مراجعة لـ”القسم الثاني من المجموعة الكاملة لشاعر الكورة الخضراء”، بقلم لويس صليبا
“عبدالله شحاده شاعر الكورة الخضراء: المجموعة الكاملة” في القسم الثاني صدرت عن منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي في ستّة مجلّدات فاخرة مع علبة.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن، عدد آب 2023
ونتوقّف مستقرئين نصوص المجلّد الثالث من هذه المجموعة القيّمة، وقد طغى النثر عليه رغم أن الشعر لم يغب. وشاعر الكورة، يلوح لنا إثر مطالعتنا لمجموعته، هو في النثر الفنّي أشدّ براعةً منه في القريض.
وأوّل ما يستوقفنا يوميّات في السجن (ص197-261) كتبها الشاعر بعد أن حُبس مدّة أسبوعَين (من صباح 2/1/1962 إلى مساء 17/1/1962) إثر الانقلاب الذي قام به الحزب القومي في 30/12/1961. وهي بلا ريب وثيقة أدبية تاريخيّة قيّمة تروي بعضاً من تداعيات حدثٍ هزّ لبنان من أقصاه إلى أقصاه، وكاد يطيحُ بنظامه وجمهوريّته. وهي كذلك نمطٌ راقٍ ممّا يُعرف بالعربية ب “أدب السجون”. وشحاده روى بواقعية مفعمة بالألم والمعاناة والحسرة ما كابده وقاساه في سجنٍ غصّ بالوافدين إليه وتجاوز عددهم ما يستطيع أن يستوعب.
القاووش كلمة تركية وتعني زنزانة أو غرفة كبيرة معدّة للسجناء (الهادي في الألفاظ العامّية، م. س، ص214). وحال السجون في لبنان كانت يومها تعيسة، وغير معدّة كي تضمّ هذا العدد المرتفع من المتّهمين إثر ذاك الانقلاب الخطير. بيد أن المأساة الحقيقية تكمن في أنّها، ومنذ ستين سنة، لمّا تزل على هذه الحال، إن لم تكن قد تراجعت من سيّئ إلى أسوأ!
وشحاده يكتب وكأنه يغمس قلمه بمدادٍ من جرح القلب. واقعيّته صرخة وجعٍ صادقة تبقى البلاغة والكلمة المنمّقة أداتها. ففي وصف ليلته الأولى في السجن، بعد أن طيّر القلق من مقلتَيه النوم، والمثل اللبناني يقول: “تلاتة ما بيناموا الجيعان والبردان والقلقان”. نقرأ له (ص213): “نام الجميع كما تنام الماشية في حظيرة ضيّقة تحرسها الذئاب، وأنا ساهر في زاويتي أتأمّل وأتألّم وأفكّر في هذا البلد المنكوب بأهله. بلد “موزاييك” الأديان والعادات والتقاليد والسياسات الخرقاء”.
ويمضي شحادة واصفاً فيرى في نوم المساجين صورة حيّة ومعبّرة عن حالة وطنه فيقول: “البلد الذي رأيته بأمّ العين، ولمسته بكلتا اليدين، في شخير النائمين البائسين، وأنفاس الراقدين المتعبين. وسمعتُ شتّى أنواع سمفونيّات الشهيق والزفير، من تنفّس الصعداء إلى خفق عشواء، ومن نخير بعير إلى شجيّ نغير، ومن غطيط مخمور إلى نشيج قُدور، ومن هدير طيّارة إلى دويّ سيّارة، ومن قرقرة حمام إلى هدهدة أحلام، ومن غرغرة طويلة إلى كركرة نارجيلة، ومن ألحان نقيق إلى بقبقة غريق، فتمتمة نائم وغمغمة حالم. حتى بدت تباشير الفجر الجديد، وأنا والهمّ في عناق رؤوم، وضمّ حنون، ذابت قوافيه على شفاه معانيه”.
لوحة واقعية يرسمها الكاتب حاشداً لها كمّاً من الأسجاع والطباقات تُظهر درجة عالية من الصنعة، بيد أن موسيقاها الحسنة الوقع تنأى بها عن التصنّع. وهي في كاريكاتوريّتها تذكّر بالمثل العربي القائل: “وشرّ البليّة ما يضحك”.
ويبرع الكاتب في تصوير الوجبة الأولى المقدّمة إلى المساجين (ص215): “وكان الفطور طوال المدّة التي قضيتُها موقوفاً قطعة خبز مدهونة من الخارج لبنة أو دبس خرّوب بمقدار ما تضع الحسناء من الأحمر على شفتَيها”.
لوحة حسّية هي خير تعبير عن الشهوتَين المكبوتتَين!
ونتابع رواية السجين: “وقد نشتمّ في بعض الأصباح رائحة الحلاوة، فنشقّ الخبزة بحثاً عن هذا الغذاء اللذيذ النادر، فنرى في تلافيفها قطعة حلاوة لا تكبر بصمة إبهام اليد، ونحسّ أن هذا العمل قد سبقه تصوير وتصميم لذبح الإباء وإماتة الشمم ودفن العزّة في بطون الجياع”.
ونكتفي بهذا القدر من توصيف حالة السجن والمساجين التعيسة. بيد أن هذه الحالة المزرية لا تخفّف من نرجسية الشاعر، بل لعلّها جعلتها تتفاقم. فهو منذ البداية يتساءل (ص209): “أيضمّ القاووش بين جدرانه الشاعر الناسك البتول، نجيّ الكوخ الأخضر، فتى الكورة الخضراء الذي غنّى لبنانه الحبيب أجمل قصائده”.
وفي ختام اليوميّات نحسّها واضحة، فهو ينقل من وقائع التحقيق معه ما يلي (ص254):
-ما اسمك؟
-الأستاذ عبدالله شحاده من بلدة كوسبا.
-ما فيش أساتذة هنا
والسؤال البديهي هنا هل إن لقب أستاذ جزء لا يتجزّأ من اسم المتّهم؟!
يصرّ الشاعر على ذلك فيجيب المحقّق العسكري وهو برتبة ملازم:
-ولقب أستاذ، مع امتعاضك يا سيّدي من سماعه، يوازي نصف دزّينة نجوم، على أعلى كتفٍ بين عباقرة القوّاد، في أضخم الجيوش وأعظم الدوَل” !!
ونتابع وقائع التحقيق كما دوّنها ورواها المتّهم نفسه. (ص255):
-ألستَ قوميّاً؟
فابتسمتُ مجيباً:
-إذا عنيتَ بالقوميّة اللبنانية، فأنا من جهابذتها وأئمّتها المخلصين. وإذا قصدتَ في سؤالك القوميّة السورية، فأنا من ألدّ أعدائها، ومن أشدّ خصومها المناهضين”.
وهنا سؤال بديهي يطرح: كيف يكون شحاده من ألدّ أعداء القومية السوريّة وهو واضع ما أسماه “نشيد سوريا” (ص1/62-63) الذي سبق تحليله وفيه يجعل حدودها من جبال طوروس إلى الحجاز؟!
ويختم شاعر الكورة يوميّات القاووش بسؤال وجّهه إليه المحقّق وبقي من دون جواب: (ص259): -من تظنّ أدرج اسمك في لائحة القوميّين؟
وهل نستغرب أن يُدرَج اسم شاعر وضع “نشيد سوريا” في لائحة كهذه. لا سيما في القرى والبلدات وفيها يكثر القيل والقال والتحاسد والوشايات، وهو القائل (ص3/77): “لكلّ كأسٍ ثمالة، ولكلّ أمّةٍ حُثالة”.
ونجد في المجموعة إشارات أخرى تبيّن تأثر شاعرنا بإيديولوجيا القومية السورية. كمثل قوله عن الشاعر العبّاسي (ص5/102): “أبو تمّام الشاعر السوري”. فلم يسبق لأحدٍ من النقّاد أن وسم أبا تمّام بهذه الصفة!!
وكذلك قوله عن أبي العلاء (ص5/168): المعرّي نابغة سوريا الأوحد”.
أيّاً يكن، ففي زمن الانقلابات تكثر الاعتقالات والتوقيفات وكثيراً ما تشمل المحايدين والمتورّطين في آن. ذلك أن الرؤية تكون ضبابية ويختلط فيها الحابل بالنابل. وتبقى يوميّات شاعر الكورة في القاووش وثيقة قيّمة ونفيسة عن ذاك الحدث الخطير وتداعياته على صعدٍ عديدة ولا سيما الإنسانية منها. وميراي شحادة رئيسة منتدى شاعر الكورة بنشرها هذه اليوميّات المخطوطة قد أسدت للتاريخ اللبناني وللمؤرّخين خدمة جُلّى.
وضمّ المجلّد الثالث تحفة أدبية أخرى. وهي مجموعة شذرات وخواطر دوّنها شاعر الكورة يوميّاً على مدى عامٍ كامل وسمّاها “عام شاعر 1942”. وهي مثل كرم ميخائيل نعيمه الذي على درب، ففيه العنب وفيه الحصرم كذلك. ومن حبّات عام الشاعر وخصلاته “المستوية” انتقينا بعضاً ممّا استوقفنا لنتبصّر في أبعاده ومعانيه.
يقول (ص76): “أنا في دنيا هوايَ طائرٌ ذو جناحَين، بيد أن حسد جناحٍ لآخر يعيقُني عن التحليق في سماء الأماني”.
تضادّ وصراع داخلي بين مختلف قوى النفس وهو ما يعاني منه معظم الناس، ففي داخل كلّ امرئ الشيء ونقيضه، أو بالتعبير الصوفي: نفسه من ناحية ونفسه الأمّارة بالسوء من ناحية أخرى، والشعراء لرهافة حسّهم هم أكثرنا تنبّهاً لهذا الصراع الداخلي ومعاناة منه! يقول جبران في رمل وزبد: “أنا اللهيب وأنا الهشيم اليابس، وبعضي يأكل بعضي. فهلّا حوّلتَ وجهكَ عنّي كي لا يعميك دخاني” (جبران، المجموعة الكاملة المعرّبة، بيروت، 1964، ص184).
وشاعر الكورة يعود مراراً إلى تصوير هذا الصراع وبأساليب وألوان شتّى ومتنوّعة كمثل قوله (ص29): “دخل الشيطان إلى قلبي سبع مرّات ضاحكاً، ولكنه خرج في المرّة السابعة باكياً منتحباً”.
والعدد سبعة يرمز غالباً إلى اللامتناهي كمثل أن تقول: في هذا الرجل أو المرأة “سبعة شياطين”.
“لكلّ جسمٍ ظلّ، ولكلّ حقيقةٍ خيال” (ص80). تذكّرني هذه المقولة للوهلة الأولى بنظرية الوهم Maya في الفيدانتا، فهل إنّنا لا نرى من الحقيقة سوى ظلّها وخيالها؟! أيّاً يكن فهي حكمة “جبرانية” بامتياز، وفي خواطر شاعر الكورة لفحات عديدة من رمل نابغة المهجر وزبده. كمثل قوله (ص60): “بين الشاعر والبحر سرّ لا يدركه إلا القمر، لأنّ منه مدّ البحر وجزره، وفيض الشعر وجفافه”.
إنها لوحة أتقن شاعر الكورة رسمها وتلوينها.
والخلاصة العامّة فهذه المجموعة الفاخرة والقيّمة حدثٌ ثقافي بحدّ ذاته، لا سيما في بلدٍ أكثر تراثه الفكري ضائع وأسير الأدراج وعُرضة بل فريسة للإهمال والفقدان. وميراي شحادة هي حقّاً مثال للأبناء البررة وحافظي تراث الآباء وناشريه.
وليتها تكون أسوة لكثير من أبناء الأدباء والمبدعين، فيولوا إرث آبائهم الفكري بعضاً ممّا يستحقّ من اهتمام ويُخرجوه من غياهب النسيان وينشروه بين الناس.