مكتبة الأمن/ت1-2023
بقلم أ. د. لويس صليبا
1-أحاديث ومراسلات عجاج نويهض
“أحاديث ومراسلات عجاج نويهض: الحركة العربية (1905-1933)”، تحقيق وإعداد بيان نويهض الحوت، صدر مؤخّراً عن مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت، في 688ص.
مقالة نشرتها مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن، عدد ت1- 2023
عجاج نويهض (1896-1982) مناضل عروبي من جبل لبنان ولد في بلدته رأس المتن وتوفي في بيروت. وكان من أوائل من وصل إلى دمشق من جبل لبنان في خريف 1918 وحقّق أمنيته بالعمل في أوّل حكومة عربية. (ص555).
وعن هذا الكتاب وغايته تقول محقّقته كريمته بيان نويهض الحوت (ص19): هدف هذا الكتاب هو العودة إلى تاريخ الحركة العربية منذ انبعاثها في مطلع القرن العشرين وحتى الثلث الأوّل منه”.
أمّا عن قصّته فتقول (ص31): “سنة 1953 بدأ المؤرّخ عجاج نويهض أحاديث مع رجالات الحركة العربية بهدف تأليف كتاب تاريخي مرجعي. وكان يحرص على الحديث مع من كانت لهم فيها أدوار بارزة، وكذلك مع الذين كانت لهم معرفة وثيقة بها أو كانوا شهوداً على مرحلة. (…) واستمرّ يعمل على مشروعه أربعة أعوام حتى تجمّعت لديه المادّة الرئيسية”. وتواصل المحقّقة ساردة سيرة والدها لا سيما ما يتعلّق بها بالكتاب (ص31-31): “عاد إلى لبنان1959 واستقرّ في بلدته رأس المتن. (…) أما بالنسبة إلى كراريسه التي ملأها بخطّ يده في عمّان عن الحركة العربية فقد أضاف إليها عدداً من الملفّات، غير أن سراج العمر انطفأ قبل أن يرى مشروعه النور”.
وتتابع المحقّقة فتروي كيف قيّض لها أن تواصل مشروع والدها (ص33): “في حزيران 1979 تعرّض والدي لارتفاع مفاجئ في ضغط الدم، ولم يعد باستطاعته المشي (…) وفي أحدى زياراتي له طلب منّي أن آتيه من مكتبته بصندوق من الكرتون. وقال هذا الصندوق أمانة، إحمليه معك إلى بيروت، وحافظي عليه (…)”.
عجاج نويهض أورث ابنته إذاً المشروع الذي حالت ظروفه دون إتمامه. وهذا الكتاب تقول محقّقته (ص34): “يحتوي على القسم الأكبر ممّا احتواه الصندوق الأمانة من أحاديث ومراسلات”.
وهنا تُطرح إشكالية بديهية أولى: لماذا القسم الأكبر وليس المحتويات برمّتها؟! ألا تفترض الأمانة العلمية بالمحقّق الدقة وأن لا يجتزئ وينتقي؟ وما الذي أقصته بيان نويهض ولماذا؟! حبّذا لو أنّها أجابت عن هذه الإشكالية في مقدّمتها التوضيحية!
وهذه الانتقائية تتّخذ بعداً يثير المزيد من الريبة متى ألقينا نظرة فاحصة على أعلام الحركة العربية التي حاورها عجاج نويهض أو راسلها ليؤرّخ لهذه الحركة: 31 شخصية لا نجد واحدة بينها غير مُسلمة رغم حرصه على الحديث مع من كانت لهم فيها أدوار بارزة أو معرفة كما نقلنا عن المحقّقة. ومشاركة المسيحيين العرب في الثورة العربية 1916 وفي الحكومة العربية في دمشق 1918-1920 وفي النضال ضدّ المطامع الصهيونية في فلسطين وغير ذلك كانت فاعلة ووازنة ولا يصحّ أن تُغفل!!
فمن هو المسؤول عن هذا الخيار “الطائفي”؟ عجاج نويهض المؤلّف أم المحقّقة ابنته؟!
تقول لنا المحقّقة وفي مستهلّ مقدّمتها (ص20): “عجاج نويهض هو مِن المؤمنين بأن الإسلام والعروبة وجهان لعملة واحدة”. وليتها ذكرت أين ومتى كتب أو رفع والدها هذا الشعار، فهو لا يظهر في كتابه هذا!
ولماذا تغييب شخصيّات مقرّبة ورفيقة نضال لعجاج أمثال أسعد داغر وكانت بينهما مراسلات عديدة؟! ومن المسؤول عن ذلك؟!
