مراجعة لكتاب “فلسفة الدين المفاهيم والإشكالات”/منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا

“فلسفة الدين المفاهيم والإشكالات والاتّجاهات”

“فلسفة الدين المفاهيم والإشكالات والاتّجاهات”، إشراف وتقديم عبدالرزاق بلعقروز، صدر عن منتدى المعارف/بيروت في 319ص.

مقالة صدرت في مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن، عدد أيلول 2023

الموضوع حيويّ وبالغ الأهمّية، لا سيما وأن المكتبة العربية لمّا تزل بأمسّ الحاجة إلى بحوث في مجال علوم الأديان. ولعلّ هذا ما دفع أساتذة وأسرة قسم الفلسفة بجامعة محمد لمين دباغين سطيف2 في الجزائر إلى العمل سويّاً لإصدار هذا المصنّف. يقول المشرف في تقديمه (ص14): “كتابنا الجماعي هذا جاء جامعاً مصفوفة (كذا) من الأفكار التي أنجزتها أقلام فلسفية وفكرية جزائرية، روحها الكلّي هو الوعي النقدي بالفكر الفلسفي السائد”

ويؤكّد بلعقروز في هذا الصدد وفي مستهلّ مقدّمته (ص9): “لم تكن صلة الفلاسفة متوتّرة بشيء كصلتهم بالدين، ولم يتفكّر الفلاسفة موضوعاً عبر التاريخ وتعدّد النظر، مثل تفكّرهم بالمسألة الدينية”.

ويستشهد المشرف، في مجال دعوته إلى البحث عن القيَم، نيتشه القائل (ص11): “نحن معشر الباحثين عن المعرفة لا نعرف أنفسنا”.

وفي تحديد الدين يستشهد دوركايم Durkheim (ص22) القائل: “الدين هو مؤسّسة اجتماعية قوامها التفريق بين المقدّس وغير المقدّس. ولها جانبان أحدهما روحي مؤلّف من العقائد والمشاعر الوجدانية، والآخر مادّي مؤلّف من الطقوس والعادات”.

ويرى بلعقروز في شخصية سقراط وتعليمه ما يجمع بين الدين والفلسفة (ص20): “سقراط لم يكن فيلسوفاً نظريّاً، وإنّما كان صاحب رسالة تشبه رسالة الأنبياء في مسعاهم نحو تحرير الإنسان من الاعتقادات الخاطئة والسلوكات المنحرفة عن استقامة الفضيلة”.

وفي إطار البحث في فلسفة الدين وإشكالات الحداثة يدرس بلعقروز (ف3) “الشرق الثقافي كقِبلة فكرية جديدة”. ويستهلّ مقالته بطرحٍ للفيلسوف الفرنسي موريس مرلوبونتي (1908-1961) جاء فيه (ص51): “إن الفلسفة الغربيّة يمكنها أن تتعلّم من الهند والصين كيفيّة اكتشاف إعادة العلاقة مع الوجود، وتوعّينا بما صرنا إليه بعد أن سيّجنا أنفسنا بنموذج حضاري سمّيناه النموذج الغربي، وربّما تساعدنا على إعادة فتح هذا النموذج”.

إنّه إقرار بالغ الأهمّية، ولا يقلّ عنه ذاك الذي أفصح عنه هايدغر (1889-1976) إثر اكتشافه كتابات سوزوكي Suzuki عن الزان  Zen: “إن كنتُ قد فهمتُ سوزوكي فهماً صحيحاً، فإن هذا هو ما كنتُ أحاول أن أقوله في كلّ كتاباتي”. (ص51).

ويوافق بلعقروز إثر تناوله لفكر الفيلسوف الألماني شوبنهاور وللأثر الشرق أقصوي فيه على ملحوظة جي كلارك في هذا المجال (ص60-61): “من يتناول أفكار شوبنهاور مجتمعة يؤمن بأن تدفّق سيل الأفكار الهندية إلى أوروبا يمثّل نهضة جديدة سوف تُفضي حتماً إلى تحوّل أساسي في الفكر الأوروبي، وسوف يكون لهذا التحوّل أثر أعظم من آسيا على أوروبا… إنه ميل بارز للتطلّع الاستشراقي نحو استخدام الفكر الشرقي بغية إحداث تجديد أساسي ومراجعته للتراث الفكري الغربي”.

