مراجعة لكتاب فريدريك معتوق “سوسيولوجيا الحضارة الكنعانيّة-الفينيقية“/منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد تشرين الأوّل 2021
“سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية-الفينيقية” تأليف فريدريك معتوق، صدر عن منتدى المعارف/بيروت في 255ص وتجليد فاخر.
بحث مميّز أكاديمي ومشوّق في آن. يغوص إلى جذور تقاليدنا ومعتقداتنا وموروثنا الثقافي عموماً ليدرس مجتمع أسلافنا على هذه الأرض الطيّبة الكنعانيين-الفينيقيين بمختلف مقوّماته الاقتصادية والدينية والسياسية والصحّية وغيرها. ورغم ندرة المصادر أصرّ المؤلّف وعالم الاجتماع أن يركب هذا المركب الصعب، ويقول في ذلك (ص13): “المصدر الأهمّ في هذا المجال الحياتي اليومي يكمن في محتويات المقابر والمغاور المدفنيّة”. ويتابع موضحاً (ص14): “وهكذا نكون قد توصّلنا ممّا يبدو في الأصل لا شيء إلى معلومات دقيقة ومتنوّعة لمعطيات حياتية مفيدة جدّاً لرسم معالم الحياة المادّية واليوميّة”
وفي هذا تحديداً تكمن جدّة دراسته. إذ استند على بحوث ومكتشفات علماء الآثار الأخيرة ونتائج تنقيباتهم في الأماكن التي عرفت حضوراً فينيقيّاً، ليرسم صورة شبه متكاملة عن مجتمعهم بمختلف مكوّناته وأبعاده. فعن نظامهم السياسي يقول (ص30): “إن الفينيقيين شكّلوا كونفدرالية تجّار أكثر ممّا شكّلوا بلداً ذا حدود جغرافيّة محدّدة” ويتابع ناقلاً عن المؤرّخ مايكل مان (ص31): “كانت فينيقيا قوّة عظمى على مدى خمسة قرون، وحضارة لامركزية متعدّدة القوى-الفاعليّات”. ويخلص إلى أن فينيقيا (ص32): “كانت موحّدة من غير أن تكون واحدة”. والعامل الأساسي الذي كان يوحّد هذه المدن هو اللغة الواحدة (ص33): “أما عنصر اللُحمة الأهمّ في معادلة هذه الحضارة اللامركزية فيكمن في الثقافة اللغوية”. وهذه الفدرالية اللامركزية كانت عنصر قوّة لا ضعف، يتابع معتوق تحليله السوسيوتاريخي (ص35): “لم ينكسر الفينيقيّون طوال ألفيّة كاملة من الزمن، رغم قلّة عدد شعبهم، لأنّهم أوجدوا الحلّ في دولتهم اللامركزية”.
ومقارنة بجيرانهم وسائر الشعوب عُرف الفينيقيّون بانفتاحهم ونظرتهم إلى الآخر كندّ ومساوٍ (ص36): “ينشأ الفينيقي التاجر وينشّئ أولاده على التعامل السويّ مع كلّ الناس. أمّا المحارب الإغريقي فيميل إلى تنميط الآخر ووضعه مسبقاً في مرتبة دونيّة”
ويدرس الباحث بُنية الأسرة الفينيقية، فيتبيّن له من خلال المكتشفات الأركيولوجية المدفنية (ص95): “كان الزواج الأحادي شكل الزواج المعتمد على نحو عامّ، حيث إن المقابر غالباً ما تضمّ الهياكل العظمية العائدة للزوجين”. وجاء ترابط الأسرة نتيجة لهذا النمط من الزواج: “لا نستطيع أن نعثر حتى اليوم على وثيقة، ولو في المصادر الإغريقية أو الرومانية، تشير إلى تعدّد الزوجات عند الفينيقيين، ما يعني أن تماسك الأسرة الذي سيشار إليه في غير مصدر يقوم في الأساس على الزواج الأحادي، مصدر اللُحمة العائلية الأوّل”.
وأظهرت المكتشفات الأركيولوجية أن المدافن كانت محازية تماماً للمنازل بل تابعة لها، ممّا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الماورائية (ص94): “كانت مساحة السكن تضمّ في حيّزها المباشر مساحة الدفن. هذا ما تشير إليه آثار مدينة جبيل القديمة حيث كان المتوفّى يُدفَن بداية في الحديقة الكائنة خلف المنزل، حيث التواصل تامّ بين البيت الدنيوي والبيت الأزلي. وهذا ما يشير إلى رغبة أهل البيت بالاحتفاظ بموتاهم مكانيّاً ومادّياً”.
ولا تُفهم هذه الظاهرة المعمارية اللافتة إلا على ضوء عقيدة الفينيقيين في الحياة بعد الموت (ص96): “قام مفهوم البيت الأزلي على معتقد أساس هو أن الموت إنّما ينال من النفس، لا من الروح. فعندما يموت الإنسان تغادره نفْسه المرتبطة مادّياً بنفَسه، أي بقدرته على ممارسة التنفّس الذي إذا انقطع تتوقّف معه الحياة. لكن ما يتوقّف هو حياة الجسد، فتتابع الروح حياتها المستقلّة بعد ذاك”
وتميّز الفينيقيّون بانفتاحهم الديني وبعدهم عن التعصّب وذلك رغم أنّهم كانوا مفعمين بالإيمان (ص153): “اعتمد الكنعانيّون في تعاملهم مع فكرة الدين موقفاً فلسفيّاً نطلق عليه اليوم تسمية التوفيقية بين الأديان Syncrétisme ومارسوا هذا النهج التوفيقي مع أصدقائهم كما مع أعدائهم. فلم تشكّل عمليات التقريب الرمزي بين الآلهة أي مشكلة عندهم ولا عند الإغريق خلافاً لما حصل عند العبرانيين والفراعنة”.
والخلاصة فهو كتاب يجمع بين الفائدة والمتعة، ولا غنى عنه لكلّ لبناني يودّ أن يعرف تاريخه القديم ويستعبر منه ليومه وغده.