وشهادات رجالات الحركة العربية إن جاءت ضمن مقابلة وحوار، أم في رسالة قيّمة بمجملها، وهي من المصادر الأولى والأصول للتأريخ لها. ولا يتيح لنا المقام ولا حدود البحث أن نستعرض ولا حتى أكثرها، لذا سنكتفي بقراءة نقدية لبعض النماذج، ولا سيما ما يتعلّق منها بمواضيع بحثناها وأوّلها اتّفاقية سايكس-بيكو ومعرفة الشريف حسين وابنه المبكرة بها.
سبق وذكرنا في عدد من أبحاثنا أنّه، وخلافاً لما تؤكّده مراجع تاريخية عربية عديدة، فإن حكومتَي باريس ولندن أطلعتا الشريف/الملك حسين وأبناءه وأوّلهم فيصل على هذا الاتّفاق. وأرسلتا في ربيع 1917 كلّاً من مارك سايكس وفرنسوا جورج-بيكو للقاء الحسين ووضعه في أجواء تفاهمها. فوصلا إلى جدّة في 18/5/1917 وعقدا عدداً من الاجتماعات مع الشريف حسين وأبنائه ولا سيما فيصل. وأبرق بيكو إثرها إلى حكومته يقول إن الملك حسين يعرف الآن مضمون اتّفاقنا، ولم يبدُ متأثراً إلى الحدّ الذي كنّا نخشاه…”
وقدّمنا في البحث المذكور ترجمة أمينة وكاملة لنصّ برقية بيكو هذه، وحلّلناه وعقّبنا عليه.
أما جديد كتاب نويهض هذا فشهادات من داخل الحركة العربية وأعوان فيصل ورفاق سلاحه ونضاله تؤكّد أنّه ووالده، وخلافاً لما درج المؤرّخون العرب على تأكيده، كانا على معرفة مبكرة باتّفاق سايكس-بيكو وبنوده ولم يبديا معارضة واضحة له. والشهادة الأبرز تأتي من نسيب البكري (1988-1966) وهو مع أخويه فوزي وسامي كانوا من أعضاء جمعية العربية الفتاة. والتحق بفيصل في العقبة إثر إعلان الثورة العربية في 10/6/1916، وصار أميناً للبلاط الملكي في العهد الفيصلي 1918-1920. (ص441-442).
زار نويهض البكري في منزله في دمشق في 7/10/1957 وسأله عن معرفة الشريف حسين وابنه فيصل باتّفاقية سايكس بيكو (ص444)، مشيراً إلى أنّه: “لديّ من الإثباتات أنّه [الشريف حسين] كان يعلم بها [الاتّفاقية]”. فكان جواب البكري كالتالي (ص445): “بشأن سايكس بيكو كانت البداية بالنسبة لي يوم ذهب فيصل إلى جدّة إثر زيارة سايكس وبيكو لجدّة ومقابلتهما الحسين هناك، وحضر فيصل هذا الاجتماع وعاد إلى العقبة، لكنه هذه المرّة لم يخبرني شيئاً عمّا تمّ في ذلك الاجتماع. وحاولتُ أن أعرف، لكنّني لم أستطع الوصول إلى شيء، وبدا واضحاً لي أن فيصل يتكتّم بشدّة عمّا حدث”.
رواية البكري تتطابق مع ما ورد في برقية بيكو الآنفة الذكر يومها، ممّا يؤكّد صحّة هذه الرواية. ويتابع البكري قائلاً:
“بعد عودة فيصل من جدّة ببضعة أيّام وردَه مكتوب من أبيه، ومن عادة فيصل أن يلقي بمثل هذه المكاتيب إلى أمين سرّه فيضعها هذا في الإضبارة. أما في هذه المرّة فلم يسلّم فيصل هذا المكتوب إلى الحلبي، بل احتفظ به في جيبه مدّة ثم أعطاه للحلبي، فحفظه هذا في حقيبة الأوراق الخاصّة لفيصل، وكانت هذه الحقيبة تُترك مطويّة، ولكن ليست مقفلة.
أخبرني الحلبي عن فحوى هذا المكتوب، فأردتُ الوقوف عليه، وتمكّنتُ من إقناعه بأهمّية الاطّلاع عليه. اقتنع الحلبي وقال لي إنه سوف يغتنم فرصة غياب فيصل ذات يوم إلى تبوك فيأتيني بالكتاب كي أطّلع عليه، ثم يعيده إلى الحقيبة، وطلب منّي غاية الاحتياط. وقد كان ذلك، فكنتُ أقف أمام باب الخيمة حتى إذا جاء أحد الجنود أو العاملين يريد الدخول صرفته صرفاً جميلاً أو جعلتُ الحلبي يشعر بالقادم فيخفي ما كان يصنع. وقد تمّ هذا وأعطاني المكتوب فقرأته وأعدته له، فوضعه في مكانه بعد قليل كأنّه لم يحدث شيء”.
واضح من الرواية أن البكري قرأ المكتوب وأعاده إلى الحلبي سكرتير فيصل الذي وضعه في الحقيبة. وهنا يقاطعه نويهض ليؤكّد ذلك ويسأله:
-المؤرّخ: حتماً لم يكن ممكناً أن تحتفظ بنسخةٍ، لكن رجاء ماذا تخبرنا عن فحوى المكتوب؟
-البكري: بقدر ما يمكنني أن أتذكّر اليوم كانت فحواه:
-إن الاتّفاق حصل بين الحسين ومارك سايكس وجورج بيكو على أن تكون سورية تحت حكم أمير عربي (أي من أبناء الحسين وإن لم يذكر ذلك صراحة) والعراق تحت حكم أمير عربي.
-تُنزل فرنسا جنوداً في سواحل سوريا، ومقابل هذا تدفع (جزية) لحكومة الحجاز أو حكومة سورية. وكذلك تنزل بريطانيا جنوداً جنوبي العراق وتدفع جزية لحكومة العراق أو الحجاز.
-وهناك عبارات تفيد معنى أن الحجاز يكون له شبه إشراف على الإمارتَين.
وأصابني شيء من الذهول: ما هذا الذي أقرأه؟
أنا رأيت في هذا شيئاً عظيماً يتعلّق بسوريا، فأخذ يخامرني الريب في خطط المستقبل. وشعرتُ بضرورة التكلّم مع رفيق قريب كي نفكّر معاً في ما يجب عمله. ولم يكن قريباً منّي سوى الغصين. فطلبتُ منه أن يأتي إلى خيمتي وقلتُ له بأنّني أريد إطلاعه على أمر خطير بصفتنا نحن الاثنين عضوين في “الفتاة”، لا بصفة شخصية وكفى. وزيادة في الحيطة وابتغاء كتم السرّ استحلفته أن يكتم ما سأخبره به وأطلعه عليه، فحلف اليمين.
مددتُ يدي إلى جيبي، وأخرجتُ المكتوب وناولته إيّاه، فقرأه هذا ثم وجم. فطلبتُ منه أن يكتم الأمر حتى نرى أصلح سبيلٍ لدرء المخاطر”.
هنا ببساطة ينقض البكري ما قاله للتوّ وأكّد له عليه محاوره نويهض. سبق أن قال إنّه أعاد المكتوب إلى الحلبي مباشرة إثر قراءته له، وها هو يقول نقيض ذلك فيؤكّد أنّه أخرج المكتوب إيّاه من جيبه وأعطاه للغصين ليقرأه!!!
والغريب أن نويهض المحاوِر الذي من عادته أن يقاطعه ليسأله لم يفعل ذلك الآن بل تركه يتابع روايته وكأن ليس في الأمر ما يدعو إلى أيّ تساؤل!!
هنا تحديداً نرى أن نويهض لم يفلح في لعب دور المؤرّخ، كما تسمّيه ابنته، ولا حتى دور المحاور والإعلامي العادي فتناقض رواية البكري كان يستدعي منه أقلّه طرح سؤال!! والمحقّقة تقول عن والدها (ص583): “وفي حال اكتشافه أي تناقض في المعلومات أو نقص فهو كان يراسل ثقات من أصحاب التجارب”.
ونتابع رواية البكري:
“ما كان ليمرّ في خاطري بأن الغصين سوف ينتقل من العضو الأمين إلى الناكث بيمينه. ويبدو أنه رأى الفرصة لاحت كي يدحرج الحلبي. فلما عاد فيصل من تبوك تسلّل إليه الغصين وأفضى إليه بكلّ ما عنده، فاضطرب فيصل أيّما اضطراب. وكان لدماثة خلقه يعزّ عليه أن يكون خشناً معي، فأما الحلبي فإنه أخرجه من الأمانة فذهب هذا إلى مصر ولم يعد إلى الثورة. وأما الغصين فإنه مع إقدامه على فضح السرّ فإن فيصلاً لم يجعله مكان الحلبي، بل في مكانة أوطأ. وأمّا أنا فأعرضتُ عن الغصين منذ ذلك اليوم حتى اليوم. (…)
ومنذ ذلك الحين أمسك فيصل عن الاسترسال بإلقاء أسراره إليّ، ولكن المودّة بقيت بيننا”.
وهنا تنتهي رواية البكري، أما محاوره نويهض، فرغم ما جاء في الرواية من تناقض فهو يكتفي بالقول (ص447): ليس لديّ شك في أن كلّاً منكما [البكري وفيصل] تفهّم موقف صديقه، ويتّضح لي أنّه استمرّ على ثقته بك في العمل الوطني”.
إنّه استنتاج يناقض ما قاله البكري بنفسه!!
نقلنا في بداية نصّ الحوار عن نويهض قوله للبكري أن لديه من الاثباتات أن الشريف حسين كان يعلم باتفاقية سايكس بيكو!! فعن أيّ اثباتات كان يتحدّث؟ إنها على الأرجح رواية للشيخ محمد كامل القصّاب (1873-1954) حكاها له في رسالة من دمشق في 8/10/1953 وجاء فيها التالي (ص465-466): “لمّا أراد الحلفاء دخول القدس [دخلوها في 9/12/1917]… وفي إحدى الليالي بينما كنّا سامرين عند الملك حسين أشار إليّ بالتأخّر عند الانصراف، ولمّا انفضّ المجلس قال لي: تهيّأ حالاً للسفر إلى معسكر الأمير فيصل في الوجه وسيوافيك زيد إليها، وقد صحبني في سفري ذلك فوزي البكري وسامي البكري ومساعد اليافي، وهناك اجتمعنا بالإخوان محمود حمدي حمّوده والدكتور حسن شرف وفايز الغصين ونسيب البكري وتوفيق الحلبي، فطلبوا منّي اجتماعاً سرّياً أطلعوني خلاله على صورة كتاب خطّه ووقّعه الملك حسين نفسه إلى ولده فيصل لما له من الأهمّية التاريخيّة، وأخبروني أنّهم كانوا عازمين على إيصاله إليّ بمكّة وهذا مضمون الكتاب:
1-موافقة الحسين على اتّفاقية سايكس بيكو التي نصّت على أن تكون البصرة لبريطانيا، وأن تؤسّس في بغداد حكومة عربية ملكها عبدالله بن الحسين تحت الانتداب الإنكليزي، وأن تكون بيروت وملحقاتها لفرنسا. وأن تؤسّس في دمشق حكومة عربية ملكها فيصل بن الحسين تحت الانتداب الفرنسي، وقال الملك حسين في كتابه إلى فيصل إن هذا الاتّفاق مؤقّت ريثما يتمّ تأسيس الأسطول البحري العربي!! الذي يصبح قادراً على حماية الثغور العربية وعندئذٍ تعاد البصرة ولبنان إلى الإمبراطورية العربية، وممّا ذكره الملك حسين في كتابه أن الحلفاء سيدفعون له جعلاً (كذا) في كلّ سنة لقاء هذا الحلّ.
2-حذّر الملك حسين ولده فيصلاً من السوريين ومن الركون إليهم وإطلاعهم على شيء من هذه الحوادث.
3-استئثاره في العمل وأنّه لا يريد أن يكون لأحدٍ ما رأي أو يد في القضيّة العربية، بل يريد أن يكون العمل محصوراً بين يده ويد أولاده فقط.
ولمّا اطّلعتُ على الكتاب أظلمت الدنيا في عينيّ فتجلّدتُ وعزمتُ على مغادرة مكّة والإقامة بمصر حيث مجال العمل أوسع. ووعدتُ الإخوان الموجودين في الوجه بالكتابة إليهم بعد عرض الأمر على إخواننا في مكّة، وبعد بضعة أيّام من وصولي إلى الوجه أصبحنا فوجدنا الأمير فيصلاً متوارياً عن الأنظار، ثم علمنا أن مدرّعة إنكليزية أقلّته ليلاً إلى جدّة حيث كان والده ينتظره، وفي ذلك الوقت، وعلى ظهر تلك المدرّعة، وقّع الحسين تلك الاتّفاقيّة المشؤومة […] ثم عاد فيصل إلى معسكره دون أن يدخل الحجاز.
هذا وقد انتظرتُ الأمير زيداً في الوجه حيناً طويلاً فلم يحضر، ثم أخبرني الأمير فيصل أن الملك طلب عودتي إلى الحجاز، وأن فكرة دخول القدس أرجئت لوقت آخر، ولمّا عدتُ إلى الحجاز اجتمعتُ بالملك حسين فاعتذر عن تسرّعه في الأمر، ثم أطلعتُ الأخوين خالد الحكيم ومحبّ الدين الخطيب على اتّفاقية سايكس بيكو وقلتُ لهما: قد أصبح بقاؤنا في الحجاز مضرّاً بالقضيّة، واتّفقنا على الرحيل إلى مصر حيث يتّسع لنا مجال العمل. وبطريقة لبقة تخلّصنا من الحجاز، وأمّمنا القطر المصري”.
هذه هي الرواية التي دفعت نويهض كي يسأل البكري عن معرفة فيصل المبكرة باتّفاقية سايكس بيكو. والمحقّقة تعتبرها مثلاً نموذجيّاً عن منهج نويهض في تقصّي الحقائق ومقابلة الروايات وتفحّص تناقضاتها، فتقول (ص584): “ونعطي مثلاً على سعي المؤرّخ للكشف عن حقائق كان يرى أنّه لا بدّ من معرفتها كي تفهم الأجيال العربية حقيقة تاريخها المعاصر. ففي سنة 1918 توافق في القاهرة سبعة من كبار السياسيين العرب الذين أغضبتهم اتّفاقية سايكس بيكو فطالبوا بريطانيا بإيضاح موقفها. (…) وكان سؤال المؤرّخ لماذا؟ واختار أن يتوجّه بهذا السؤال إلى الشيخ كامل القصّاب، وهو من كان على رأس هؤلاء السبعة، وأجابه الشيخ القصّاب جواباً وافياً على الرغم من مرضه، مع عرضه للأوضاع السياسية التاريخيّة”.
بيد أن ما فات المحقّقة هو أن جواب القصّاب الذي تعتبره وافياً تضمّن كمّاً هائلاً من المغالطات والشطحات والمزاعم التي كان يجدر بنويهض أن يفنّدها، أو أقلّه أن يقارنها بما عاد وقاله له نسيب البكري ويسأله عنها:
-نسيب البكري يقول إنه ما عاد رأى للغصين وجهاً منذ ذلك اليوم، والقصّاب يقول إن المتخاصمين الثلاثة الألدّاء: البكري والغصين والحلبي اجتمعوا مع آخرين ليطلعوه سرّاً على رسالة الحسين إلى ابنه فيصل!
-البكري يقول إن سفر فيصل إلى جدّة سبق وصول رسالة والده إليه، في حين يجعل القصّاب هذا السفر بعد وصول الرسالة!!
-ويذهب القصّاب في تلفيقاته ومزاعمه إلى حدّ القول إن الحسين وقّع الاتّفاقية المشؤومة أي سايكس بيكو على ظهر مدرّعة إنكليزية!!
-ومن تلفيقات القصّاب أن اتّفاقية سايكس بيكو نصّت على أن يكون عبدالله بن الحسين ملكاً في بغداد، وفيصل بن الحسين ملكاً في دمشق!!
ومع كلّ هذه المزاعم الفارغة والتلفيقات المفضوحة ف”المؤرّخ” نويهض لا يسجّل عليها أيّة ملحوظة، ولا يكلّف نفسه حتى أن يقارنها برواية نسيب البكري، أو أقلّه أن يسأل هذا الأخير عنها!! في حين تعتبرها بيان الحوت جواباً وافياً وعرضاً للأوضاع السياسية التاريخيّة!
والخلاصة فهذه الروايات والمزاعم المتناقضة تعطي القارئ فكرة واضحة عن تضارب الأهداف والمطامع والأساليب بين العاملين في الحركة العربية، وتعيدنا إلى حكمٍ لافت للمؤرّخ كمال الصليبي في هذا الشأن يقول: “القوميّة العربية لم تُخفق لكونها فكرة طارئة لا تاريخ لها. وإنّما أخفقت لأنّها كانت في زمانها قوميّة منافقة. ولأنّ عمقها العلماني كان زيفاً، ولأن الأقلّيات في العالم العربي مثلها مثل الأكثريّات تبنّت هذه القوميّة وفي نيّتها النفاق. الصادقون من الفريقَين كانوا قلائل” (الصليبي، الحوار الأخير، م. س، ص24).
ولن تكون كلمتنا الأخيرة انتقاصاً من أهمّية هذا المصدر الذي يقدّمه لنا عجاج نويهض والمحقّقة ابنته في هذا الكتاب المرجعي والموسوعي الضخم. بيد أن الأمانة العلمية تقتضي القول: إنه حوى مجموعة كبيرة من الموادّ الخام من شهادات وروايات وغيرها، وعلى المؤرّخ أن يستخدمها بحذرٍ ويُعمل فيها التحليل والمقارنة والقراءة النقدية الصارمة.
«»«»«»«»«»([1])
[1] –