وممّا سجّلناه على بلعقروز ولحظناه بشأن دراسته للفكر الشرق أقصوي وأثره الراهن في الفلسفة الغربية أن معرفته للفلسفة والفكر الديني في الهند وجوارها تبدو ضحلة ونحيلة وملتبسة. ومن الأدلّة على ذلك قوله مثلاً (ص54): “آرثر شوبنهاور الذي راهن على كتاب الأوبانيشاد البوذي للخروج من أقفاص الثقافة العقلانية”.

فهذه العبارة القصيرة حوت كمّاً هائلاً من الأغلاط غير المقبولة من باحث. وهي تظهر جهلاً واضحاً بموضوع الدراسة فالأوبانشياد ليست بوذية بل هي حصراً هندوسية وجزء أساسي من الأدب الفيدي وليست كتاباً بل مجموعة هائلة من النصوص والأناشيد يبلغ عددها 108 وبالتالي فهي سلسلة ضخمة من عشرات الكتب!! (صليبا، لويس، أقدم كتاب في العالم، ص82-83).

ولم نرَ بلعقروز يعود في مراجعه ومصادره إلى أي كتابٍ من التراث الهندي، بل وحتى إلى أي كتاب غربي بلُغته الأصلية رغم أن موضوعه ينحصر في الأثر الهندوي في الفكر الغربي!! فمراجعه كلّها مصنّفات عربية أو ترجمات عربية لبحوث غربية، أما المصادر الهندية فغائبة تماماً ومثلها مصادر الفلسفة الغربية!!

وهو إضافة إلى ذلك يستشهد مثلاً بهايدغر دون ذكر أيّ مرجع! وبمرلوبونتي دون أن يوضح إذا كان قد عاد إلى كتابه “علامات” بنصّه الفرنسي الأصلي، أم إلى ترجمته الإنكليزية!

وتفتقر دراساته، ودراسات زملائه كذلك، إلى ثبت توضيحي للمصطلحات المستخدمة مع ما يقابلها بلغةٍ غربية. مدرسة Zen في البوذية واليوغا يسمّيها مثلاً (ص51): “الزّينية” دون أن يذكر ما يقابل تسميته هذه بالأجنبية! فمن الذي سيحزر عمّا يتحدّث!! ويتكلّم على “المفهوم الارتكاسي” (ص11) دون أن يشرحه أو يذكر ما يقابله بالأجنبية Concept Réactif

وننتقل إلى دراسة أخرى لأستاذ جامعي آخر هو نبيل فنقال وعنوانها “نحو طرح أكسيولوجي للدين عند هنري برغسون” (ف9: ص171-195).

فنصادف المشكلة عينها مع المصطلحات، إذ كان يُفترض أقّله بالباحث أن يشرح ما يستخدم منها حتى في العنوان :أكسيولوجي Axiologie وفي العربية علم القيَم (صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، ص2/، 400، والحلو، عبده، معجم المصطلحات الفلسفية، ص15).

وفنقال يبحث في فلسفة برغسون، ولا يكلّف نفسه عناء التعريف بهذا الفيلسوف وذكر تواريخه (1859-1941) وأنّه فرنسي وكتب بالفرنسية وحاز على جائزة نوبل 1927 وخصوصاً ذكر هذه المفارقة الأساسية في فكره وشخصيّته إذ كان فيلسوفاً مسيحيّاً رغم أنّه يهوديّ!! وقد رفض اعتناق المسيحية رسميّاً تضامناً مع بني جلدته وما كانوا يتعرّضون له من موجة معاداة الساميّة التي وصل بها هتلر إلى الذروة في زمن برغسون. فكلّها عوامل مؤثّرة بل وحاسمة ويصعب أن تُفهم فلسفة برغسون بمعزلٍ عنها!!

