الأستاذ الياس عازار وطريقته المميّزة في مقاربة تاريخ لبنان وتدريسه/بقلم أ. د. لويس صليبا

الأستاذ الياس عازار وطريقته المميّزة في مقاربة تاريخ لبنان وتدريسه/بقلم أ. د. لويس صليبا

الأستاذ الياس عازار في السبعينات من القرن 20

الأستاذ إلياس عازار يعطي درساً في مدرسة الفرير ماريست/جبيل

الأستاذ الياس بديع عازار (1942-2021)

وسام المعلّم للأستاذ الياس عازار 4 /6 /2010

   

ومن أساتذة تلك السنة في الصف الخامس (1974-1975) وسائر سنوات المرحلة التكميلية والذي كان له أثر بالغ في نشأتي أستاذ التاريخ والجغرافيا الياس عازار([1])، وهو من بلدة جدّايل/قضاء جبيل. “شببلكي”، محبّ للأناقة، وكان غالباً ما يأتينا بأناقة ملحوظة: بدلة وكرافات، وهو ذو قوامٍ ممشوق ووجهٍ مشرق تعلوه غالباً ابتسامة محبّبة. فألّف له التلامذة في عيد المعلّم بيتَين من الزجل:

وبساعة إستاذ عازار         فوضى وحكي وزقّ خبار

روح قصّلّك شي بدلة        وعَ جدّايل روح مشوار.

وفي هذين البيتَين مبالغة واضحة. إذ كان أكثرنا يصغي إليه باهتمام، ولا سيما في عرضه لتاريخ لبنان، وميّزات جغرافيّته. وكانت ساعة الياس عازار التدريسية بالأحرى ساعة استرخاء ومتابعة في الوقت عينه، إذ عرف أن يعلّمنا التاريخ بأسلوبٍ روائي جذّاب يجمع المفيد إلى الممتع، ولا تفوته الفكاهة والنكتة حيث يجب.

وكان الأستاذ الياس عازار يعتمد، كي يهدّئ الصفّ ويعالج تفاقم الثرثرة والثرثارين، حيلة حاذقة، وتقضي بأن يختار غالباً للتسميع، أي الامتحان الشفهي الأسبوعي الذي يجريه قبل أن يبدأ بدرسٍ جديد، التلامذة الأكثر ثرثرة:

-إنت هينيك، قوم سمّع بدل ما تحكي. إذا عندك شي تقولو قلّنا ياه لنا. شو بتعرف عن: (الموضوع الفلاني).

هذا ما كان يبادر به، وبلهجته القروية المحبّبة، من يتحدّث إلى رفيقه، أو يثير بعضاً من “الطيشرة”([2]) في الصفّ، ويشتّت بالتالي انتباه سائر رفاقه. وغالباً ما كانت حيلته الذكية هذه تنجح في جعل الكثير من الثرثارين يقلعون عن هذه “الخَصلة”([3]) أي العادة السيئة، أو أقلّه يحذرون ويقتصدون في ممارستها. و”الّلي فيه خصلة صعبة يغيّرها” يقول المثل اللبناني.

ومن ذكرياتنا عن تسميعات الأستاذ عازار وامتحاناته الشفهية و”سعدنات” التلامذة أنّه كان يسمّع مرّة لواحدٍ منهم، وكان هذا الأخير يتأتئ([4]) بعض الشيء في حكيه، وكان مقعده مباشرة خلف مقعد زميله بشارة مونّس، ففتح له هذا الأخير كتاب التاريخ ليتيح له أن يقرأ عوض أن يسمّع الدرس عن ظهر قلب. ورغم ذلك “علّق الديسك” مع هذا التلميذ، وطفق يقرأ:

-وكان المصريّون القدامى، ثم يعيد الجملة عينها: وكان المصريّون القدامى.

فعِيلَ صبرُ الأستاذ الياس عازار، وصرخ به:

-قعود يا فلَيس([5])، هلّق بفرجيك عند بيّك. إنه يسألني دوماً عنّك. سأقول له أعطتيه أسهل سؤال ولم يعرف أن يردّ عليه.

وعندها مدّ بشارة مونّس يده، وسحب الكتاب من وراء ظهره، وبادر المعلّم قائلاً:

-يا أستاذ الياس كان يقرأ، وأنت لم تدعه يقرأ. فإذا كان يقرأ وأنت صرختَ به قائلاً غلط، فكيف لو عرفتَ أنّه لم يحفظ شيئاً من الدرس؟!

وهنا ضحك الصفّ بأسره، ولم يتمالك الأستاذ عازار نفسه عندها، وضحك مع الضاحكين.

وقد حبّبني هذا الأستاذ المميّز بمادّة التاريخ، وقد علّمناها أربع سنوات متتالية. وبقي التاريخ إلى اليوم من الموادّ المفضّلة لديّ، وإنّني بلا ريب مدينٌ له بشيء من ذلك، فإطلالتي الأولى على التاريخ كانت في ظلّه وتحت إشرافه. وفي جولةٍ على دفاتر العلامات في السنوات التكميلية الأربع يتبيّن أن علامتي في مادّة التاريخ كانت غالباً 20/20، وهي في أسوأ حال لم تنزل عن 18/20.

وكان الياس عازار محِبّاً لنهج الرئيس اللواء فؤاد شهاب (1958-1964) في الحكم، ويعتبره بوصلة التوازن والاعتدال في حكم لبنان، وإنشاء دولة الاستقلال والمؤسّسات. وكان يدافع دوماً عنه وعن خياراته، ممّا كان يثير حفيظة بعض التلامذة من محبّي الكتلة الوطنية والعميد ريمون إده أمثال بشارة مونّس، فكانوا يعارضون ما يقول، ذاكرين ممارسات المكتب الثاني وتدخّلاته في الانتخابات لدعم المرشّحين الموالين للنهج، وكان جواب الأستاذ الياس عازار على ذلك:

-أي رئيس جمهورية يحتاج، كي يحكم، إلى أكثرية نيابية مؤيّدة وداعمة له، وما كان بشارة مونّس ورفاقه ليقتنعوا بحجّة كهذه. فكان الياس عازار يضيف:

-نُكّل بضبّاط المكتب الثاني، وحوكموا، وشفنا (رأَينا) شو كانت النتيجة: فلت الملقّ، وفقدت الدولة السيطرة على الوضع، واشتعلت الحرب في لبنان.

ومنعاً لإطالة الجدل كان الأستاذ عازار غالباً ما يجيب على المعترض بنبرته المازحة:

-سكوت يا “فليس”، شو فهّمك بالسياسة.

فنضحك على تعبيره هذا، وطريقته في ترداده. أيّاً يكن كان ذلك حواراً سياسيّاً راقياً وديموقراطيّاً بين أستاذٍ وتلامذته يظهّر التنوّع، ويطرح إشكالية موقع لبنان ودوره في محيطه أمام جيلٍ فتيّ ناشئ بدأ يفتح عينيه على معضلات وطنه.

وكان الياس عازار يطلب منّا أن نزيّح (نضع خطّاً) تحت ما يجب درسه وحفظه في كتاب التاريخ. وكان يكرّر دوماً على مسامعنا أن التاريخ يجب أن يكون مادّة منجّحة لنا وليس مادّة مرسّبة. وكانت غالبية التلامذة من الناجحين في هذه المادّة، لا سيما وأن لأستاذها كاريسما خاصّة ومحبّبة. ومّما أذكر في هذا الصدد أن زميلي وصديقي أنطوان قسطنطين الذي ترافقتُ وإيّاه من الصف التاسع 9éme، وحتى السنة الجامعية الرابعة في كلّية الإعلام، كان يقول لي قبل مسابقة التاريخ عند الأستاذ الياس عازار:

-إذا علّقت، إنتَ قلّي أوّل كلمتين تلاتي من الجواب، واتركلي الباقي.

وهكذا كنتُ أهمس له بالكلمات الأولى وهو “يكرج”([6]) الباقي كرجاً. وكان من البارعين في مادّة التاريخ.

وممّا أذكره عن الأستاذ إلياس عازار، أن أحد التلامذة، وكنّا في الصفّ الثالث 3ème  (1976-1977)، اخترع له قصّة مفادها أنّه كان مغرماً بامرأة تكبره سنّاً، ومتزوّجة. وكتب له رسالة مفصّلة وغُفل (غير موقّعة) يسأله فيها حلّاً لورطته هذه وللمشكلة التي يعاني منها، وتمنعه من المواظبة على دروسه. فقرأ الأستاذ عازار الرسالة في الصفّ، وطفق ينصح السائل المجهول هذا، ويطرح عليه الحلول، وطفقنا نناقشه في ما يطرح، وكنّا حديثي عهد بمشاكل الحبّ والغرام! حتى طارت ساعة الدرس برمّتها!!

وما درينا، ولا اشتلق([7]) الأستاذ أنّها لعبة من ألعاب “المحكشون”([8]) طوني خوري. ولم نعرف من كتب هذه الرسالة إلا لاحقاً، وبعد أن طرح مشكلته المزعومة هذه على أستاذ اللغة العربية وغيره من الأساتذة.

والخلاصة فالياس عازار كان نموذجاً للبناني المنفتح والمثقّف والمسيحي المعتدل والموقن بأن لا حياة للبنان ولا استمرارية له إلا بانسجامه مع محيطه العربي، والمعلّم الأنيق والخلوق الودود والذي ينشّئ تلامذته على عاطفة وطنية صحيحة وصادقة، ويحبّبهم بتاريخ وطنهم على ما فيه من صراعات، وبميّزاته الجغرافية وبدوره، فيركّز على ما فيه من جوانب حواريّة وبنّاءة. رحم الله هذا الجيل من الأساتذة والمربّين، وليته يكون إسوةً لكثير من أساتذة التاريخ اليوم، لا سيما وأن الصراع على تاريخ لبنان لا يزال على أشدّه!

[1] -الأستاذ الياس بديع عازار (1942-2021): ولد في قرية جدّايل/قضاء جبيل. تعلّم في المرحلة الابتدائية في مدرسة بلدته، ثم التحق بالتكميلية الرسمية في جبيل، وبعدها بدار المعلّمين في زحلة. وحصل على الإجازة التعليمية في التاريخ من الجامعة اللبنانية/كلّية الآداب، الفرع الثاني، 1980؟. درّس مادّتي التاريخ والجغرافيا في التكميلية الرسمية في جبيل لمدّة سبع سنوات، ثم التحق بالتعليم الثانوي في ثانوية جبيل الرسمية حتى تقاعده. كما درّس هاتين المادّتين في ثانوية مار يوسف/جبيل لمدّة خمس سنوات، وفي ثانوية أنطوني سكول في مستيتا/جبيل. أما مساره التعليمي الأبرز فكان في مدرسة الفرير ماريست/جبيل حيث درّس مادّتي التاريخ والجغرافيا طيلة أربعين عاماً وحتى تقاعده. حاز على وسام المعلّم من رئيس الجمهورية اللبنانية في 4/6/2010، ودرع العطاء من ثانوية جبيل الرسمية في كانون أول 2007. توفّي في آب 2021.

[2] -طيشرة: عامّية تشتُّت وتوزّع وعدم انتباه.

[3] -خصَل: خصَل الولد أي جعل فيه خَصلة أو عادة غير مستحسنة، وانخصل الولد أي تعوّد على ما هو قبيح (فريحة، معجم الألفاظ العامّية، م. س، ص46). وفي الأمثال اللبنانية: إللي فيه خَصلة ما بيغيّرها”.

[4] -تأتأ: نطق بصعوبة وارتباك مسيئاً اللفظ، ومتوقّفاً عند بعض المقاطع يردّد مثل صوت التاء: “تأتأ خوفاً.

[5] – فْليس: عامّية، ولعلّها تصغير فِلس، والفلس جزء من ألف من الدينار في بعض البلدان العربية. وفلس الأرملة كما ورد في الإنجيل مبلغ زهيد من المال. وفْليس تأتي بمعنى لا يساوي أكثر من فلس صغير، وهو تصغير محبّب، وهي من الكلمات التي كان الأستاذ عازار يكثر من استخدامها.

[6] -كرج: الشيء: تدحرج، وكرج في القراءة قرأ بسرعة وسهولة بدون توقّف.

[7] -اشتلق: أرامية الأصل، وتعني: أحسّ وشعر، (خطاب، عبدالفتّاح، الهادي في الألفاظ العامّية تعرّف على أصول ومعاني كلماتك المحكية، بيروت، الدار العربية للعلوم، ط1، 2010، ص25).

[8] -حكش: حرّك، وحكش النار حرّكها ونكتها لتتّقد. (فريحة، م. س، ص36). ومحكشون: من يحرّك ويثير البلبلة ويعيد إثارة المواضيع المقفلة. (خطاب، م. س، ص256).

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *