1-“لبنان ومسألة الشرق الأوسط”
مقالة صدرت في مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن، عدد أيلول 2023
“لبنان ومسألة الشرق الأوسط” تأليف المؤرخ كمال الصليبي (1929-2011)، نقله عن الإنكليزية محمود شريح، صدر مؤخّراً عن دار نلسن/بيروت في 47+39ص.
يواصل الكاتب والناشر النشيط سليمان بختي في هذا الكتاب اهتمامه وعنايته بتراث صديقه وأستاذه كمال الصليبي، وهو الذي رافقه ردحاً طويلاً من الزمن واعتنى به في أيّامه الأخيرة ونقله إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت إثر وقوعه في غيبوبة أدّت إلى وفاته في 1/9/2011. وقد أصدرت دار نلسن للصليبي وعنه عشرات الكتب آخرها هذا.
ونتاج هذا المؤرّخ اللبناني غزير، فإضافة إلى كتبه العديدة وكما يقول دارسه المستشرق مايكل بروفنس: “كتب الصليبي عشرات الدراسات المهمّة خلال حياته المهنية الطويلة، وكان فخوراً بها كلّها، وما زال كثيرٌ منها دفين أعمال مؤتمرات نفدت منذ زمن، وسوف يحظى الباحث الذي يعثر عليها صدفة أو قصداً بكنزٍ ثمين” (كمال الصليبي: الإنسان، م. س، ص56).
وما هذه الدراسة سوى واحدة من نفائس هذا الكنز. وعنها يقول معرّبها محمود شريح (ص5): “إنها ورقة استشرافية سعى فيها صاحبها إلى رصد حركة تاريخ لبنان الحديث”
ويشطح شريح بعيداً ويسرف في كيل المدائح لأستاذه الصليبي، فيقول عنه خاتماً (ص7): “هو الذي غيّر إلى الأبد مسار الدراسات التوراتية في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” وهو الذي قلب مفاهيم التاريخ وأساليب تدوينه في بلاد الشام والجزيرة العربية”.
والمبالغة في الثناء هي بالحري ذمّ في معرض المدح!
وننتقل إلى نصّ دراسة الصليبي عينها وقد كتبها في أيّار 1988، والملاحظة الأولى التي تبدو للعيان أنها خالية تماماً من أيّة هوامش. إنها طريقة درج عليها مؤرّخنا واعتمدها في العديد من مؤلّفاته وتوّجها بكتابه بيت بمنازل كثيرة!!
يعتبر مؤرّخنا حرب لبنان أهليّة بالأساس (ص10): “وبالتأكيد فإن ما يجري في لبنان منذ العام 1975 لهو أساساً حرب أهليّة مرتبطة بنزاع بين اللبنانيين أنفسهم، وبدا ذلك أوضح من ذي قبل منذ 1982 حين انتفت فعليّاً المشاركة الفلسطينية في النزاعات الداخليّة”. وهو يرفض تعبيراً راج خلال هذه الحرب (ص11): “إذا كانت “حروب الآخرين” هذه لا علاقة لها فعليّاً بلبنان، فلماذا إذاً حوربت على أرض لبنان؟”
وفي تَفليته لأسباب الحرب وجذورها وتفحّصها يعود الصليبي إلى نقطة البداية أي إعلان لبنان الكبير، فمذّاك ابتدأ ما عُرف بالتوازنات السياسيّة (ص12): “هذا البلد اليوم بتوازي سكّانه بين مسيحيين ومسلمين من حيث تكافؤ النفوذ السياسي تقريباً، وليس حجماً سكّانيّاً، شكّلته فرنسا دولة مستقلّة سنة 1920”.
بيد أن هذا الكيان نشأ على خلافٍ بين مكوّنَيه طال الهويّة وسائر ما تقوم عليه الدول والأوطان (ص12): “لكن مشروع الدولة اللبنانية هذا كان أساساً تصوّر مسيحييّ البلد، وتحديداً الطائفة المارونية (…) وحين ازداد وضوحاً أن لبنان باقٍ رضي المسلمون بمعظمهم، وإن على مضض، بلبنان على أنّه دولة وظيفية، وليس على أنّه الدولة/الأمّة كما شاء له أن يكون المسيحيّون”.
وهذه البنية الثنائية المتضاربة والهشّة أتاحت للآخرين، ولا سيما العرب، تصدير نزاعاتهم إلى الوطن الصغير وخوضها على ساحته (ص16): “ولأن ذلك لم يكن متاحاً في أي مكان آخر في العالم العربي، لم يكن بالمستطاع حصر الساحة اللبنانية بالنقاش الحرّ لقضايا محلّية، بل تحوّلت تدريجيّاً إلى بؤرة صراع إقليمي لقضايا لم يكن متاحاً لها نقاشها أو محاربتها في مواطنها الأصليّة”.
وهذا الدور العربي الملتبس أو المتورّط، بل حتى المسبِّب للصراع لا يفوت الصليبي التركيز عليه، وهو يذكر بصراحة وجرأة أن (ص23-24): “بعض القيادات والأطراف العربية (…) وجّهوا معظم جهودهم باتّجاه زعزعة لبنان، ممعنين في رصد استثمارات هائلة في ساحة العروبة لصالح المعارضة الإسلامية في البلاد”.
وهذه الزعزعة لم يكن الوجود الفلسطيني في لبنان بمنأى عنها، بل بالحري كان على رأس الفاعلين فيها (ص30): “إن الثورة الفلسطينية كانت في موقع خوّلها تبنّي العروبة لإحداث زعزعة في الدول العربية القائمة متى وجدت أن ذلك في مصلحتها، فيما بقيت هي بمنأى عن الزعزعة بفضل استقلاليّتها. ولبعض الوقت فإن الأنظمة [العربية] ذات السيادة هذه كانت مضطّرة إلى الإذعان لهذه الثورة والمضي في مدّها بالدعم، وفي الوقت عينه فإن هذه الدول رأت في هذه الثورة خطراً جدّياً لا بدّ من احتوائه كاملاً، والأفضل تدميره في أوّل فرصة”.
وهكذا بدا وكأن هذه الأنظمة أصابت عصفورَين بحجر واحد في سعيها إلى تفجير الساحة اللبنانية: 1-ضرب النظام الديموقراطي في لبنان 2-وضرب الثورة الفلسطينية في آن (ص31): “وعلى النقيض ممّا كان ظاهراً فإن ذلك وضع الثورة الفلسطينية في خانة واحدة مع لبنان البلد العربي الذي أفلحت الثورة الفلسطينية في زعزعته. ذلك أن الأطراف العربية نفسها التي عمدت إلى تدمير لبنان على أنّه مجتمع منفتح يهدّد سياساتهم لهي الأطراف العربية نفسها التي عمدت إلى تدمير الثورة الفلسطينية على أنّها التجسيد الأسمى لحتمية العروبة الفعلية التي أودت بمصالحهم الرخيصة “.
وهذا الفخّ اللبناني الذي وقعت فيه منظمة التحرير مهّد لدول عربية أخرى أن تنقضّ عليها خوفاً من تكرار تجربة لبنان على أرضها (ص31-32): “ركّزت الثورة الفلسطينية وجودها في لبنان على أنّها دولة داخل دولة وبدعم إسلامي عريض. وما أن تمّ ذلك حتى أصبح من السهل احتواء الثورة الفلسطينية أو تصفيتها في دول عربية أخرى. كما أن ذلك أدّى إلى وضع الثورة الفلسطينية والمجتمع المنفتح في لبنان وأثره المقلِق في زاوية واحدة، بانتظار البرهة الحاسمة بحيث يجري تدمير الاثنين معاً”.
بيد أن الصليبي لا يصوّر المشهد اللبناني بالألوان القاتمة والسوداء حصراً، ففي كلّ ظلمة بصيص نور، وهو يخلص إلى (ص33-34): “يمكن القول ببساطة إن المسلمين في لبنان استفاقوا لوعي لبنانيّتهم نتيجة لتصلّب الفلسطينيين عادة في تعاطيهم مع حلفائهم العرب السياسييّن”.
يرسم الصليبي في دراسته هذه لوحة متكاملة للوضع في لبنان وأسباب الحرب وجذورها، وبديهيّ القول إنه رأي واجتهاد تحليلي ومألفي Synthétique تاريخي وسياسي يوافقه بعضهم عليه ويعارضه آخرون. وهو الذي أشار في “بيت بمنازل كثيرة” إلى أن الصواب والخطأ في التحليل التاريخي مسألة تبقى نسبية، وطرح السؤال العويص: “هل يمكن أن يكون كلا طرفَي الحرب على تاريخ لبنان مخطئاً، وأن الحقيقة التاريخية تكمن في مكانٍ آخر؟ أم أن كلا الطرفَين محقّ، لكنهما كانا ينظران إلى الحقيقة التاريخية ذاتها من زاويتَين مختلفتَين؟ وفي كلتا الحالتَين هل هناك ما يدعى حقيقة تاريخية مطلقة في ما يتعلّق بالمسألة التي نحن بصددها؟”.
وأردف فحذّر من أن يكون الوطن الصغير بفرقائه المتنازعين قد دخل في حلقة من الصراع لا نهاية لها: “هل هناك رابحون وخاسرون أم إنها لعبة لا نهاية لها، ولا يمكن لأيّ طرفٍ أن يفوز بها أو يخسرها”.
ودعا من ناحيته وفي الكتاب عينه إلى: “حملة تنظيف عامّة في بيوت العناكب”، ويقصد بذلك الرؤى التاريخية المختلفة للطوائف وضرورة التصالح مع حقائق تاريخها كما هي.
وهذه الدعوة الملحّة والمتكرّرة إلى المصالحة مع تاريخنا نرى من ناحيتنا أنّها أبرز إسهامات الصليبي في تفكّره في تاريخ لبنان، وتصدّيه للنزعة التوفيقية والتلفيقية في النظر إلى هذا التاريخ يأتي في محلّه. فهي إضافة إلى أنّها غير مجدية لا تكتفي بتدوير الزوايا وحسب، بل تموّه الحقائق وتزيّفها. ولا بقاء لكلّ ما بان زيفه. يقول في كتابه “الحوار الأخير” الآنف الذكر (ص98): “التاريخ المتّفق عليه ليس تاريخاً بالمعنى الصحيح، لأن الاتّفاق على قولٍ معيّن دون غيره يتنافى مع حرّية التحرّي والفهم والإدراك التي هي في أساس موضوع التاريخ”.
وكأنّي بالصليبي يقول لنا: ليس المطلوب أن نتّفق على تاريخنا، فذلك أمر عسير إن لم يكن مستحيلاً، بل بالحري أن نتصالح معه، أن ننظر إليه بعين القبول فما جرى قد جرى ولنأخذ العبرة منه عوض أن نحوّره ونزيّفه.
وبالتالي فمساعي توحيد كتاب التاريخ المدرسي التي فشلت حتى اليوم ليست غير مجدية وحسب، بل من شأنها أن تعيد تأجيج الصراع!
ومرّة أخرى نتعلّم من كمال الصليبي المؤرّخ كيف نفكّر بتاريخ لبنان ونتعامل معه بما من شأنه أن يساعد في الخروج من المأزق المزمن.