والملاحظ كذلك أن الباحث فنقال نادراً ما يعود إلى مؤلّفات برغسون بلغتها الأصلية بل يكتفي باعتماد ترجمة عربية لكتاب واحد ووحيد من كتبه: “منبعا الأخلاق والدين” إضافة إلى دراسات عربية أو معرّبة عنه، وهكذا فمكتبة بحثه مقصورة في الغالب على مراجع جانبيّة دون الأصول المصادر!!

ويكتفي الباحث بهذا التعريف (ص171): “يُعتَبر هنري برغسون فيلسوف الطاقة الروحية ناراً على علم في أفق فلسفة ما بعد الحداثة. لقد انبثقت البرغسونية في عصر تزعزع يقين البشرية بالحداثة فخيّبت الآمال في تحقيق السعادة الكبرى التي بشّر بها التنويريّون وحلم بها النهضويّون منذ سنين بعيدة، ليجد الفرد المعاصر نفسه تحت سلطان الآلة والحروب المعاصرة التي تفتقد أدنى قيَم الإنسانية”.

وبرغسون فيلسوف صوفي وفيلسوف التصوّف بامتياز. ينقل الباحث عنه قوله (ص174): “إنّنا نعترف أن الخبرة الصوفية بذاتها قد تحمل للفيلسوف اليقين التامّ”. ويعقّب فنقال على “اعتراف” برغسون كما يلي: “الفيلسوف وحده من يستطيع تحليل النصوص الصوفية وفكّ رموزها وإيصال معناها العميق للمجتمعات المعاصرة، فيحوّلها من لغة شعرية فنّية ورموز وإشارات مبهمة إلى تجربة حيويّة فذّة تعود بالنفع على الإنسانية جمعاء”.

وبشأن هذه التجربة يشرح الباحث نقلاً عن زكريا إبراهيم (ص183): “يرى برغسون أن التجربة الصوفية هي السبيل الأوحد لحلّ مشكلة معرفة الله، لأنّ هذه التجربة وحدها تمدّنا بحقيقة احتمالية مهمّة يمكن أن نضيفها إلى سلسلة أخرى من الاحتمالات السابقة. فالتجربة الصوفية القائمة على الحدس الصوفي هي السبيل الأوحد لتكملة تلك النظرات الميتافيزيقية الناقصة التي سبق أن توصّلنا إليها في التطوّر الخلّاق”.

وبرغسون صوفي حتى في تحديده للدين وعيشه له. ينقل عنه الباحث (ص193) من كتابه منبعا الأخلاق والدين قوله: “نحن نرى أن الدين هو ما صبّته الصوفيّة حارّاً في الأنفس الإنسانية ثم يبرد تبريداً منظّماً، حتى يتبلور. وبهذا الدين يستطيع الجميع أن ينالوا شيئاً قليلاً ممّا كان يتمتّع به بعض الممتازين تمتّعاً تامّاً”.

وتبقى شخصية المسيح بالنسبة إلى برغسون قطب الصوفية ليس في المسيحية وحسب بل وفي سائر تقاليد التصوّف، إذ رأى أنّه (ص182): “مهما قيل عن المسيح وعن طبيعته وعن مصدره فإن الصوفيين ينتمون إليه جميعاً”. ولنا ولآخرين بحوث آنفة تلتقي مع مقولة برغسون هذه وتبيّن أن المسيح هو النموذج الأمثل للكائن النفيس في التصوّف الإسلامي” (صليبا، لويس، المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم، ط1، 2022، ص282-285).

ويرى برغسون في هذا السياق أن (ص194): “صوفيّة الصوفيين المسيحيين هي الصوفية الفعّالة القادرة على أن تغزو العالم”. أمّا بشأن اليهودية دين آبائه وأجداده فيقول: “لم يكن بين إسرائيل وإلهه من الودّ ما يجعل من اليهودية صوفيّة على نحو ما نفهمها”.

وفي الكتاب بحوث أخرى عديدة يحول دون عرضها ومناقشتها ضيق المجال. وهو في أيّة حال مساهمة مفيدة في نطاق علوم الأديان تأتي من المغرب العربي وعساه تتلوها أخريات.

شاهد أيضاً

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its prevention.

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *