّ المشكلة بين الجزائريين والفرنسيين على قاعدة التفاهم بين الاثنين. وقال لماذا لا تطبّقون هذه الفكرة نفسها التي طبّقها الرئيس فؤاد شهاب بين المسيحيين والمسلمين على الجزائر”.

والمسألة على بساطتها بعيدة الدلالة. فالرئيس شهاب وهو لمّا يزل في مستهلّ عهده يعطي فرنسا الدولة الكبرى و”الأمّ الحنون” مثلاً ونموذجاً لحلّ مشكلة الجزائر، وكانت كبرى المعضلات التي تعاني منها الأوضاع السياسية والعسكرية في فرنسا يومها.

ويحدّد مُنح الصلح فلسفة الحكم الشهابي ببساطة على أنّها (ص161): “إلغاء الوساطة التي كان يشكّلها الطاقم السياسي اللبناني بين الحاكم والمواطن العادي”. وهذا ما يؤكّد عليه معظم الشهابيين. يقول العميد جان ناصيف في مذكّراته: “مشروع الرئيس شهاب كان إعادة بناء مؤسّسات الدولة فتكون السلطة والمرجع الوحيد الذي يعطي المواطن حقوقه دون مِنّة من أحد”. (ناصيف، جان، م. س، ص399).

ويرى الصلح أن خطورة الانقلاب الفاشل آخر سنة 1961 تكمن في أنّه أدى إلى انقلابٍ آخر (ص165): “انقلاب فشل، وانقلاب نجح، هو انقلاب فؤاد شهاب نفسه على نفسه. فبحجّة ذلك الانقلاب حصل الانقلاب الشهابي انقلاب الأجهزة السياسية والإدارية والعسكرية المرتبطة بفؤاد شهاب متذرّعة بفشل الانقلاب لتحقّق مشروعاً جديداً”.

وممّا لا ريب فيه أن الانقلاب القومي كان منعطفاً أساسيّاً في العهد الشهابي، وأدّى إلى إحكام قبضة المكتب الثاني على سائر بنية الدولة وأجهزتها.

وفي العلاقة بين شهاب وخلفه يذهب الصلح إلى أن حلو عمل على تقويض أركان الشهابية وبالأخصّ في انتخابات 1968 و1970، يقول (ص176): “رئاسة شارل حلو ليست شهابية، وإنّما نوع من التوازن بين الشهابية ونقيضها. وكان شارل حلو يبتعد عن فؤاد شهاب تدريجيّاً كلّما مرّ الوقت إلى أن ساهم في القضاء على الشهابية في الانتخابات النيابية سنة 1968 والانتخابات الرئاسية سنة 1970”.

وهذا الدور الملتبس والباطني للرئيس حلو سبق أن توقّفنا عنده في دراستنا لمذكّرات العميد جان ناصيف الذي يعطي أمثلة عديدة عليه.

وعلى اختلافٍ في موقع كلّ منهما يرى كريم بقرادوني ما رآه منح الصلح بشأن مَن خَلَفَ شهاب (ص213): “شارل حلو لم يكن شهابيّاً. وصل على يد الشهابية إلى الرئاسة، لكنّه لم يكن مقتنعاً بها. وعندما أتيح له تغيير التوازن في الدولة تخلّص من الشهابية ممّا شجّع وصول سليمان فرنجية إلى الرئاسة”.

وهو يرى أن خطأ شهاب الأكبر يكمن في رفضه التجديد (ص228): “رفض شهاب التجديد وأبقى لنفسه صورة المتجرّد والرئيس الناجح، لكنّه ارتكابٌ في حقّ المواطن والوطن، لأنّه كان حقّق بعد التجديد الإصلاح في الدولة. وربما كان أقام دولة أكثر ثباتاً وقادرة على مواجهة الرياح الخارجية العاصفة. وربما لما حدثت حرب لبنان”.

وهل تنفع الحسرة والتأسّف؟! ورغم هذا المأخذ يرى بقرادوني أن (ص227): “أكثر الرؤساء اللبنانيين نجاحاً واستقراراً وتطويراً للدولة وهيبة لها هو فؤاد شهاب الرئيس والشخص. وعلى الرغم من كلّ شيء يظلّ فؤاد شهاب أنجح الرؤساء”.

وأبرز ما في المقابلة مع الرئيس كامل الأسعد ما رواه عن مسألة الاستئناس. وأيّاً يكن رأي المؤرّخ في هذه الرواية، فلا بدّ أوّلاً من أن تُنقل بأمانة عنه، يقول الأسعد (ص371): “كنتُ أريد أن يبقى الرئيس شهاب، لكن كنّا نريده أن يعلن. لم أكن مؤيّداً لصيغة أنّه سيبقى مضطراً أو مرغماً. وكلمة الاستئناس أطلقها النائب جان عزيز، وكان يقصد بها الاطمئنان إلى النتائج. ونحن لم نكن نرمي إلى الاطمئنان إلى النتائج بقدر ما كنّا نرمي إلى أن يعلن الرئيس قبوله. وحملت علينا الصحف الشهابية التي كان يسيطر عليها المكتب الثاني حملات شعواء”.

ويتابع الرئيس الأسعد فيروي خفايا لقائه بالرئيس شهاب وبحثه معه في مسألة التجديد، فيقول (ص371): “في مقرّه الصيفي في عجلتون طلب مني الرئيس شهاب لاحقاً أن أمشي في الصيغة المطروحة وهو مستعدّ . فقلتُ له: تأخر الوقت، بمعنى فات الأوان، لأنّ ذلك سيفسَّر بأنّني رضختُ للحملات التي استهدفتني”

ما يرويه الأسعد هنا ينقض معظم الروايات المتداولة في هذا الصدد! ولكن هل هي ببساطة مسألة تقويم كلام، وحرد من نقدٍ صحافي؟! هكذا يحاول الأسعد أن يظهّرها. وهو يتابع فيقول ردّاً على سؤال مباشر إذا ما كان الرئيس شهاب قد أبلغه رغبته في البقاء (ص372): “أنا أتألّم حين أروي لك هذه القصّة. قال لي تستطيع أن تعلن موافقتي وأنا موافق. فقلتُ هذا الموقف سيُعتبر تراجعاً منّي ولا أقدر على ذلك”.

لِمَ تألّم الأسعد إذاً؟ هل شعر أخيراً بالندم على فعلته هذه؟! إذ خسّر البلد فرصة إصلاحية كان من شأنها أن تنجّيه من حرب ضروس؟! أيمكن لمسألة تقويم كلام وعنجهية وغرور شخصيّ وفردي أن تطيح بأمن بلد برمّته ورخائه؟! ربّما. بيد أنّنا لا نملك سوى بأن نشكّك برواية الآحاد هذه، إذ لم نقرأ حتى الآن ما يؤيّدها أو أقلّه يتقاطع معها!! وكثُرٌ هم الذين نقضوا مزاعم الأسعد هذه، ومنهم من كان من المقرّبين منه كابن منطقته الصحافي سمير شاهين الذي يقول: “وباستطاعتي هنا التأكيد بناء لمعلومات ثقة أن سيناريو استئناسات الرئيس الأسعد لم يكن هو الذي أفشل التجديد بل موقف الرئيس شهاب الجدّي والنهائي في رفض التجديد”. (شاهين، سمير، سنوات الجمر، 2003، ص111).

ونكتفي بهذا القدر من إيراد الروايات والسرديّات ومناقشتها. وإن كنّا قد أطلنا الوقفة أحياناً فلأهمية ما تعرض هذه الحوارات من وقائع تاريخية وقصص صغيرة Petites Histoires. وما ذكرناه وحلّلناه كافٍ لتبيان أن كتاب غسّان شربل الماتع هذا جليل الفائدة للقارئ العادي وللمؤرّخ المتخصّص في آن. وهو بجمعه هذه الحوارات الطويلة والتي تدخل في الكثير من الدقائق والتفاصيل التاريخية المهمّة بين دفّتي كتاب قد أحسن صنعاً وأدّى خدمة جُلّى لبلده وتاريخه.

«»«»«»«»«»([1])

[1]

شاهد أيضاً

مراجعة نقدية لكتاب فاروق يوسف “رسّامون من العالم العربي”/ منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا

مراجعة نقدية لكتاب فاروق يوسف “رسّامون من العالم العربي”/ منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا مقالة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *