عنوان الكتاب : تاريخ الفلسفة والعلوم اليهودية في أرض الإسلام
دراسة في تـراث اليهود في الدولة الإسلامية وخصوصاً الأندلس
المؤلّف : د. سليم شعشوع
دكتور في الدراسات الإسلامية واليهودية
عنوان السلسلة :اليهودية بأقلام يهودية
دراسة ومدخل وملحق : د. لويس صليبا
أستاذ وباحث في الدراسات الإسلامية / باريس
عنوان الدراسة : الفلسفة والعلوم اليهودية
جسر تواصل بين العرب والغرب.
عدد الصفحات : 405 ص
سنة الإصدار : 2007
الصف والتنسيق الداخلي: صونيا سبسبي
التجليـد الفنـي : مؤسسة علي حمصي للتجليد.
بيروت – تلفاكس: 546383/01
الناشر : دار ومكتبة بيبليون
طريق المريميين – حي مار بطرس- جبيل/ بيبلوس ، لبنان
Byblion1@gmail.com
2007 – جميع الحقوق محفوظة للناشر
جسر تواصل بين العرب والغرب
تاريخ الفلسفة والعلوم اليهودية في أرض الإسلام
وقد آلينا على أنفسنا، منذ البداية، أن تختص كتب السلسلة هذه بميزتين، على الأقل:
1 – جُدّة الموضوع، بحيث لم يسبق أن خصّص له كتاب منفرد في العربية.
2 – تميّز المقاربة. مقاربة من الداخل. مؤلّفون يهود يتناولون مواضيع في الثقافة والدراسات اليهودية.
وكتابنا هذا يستجيب بامتياز لهذين الشرطين:
الموضوع الجديد وهوية الكاتب. وقد آثرنا له العنوان التالي:
تاريخ الفلسفة والعلوم اليهودية في أرض الإسلام
دراسة في تراث اليهود في الدولة الإسلامية وخصوصاً الأندلس
سنعرّف بداية بالمؤلّف. ثم نبدي بعدها بضعة ملاحظات حول الكتاب: موضوعه، مقاربته وميزاته.
سليم شعشوع مؤلّف الكتاب
مؤلّف الكتاب يهودي عربي. ولد في بغداد. ودرس في معاهدها. وتخرّج من كلية الحقوق في جامعة بغداد عام 1950. ثم هاجر إلى فلسطين المحتلة عام 1951. وسافر في أوآخر الستينات إلى الولايات المتحدة، حيث درس تاريخ الآداب العبرية في القرون الوسطى في جامعة دروبسي في بنسلفانيا. وعام 1971 نال شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية والآداب العربية من جامعة كولومبيا، في نيويورك. كما نال عام 1973 دكتوراه في الحقوق.
وبكلمة، فهو بجمعه في دراساته وأبحاثه بين الآداب العبرية، من ناحية، والآداب العربية والدراسات الإسلامية، من ناحية أخرى، مؤهل للخوض في موضوع التراث اليهودي في الدولة الإسلامية: أي الكتاب الذي بين أيدينا. وهو أول مؤلّفاته بالعربية.
دوافع تأليف الكتاب
العنوان الأصلي الذي اختاره المؤلّف د. سليم شعشوع لكتابه هو:
العصر الذهبي
صفحات من التعاون اليهودي العربي في الأندلس.
والعنوان هذا، وإن كانت دلالته على محتوى الكتاب ضعيفة، فهو يفصح، دون شك والتباس، عن أيديولوجية الكاتب، والفكرة الديماغوجية التي هدف إليها الكتاب.
فسليم شعشوع، وهو اليهودي العربي الأصل، مسكون بفكرة أساسية، لا يتعب من تكرارها من أول الكتاب، في المقدمة، إلى آخره في الخاتمة:
وهي أن العلاقات بين العرب واليهود في الدولة الإسلامية كانت دائماً ودّية. ووصلت إلى أقصى درجات التعاون عبر التاريخ. ولعلّه بذلك يقصد أن يقول أنها كما كانت دائماً علاقة ودّ وتعاون، عبر التاريخ، فهكذا يجب أن تكون اليوم (على أرض فلسطين)، وأن تستمرّ غداً، وفي المستقبل.
هذا الودّ، وذاك التعاون، يغالي شعشعوع أحياناً كثيرة في إظهاره، بل استنتاجه واستنباطه من بعض المؤشرات التاريخية، ليبني عليه أسساً للحاضر والمستقبل. يقول في المقدمة: «هذا التعاون العربي اليهودي، قد وجد منذ فجر التاريخ. ولا زال نجمه يتألّق. ولو كان هذا التألق يخفت حيناً. ويلمع أحياناً».
ويضيف: «وليس أسعد على المرء من أن يستذكر هذا التعاون ويؤكّده. ويتّخذ منه منهجاً، يسير وفقاً له. ليواصل الإضافة على حلقاته التي صاغها آباؤه وأجداده» (ص7).
فمن المقدّمة، يُفهم أن الدعاية Propagande والترويج للتعاون العربي – اليهودي، هو أحد أبرز أهداف هذا الكتاب.
والتعاون هذا، كما أشرنا، يعود شعشوع ليستنتجه من مؤشرات تاريخية بسيطة، يحمّلها أحياناً أكثر مما تحتمل، لتأتي شاهداً وبرهاناً على فكرته الأيديولوجية هذه.
يتوقف مثلاً عند ظاهرة إتخاذ عدد من الكتّاب اليهود في الأندلس أسماء عربية، أمثال يهودا هاليڤي الذي تلقّب بزأبي الحسن اللاوي، فيقول محلّلاً لها: «إن معنى اتخاذ اليهود في الأندلس، وخاصة اليهود المثقفين أسماء عربية أو إسلامية، هو وإيم الحق أقصى ما يمكن أن يقوم من روابط الأخوّة والصداقة، بل قل روابط الدم أيضاً. فالعرب واليهود أبناء عمومة…» (ص 51).
فهو وإن انطلق من واقعة تاريخية، فقد شطح بعيداً في تحليلاته.
ويقول في التفاعل الفكري بين المؤلفين العرب واليهود: «ولسنا نعرف رباطاً مثالياً توثّق بين الشعوب مثل الرباط الفكري الذي نما واشتد بين العرب واليهود. كما أننا لا نعرف أسساً دينية ومبادئ علمية واجتماعية نسجت بين الأمم رباطاً مثل الرباط الذي نسجه التفكير الديني والاجتماعي والفني بين العرب واليهود. وصحيح أن هذا الرباط تعرّض في بعض الأحيان إلى ما تتعرّض له الروابط بين الأهل والإخوان. إلا أنه بقي، وسيبقى، ما دامت هناك علاقة بين الأهل، وما دامت هناك صلة بين الإخوان».
ويا ليت د. شعشوع شرح لنا وبيّن كيف بقي هذا الرباط. وكيف هي العلاقة بين العرب واليهود الذي يسمّيهم ”الأهل والإخوان“، منذ إنشاء دولة إسرائيل إلى اليوم.
ويعود د. شعشوع إلى ظاهرة أخرى، وهي استخدام عدد من المؤلّفين اليهود أمثال موسى بن ميمون اللغة العربية لكتابة عدد من مصنّفاتهم. فيجرّد هذه الظاهرة من خلفياتها الاجتماعية التاريخية ودوافعها الفكرية. ويخرج منها باستنتاجات مطنطنة في حقل ”الأخوّة والتعاون“ عينه. يقول: «وإن كتابة هؤلاء اليهود باللغة العربية قد جاء شاهداً آخر من شواهد الأخوّة بين اليهود والعرب، ودليلاً آخر أيضاً على التعاون بين اليهود والعرب. وإن كل هذا ليعطي لنا معنى حياً أزلياً لا يفنى. هو أن الأخوّة والتعاون بين اليهود والعرب، خالدان خلود الدهر»(ص 52).
وفي هذا الإستنتاج من الغلو والشطح، وتسخير بعض الوقائع المحدّدة لغايات أيديولوجية آنيّة، ما يغني عن أيّ تعليق. فقد كانت العربية لغة العلوم والفلسفة في عصر ابن ميمون وغيره. فهي لغتهم الثقافية وإن كانت العبرية لغتهم الدينية والطقسية. وهذا ما دفعهم للكتابة بالعربية. ولم يكن في ذهنهم أياَ من أبعاد الأخوة والتعاون التي يتحدّث عنها د. شعشوع.
ولكننا، وإنصافاً للكاتب نذكر أنه يشير أحياناً، إلى أن العلاقات بين اليهود والمسلمين، لم تكن دائماً ودّية وعلى ما يرام. كمثل قوله «بعد سنة 1138 م استولت فرق الموحدين على المناطق المأهولة بيهود الأندلس، وأرغمتهم على اعتناق الإسلام عنوة» (ص 52).
وواقع الأمر يشير إلى أن العلاقات اليهودية العربية في الأندلس ساءت قبل ذلك. ”ففي عام 1066، وقعت في غرناطة مذبحة قضي فيها على آلاف اليهود، وهرب الكثير منهم للبحث عن ملجأ في القطاع المسيحي، وأخذت أعدادهم تتزايد مع بداية حرب الاسترداد“( ).
وهذه المذبحة، يتوسّع في تحليل دوافعها وتداعياتها المستشرق رينهرت دوزي، في عدد من كتبه. فيقول أن المحرّض عليها، كان الفقيه أبو إسحاق الألبيري، لعداوة بينه وبين يوسف بن نغرلة اليهودي وزير باديس بن حبّوس ملك غرناطة.
يقول أبو إسحاق في قصيدة له أشعلت الكراهية ضدّ اليهود في غرناطة عن هذا الوزير:
ففرّ اليهود به وانتخوا
وتاهو وكانوا من الأرذلين
ويصف حال اليهود في غرناطة، فيقول:
وإني حللت بغرناطة
فكنت أراهم بها عابثين
ثم يتوجّه إلى أمير المدينة محرّضاً على الوزير:
فبادر إلى ذبحه قُربة
وضحّ به فهو كبش ثمين
ويحرّض الأمير وشعب غرناطة على اليهود بقوله:
وفرّق عراهم وخُذْ مالَهم
فأنتَ أحقُّ بما يجمعون
ولا تحسبنّ قتلهم غدرةً
بل الغدر في تركهم يعبثون
وقد فعل هذا التحريض فعله، فقام أهل المدينة، فقتلوا الوزير اليهودي وصلبوه على باب المدينة. ”ثم عمدوا بعد ذلك إلى قتل سائر اليهود، فقتل في يوم منهم مقتلة عظيمة، ونهبت دورهم. وقد بلغ من قتل منهم أربعة آلاف يهودي، ذهبوا ضحية العداوة الدينية في 3/12/1066 الموافق 459 ﻫ( ).
وبعد مذبحة غرناطة، بعشرين عاماً، جاء المرابطون من أفريقية إلى الأندلس. ”وبقدومهم، انتهى عصر إسبانيا الإسلامية الزاهر الطويل الأمد( ). كما يقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت. ويضيف أنه في عهد أحد أمرائهم يوسف، نادى أحد رجال الدين المسلمين أن اليهود قد وعدوا النبي بأن يعتنقوا الإسلام بعد خمسمائة عام من الهجرة، إذا لم يظهر في ذلك الوقت مسيحهم المنقذ المنتظر. وأن هذه الأعوام الخمسمائة، تنتهي بالحساب الهجري في عام 1107 م، وطلب الأمير يوسف إلى جميع يهود إسبانيا أن يعتنقوا الإسلام. ولكنه أعفاهم من هذا الأمر حين أدّوا لبيت المال مبالغ طائلة( ).
وبعد المرابطين. جاء الموحّدون. واستيلاء الموحّدين على الأندلس والذي يشير إليه بشكل عابر د. شعشعوع، حدث تاريخي كان له شأنه وانعكاساته الخطيرة، لا سيما في الحقل الثقافي. فقد أدّى إلى نزوح العديد من اليهود، لا سيما المفكّرين والمثقّفين منهم إلى المناطق التي يحكمها ملوك الإسبان المسيحيين. مما ساهم في إطلاق حركة ثقافية بارزة، افتتحت بترجمة العديد من المؤلفات العربية إلى الإسبانية فاللاتينية. يقول المستشرق الإسباني أنخِل پالنثيا محلّلاً تداعيات هذا الحدث في المجال الفكري: «أصبحت طليطلة بعد أن استولى عليها ألفونسو السادس عام 1085 – المركز الذي انتشرت منه الثقافة العربية واليهودية في باقي نواحي إسبانيا وأوروبا. وخلال حكم ألفونسو السابع ( 1126 – 1157)، لجأ إلى هذا البلد نفر غفير من اليهود، ناجين بأنفسهم من نواحي الأندلس الإسلامي، بسبب اشتداد عبد المؤمن بن علي أول خلفاء الموحّدين في تعقّبهم»( ).
وهذا الأخير خيّر اليهود والنصارى بين الارتداد عن دينهم، أو الخروج من الأندلس. وتظاهر كثيرون منهم باعتناق الإسلام، وهاجر كثيرون منهم مع المسيحيين إلى إسبانيا المسيحية( ).
ومذبحة غرناطة، هذا الحدث الذي سبق مجيء المرابطين والموحّدين وممارسات كلٌّ من هذين الأخيرين كلّها أمور تكفي منفردة للتشكيك بالفكرة التي يروّج لها شعشوع وغيره أن العلاقة بين اليهود والمسلمين في الأندلس كانت دائماً على ما يرام. وكان حكّام المسلمين حماة اليهود، مقابل الاضطهاد الذي لقيه هؤلاء من حكّام إسبانيا المسيحيين.
نكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى هذه الفكرة الدعائية الترويجية التي تجوب أنحاء كثيرة من هذا الكتاب. فنحن إذا وضعناها جانباً، نجد فيه ميزات عديدة تبرّر إعادة نشره. ووضعه بالتالي بين أيدي القرّاء العرب.
مسح تاريخي لتراث اليهود العربي
وأولى هذه الميزات، أنه، على الأرجح، الكتاب العربي الوحيد المكرّس لمسح تاريخي – نقدي لتراث اليهود المكتوب بالعربية. إنه الوحيد المتوفّر بالعربية والذي نجد فيه تراجم موسّعة ودراسات نقدية لفلاسفة وشعراء وأطباء أمثال يهودا هاليفي، وابن فقودة وابن غبيرول وابن تبّون وغيرهم ممن كان لهم أثر بيّن في الفكر العربي. وساهموا في نقله إلى أوروبا. وكانوا جسر تواصل بين الثقافتين العربية واليهودية، من ناحية، والحضارتين العربية والغربية من ناحية أخرى.
هذه الميزة، لوحدها، كافية بجعل هذا المصنّف يأخذ مكاناً له في المكتبة العربية. وهي التي دفعتنا إلى إعطائه عنوان:
تاريخ الفلسفة والعلوم اليهودية في أرض الإسلام
فهو أكثر دلالة على المحتوى، من عنوان الطبعة الأولى للكتاب.
دراسات مقارنة بين فلاسفة الإسلام واليهود
ومما يسجّل لكتاب د. شعشوع هذا في خانة الميزات الإيجابية، مساهماته في مجال الأدب والفكر المقارن.
هذه المساهمات، وإن لم تكن دراسات معمّقة، فمن شأنها أن تفتح الطرق لمثل هذه الأبحاث.
1 – دانتي وحي بن يقضان
فمنها مثلاً حديثه عن قصيدة حي بن يقظان لابن عزرا (485 – 532 ﻫ/ 1092 – 1138 م)، والتي تعتمد على مقالة ورواية لابن سينا بالعنوان عينه. يقول د. شعشوع في مقارنة بين حي بن يقظان لابن عزرا، والكوميديا الإلهية لدانتي: ”وموضوع قصة حيّ بن يقظان المركزي، هو الجولة في عوالم خفيّة برفقة مرشد محاط بالألغاز (…) وأشهر مَن تناول هذا الموضوع هو دانتي في الكوميديا الإلهية. وقد يكون ثمة مجال للإشارة إلى التشابه الكثير في الأحداث وفي تفسيرها المعنوي عند ابن سينا وابن عزرا من جهة، وعند دانتي من جهة أخرى. ففي حي بن يقظان“ يخرج المؤلّف وهو يمثل الروح من موطنه موطن الأرواح في السماء، فيلتقي بشيخ عجيب هو العقل المدرك (…) ويضل المؤلّف، أي الروح، طريقه في غابة مظلمة هي الذنوب (…) (ص 65).
إن الربط بين ”حي بن يقظان لابن عزرا والكوميديا الإلهية لدانتي، ومن خلال ذلك الربط بين ابن سينا وهذا الأخير، فكرة جديرة بالبحث والتعمّق في مجال الأدب المقارن. وكان المستشرق آسين بلاثيوس أول مَن أشار، في أطروحة مشهورة له، إلى أثر الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية( ). إلا أنه ركّز على أثر روايات المعراج ورسالة الغفران للمعرّي في كوميديا دانتي.
ولكن ثمة ملاحظة لا بد منها في هذا المجال. فسليم شعشوع، ينسى، أو يتناسى، دور فيلسوف عربي ارتبط اسمه، أكثر من ابن عزرا، ومن ابن سينا حتى، بقصة حي بن يقظان. إنه ابن طفيل المعاصر لابن عزرا. إذ ولد قبل سنة 506 ﻫ/1110 م وتوفي 581 ﻫ/ 1185. فإذا كان من أثر لرواية حي بن يقظان في الآداب الأوروبية، ولا سيما دانتي، فالفضل يعود، على الأرجح، لابن طفيل، أكثر من ابن عزرا. أو للإثنين معاً على الأقل. فلا يصحّ ذكر واحد، وإغفال الثاني. ”فقد ذاعت قصة حي بن يقظان (لابن طفيل) بين المسلمين ذيوعاً عظيماً “ ( ). كما ترجمت إلى اللغة العبرية نفسها، إذ نقلها إليها موسى الترّبوني عام 1341 م، وعلّق عليها( ). كما نقلها بوكوك إلى اللاتينية بعنوان الفيلسوف المعلم نفسه Philosophus Autodidactus ونشرها سنة 1671. ”ونقل ترجمة بوكوك اللاتينية إلى الإنكليزية جورج كيث، لكي يقرأها الكويكرز بين ما يقرأونه من كتب التُقى والورع. وامتدحها الفيلسوف ليبنتز، واعتبرها منندذ پلايو أبدع، وأغرب ثمرات الأدب العربي“( ). وباختصار فإن الثلاثي: ابن سينا، ابن عزرا، وابن طفيل، في تناولهم لحي بن يقظان، وما استتبع ذلك من انتشار واسع لهذه القصة، وأثر في الآداب الأوروبية، جديرون ببحث معمّق لا تتسع له هذه الدراسة.
2 – ابن فقودة والغزالي
وأبرز الدراسات المقارنة التي يحتويها كتاب د. شعشوع هو الفصل الكامل (ص 155- 166) الذي يخصّصه للعلاقات الفكرية بين الغزالي (ت1111 م). وفيلسوف يهودي أندلسـي هو بحيا بن فقودة (ت 1120 م)، مؤلّف كتاب ”الهداية إلى فرائض القلوب“.
ومما يقوله د. شعشوع في مجال المقارنة بين الفيلسوفين : «وأما بحيا ابن فقودة فهو أيضاً كزميله الغزالي المسلم، يرى في القلب المؤمن الأداة إلى التقرّب إلى الله. وأنه من أجل أن يكون القلب مؤمناً، يجب أن يُطهّر من الشوائب التي قد تلحقه. وأهم تلك الشوائب هي الشهوة(…) وقد وصف بحيا النضال ضد الشهوات كحرب مقدّسة. وإنه بهذا الوصف قد شابه علماء المسلمين الذين اعتبروا النضال ضد الشهوات كحرب مقدّسة» (ص 162).
ولن نطيل الحديث عن نقاط التشابه بين الغزالي وابن فقودة، والتي يتوقّف عندها الباحث شعشوع. فهي موضوع فصل كامل من الكتاب، كما أشرنا، ويمكن العودة إليه.
ولكن تلفتنا خلاصة البحث المقارن هذا، والتي ورد فيها: «الواقع أن بحيا ابن فقودة قد تأثّر كثيراً بكتابات الفلاسفة العرب. وقد دلّت بحوث جرت مؤخراً، أن كثيراً من فقرات كتاب بحيا، تماثل في محتوياتها وتعبيرها الآراء التي احتوتها كتب الفيلسوف العربي الصوفي الغزالي» (ص 164).
وهذه البحوث التي يشير إليها الكاتب، دون تسميتها، هي، على الأرجح، كتابات المستشرقين أجناس جولدتسهير وسالومون يهودا. فقد تبيّن لهذا الأخير أن بحيا بن فقودة ينقل، في بعض الأحيان، نقلاً حرفياً عن بعض كتب الغزالي. فأورد فقرات من كتاب ”الحكمة في مخلوقات الله“ لأبي حامد، وقابلها بما يشبهها من كلام بحيا في الهداية. ويمكن للقارئ أن يطّلع، في الملحق الذي أضفناه إلى هذا الكتاب، على نموذج من هذه المقابلة.
ومـن الباحثين الذين درسوا تأثر ابن فقودة بالفلسفة الإسلامية د. علي النشار، يقول: «استفاد ابن فقودة من فكر المتكلّمين والمعتزلة والأشاعرة ومنهجهم الكثير، حتى أنه قد استعار منهم عنوان كتابه، فتعبيره فرائض القلوب، هو تعبير المعتزلة، إذ أنهم أوّل مَن قال بذلك، في مقابل تعبير فرائض الجوارح( )».
وثمة رأي مماثل في هذا المجال يقول: «فتح ابن فقودة الباب على مصراعيه لمواصلة السير في هذا المنهج الروحي الفلسفي في التفسير، وهو وإن كان منهجاً جديداً في اليهودية، إلا أنه لم يكن فيه أكثر من ناقل لمناهج المسلمين في هذا المجال. إذ نجد ذلك في كتابات المعتزلة والأشاعرة…»( )، ولكننا هنا نسجل تحفّظاً على هذا الرأي المنحاز. فابن فقودة ”ليس مجرّد ناقل لمناهج المسلمين“، لأنه طوّع هذه المناهج وأقلمها مع الفكر التوراتي اليهودي، كما يتضح من تعقيب د. شعشوع.
فخلاصة د. شعشوع هذه المستندة على بحوث سابقة، يعود فيعقّب عليها بملاحظة شخصية له، تركّز على الصيغة اليهودية لفكر ابن فقودة، والتي تميّزه عن فكر الغزالي وتصوّفه. يقول شعشوع: «ومع هذا، وبالرغم من جميع المطابقات الفكرية الصوفية أيضاً بين بحيا وبين الغزالي. فإن علينا أن نسجّل هنا، بعد المقارنة الدقيقة، أن بحيا حاول أن لا ينجرّ كلياً وراء المتصوفين العرب. وأنه حافظ على الصيغة اليهودية لطريقته الزهدية. فإنه مثلاً اتخذ موقفاً مخالفاً للفلاسفة العرب، حين ذكروا أنهم ينظرون نظرة إيجابية لمن يهمل المجهود الشخصي لإعالة نفسه، ويعتمد على الله. كما أن ابن فقودة يشجب المنعزلين الذين يعوفون الحياة الاجتماعية. ويقول أن المنعزل الحقيقي هو الذي يجعل الله نصب عينيه دائماً، ويقوم بنفس الوقت بالواجبات الملقاة على عاتقه في المجتمع الإنساني»(ص 165).
ونحن، وإن كنا لا نشارك المؤلّف في استنتاجه هذا، ولا نوافق معه في أن «المتصوفين والفلاسفة العرب كانوا ينظرون نظرة إيجابية لمن يهمل المجهود الشخصي لإعالة نفسه» (ص 165)، إذ نرى في هذا التعميم، غير المستند على قرائن ونصوص، القليل من الدقة والعمق. فلا يسعنا سوى التنويه بجهد المؤلّف في هذه الدراسة المقارنة، والتي نعتبرها من أبرز مساهمات هذا المصنَّف.
دور اليهود في نقل الفلسفة الإسلامية
ومن المواضيع التي يركّز عليها د. شعشوع، ويكرّرها في كتابه، دور اليهود في نقل الفلسفة الإسلامية إلى أوروبا في العصور الوسطى، وتعريف مفكري الغرب عليها.
فهو ينقل عن الشيخ مصطفى عبدالرازق، في كتاب أعدنا إصداره في ”سلسلة اليهودية بأقلام يهودية” قوله «لليهود معظم الفضل في تعريف المسيحيين بالفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى» (ص167)( ).
ويركّز في الباب الذي خصّصه لجهود المترجمين اليهود (ص100 – 110) كأبناء عائلتي تبّون وقمحي، على دور هؤلاء اليهود الأندلسيين، في ترجمة التراث العربي إلى لغات أوروبية. يقول عن هذا الدور: «إنهم قد خدموا الحضارة العربية، وجعلوها تنتشر بين الشعوب المسيحية في أوروبا، وبين إخوانهم اليهود الذين لا يعرفون اللغة العربية، عن طريق الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة العبرية واللغات الأخرى (…) ويحق لنا، في بعض الأحيان، أن نعتبر عدد المترجمين اليهود من اللغة العربية إلى اللغة العبرية وإلى اللغات الحية السائدة في القرون الوسطى، وبالعكس، عدداً كبيراً، إلى درجة يمكن معها أن لا نشير إلى مجموعات منهم، بل قد يمكن الإشارة إلى عائلات استقل جميع أفرادها المثقفين بالترجمة»(ص2 – 101).
ونحن بدورنا نوافق المؤلّف في الإشارة والتركيز على دور المترجمين اليهود هؤلاء. بل وكنّا نتمنى أن يتوسّع أكثر في الحديث عن دورهم، وإيراد ثبت وبيبلوغرافيا موسّعة بأعمالهم وترجماتهم وأثرها. وأن لا يكتفي بهذا الفصل الموجز الذي خصّهم به. ولكن هذا الفصل، على إيجازه، يبقى مساهمة نفيسة، للتذكير بهذا الدور. على أمل أن تتلوه دراسات أكثر توسّعاً.
ويورد المؤلّف، تأكيداً على دور اليهود، في نقل الفلسفة الإسلامية إلى الغرب، رأياً لمؤرخ الفلسفة جيوم تيوفيل تتمان في كتابه ”المختصر في تاريخ الفلسفة“، مأخوذ هو الآخر من كتاب ولفنسون عن ابن ميمون، الصادر في سلسلتنا هذه( ). يقول”«إن أهم مَن حمل مذاهب العرب الفلسفية إلى المسيحيين هم اليهود. نقلوها من الأندلس، حيث كانت الهمم منصرفة بقوة إلى مدارسة العلوم. على أن اليهود أنفسهم ساهموا بقسط ظاهر في عالم العلم. ونشأ فيهم غير واحد من ذوي العقول الفلسفية»(ص157).
هذه الأحكام، على أهميتها، لا تكفي برأينا للدلالة على أهمية الدور الذي لعبه اليهود في نقل الفلسفة والآداب والعلوم العربية إلى أوروبا. هذا الدور الذي يبدو مماثلاً لدور المترجمين السريان النصارى في نقل الفلسفة والعلوم اليونانية إلى العربية، أمثال حنين بن إسحاق وابنه وقسطا بن لوقا وغيرهم. وكما نقلت النصوص اليونانية أولاً إلى لغة وسيطة هي السريانية غالباً، قبل نقلها إلى العربية. كذلك نقلت المؤلفات العربية إلى لغة وسيطة هي العبرية، أو القشتالية – الإسبانية، قبل نقلها إلى اللاتينية.
ونظراً لخطورة هذا الموضوع وعدم توسع د. شعشوع فيه، فسنتوقف عنده قليلاً.
ففي كتاب لنا، عمدنا إلى نقل مخطوطة المعراج الأندلسية إلى العربية، بسبب ضياع أصلها العربي. وهذه المخطوطة كان قد نقلها إلى القشتالية (عام 1263)، إبراهيم اليهودي طبيب ملك قشتالة الفونس العاشر (1254 ، 1284). ثم عاد ونقلها من هذه الأخيرة إلى اللاتينية كاتب هذا الملك وسكرتيره التوسكاني (الإيطالي) Bonaventure de Sienne. لما هذا الطريق الطويل، واعتماد لغة وسيطة؟! لقد كانت العربية لغة صعبة على أوروبيي العصور الوسطى، ونادراً جداً ما كانوا يتقنونها. أما العلماء اليهود الأندلسيين، والذين نزحوا إلى بلاط هذا الملك وأسلافه، هرباً من اضطهاد الخلفاء الموحّدين، كما سبق وأشرنا، فكانت اللغة الثقافية عندهم العربية، يكتبون ويتحدّثون بها هم ويهود المغرب. أما اللغة التي يستخدمونها في البلاط ومع سكّان قشتالة فالقشتالية. ولكنهم لم يكونوا يتقنون حكماً اللاتينية، لغة العلوم والفلسفة في أوروبة في ذلك العصر. فكان اليهود وسطاء ضروريين لحركة الترجمة التي نشطت آنذاك. وكانت هذه الترجمة تمر بمرحلتين، الأولى يتولّى فيها عالم يهودي نقل النصّ من العربية إلى لغة متداولة يعرفها كالقشتالية، وتنظيم هذا النص وتقسيمه إلى فصول … الخ. والثانية يقوم فيها عالم أوروبي بنقل هذا النص من اللغة الوسيطة، إلى اللاتينية لغة العلم والعلماء في ذلك الوقت كما أشرنا( ).
وليس كتاب المعراج الأندلسي، سوى مثل، من مئات الأمثلة، على دور اليهود في ترجمة النصوص العربية إلى اللغات الأوروبية. فالمترجم عينه: إبراهيم اليهودي الطبيب قام بعد ذلك بترجمة كتاب ابن الهيثم في هيئة العالم إلى القشتالية عام 1270. وهو الذي قام أيضاً بترجمة كتاب الأسطرلاب للزرقالي إلى الإسبانية، وكلا الكتابين نقلا بعدها إلى اللاتينية( ).
وكمثل آخر، نذكر الثنائي جنديسالڤي ويوحنا اليهودي الذين كانا يعملان معاً في الغالب. فيملي يوحنا اليهودي ترجمة النص العربي بالإسبانية الدارجة (القشتالية). ويقوم جنديسالڤي بنقلها من الإسبانية إلى اللاتينية( ). وهكذا تعاونا على نقل مؤلّفات ابن سينا: النفس،الطبيعة، ما وراء الطبيعة، ينبوع الحياة وغيرها الكثير إلى اللاتينية.
وبعد ذياع ترجماتهما في أوروبا، هرع إلى طليطلة عدد كبير من المتعطشين إلى مناهل العلوم الإغريقية الشرقية (…) ولم يكن هؤلاء يعرفون العربية. فكانوا يلجأون إلى يهودي أو مستعرب من أهل طليطلة، فيترجم لهم حرفاً بحرف مادة الكتب العربية التي يرغبون في الإلمام بما فيها إلى الإسبانية الدارجة. ويقومون هم بصوغها في قالب لاتيني فصيح. وتنقل من هذه اللاتينية نسخ عديدة في المدارس الأوروبية المتعدّدة( ).
وكما في طليطلة، كذلك في قطلونية Catalogne وپروڤانس Provence جنوبي فرنسا، حيث ازدهرت الثقافة العبرية. فقد ترجم اليهود هناك المؤلفات العربية عن أصولها، أو عن ترجماتها اللاتينية، التي قام بها مترجمو طليطلة( ).
وبكلمة موجزة، فقد كان للمترجمين اليهود أثر حاسم في نقل المؤلفات العربية الفلسفية والعلمية والأدبية ونشرها في أوروبا، في العصور الوسطى. فلهم فضل أساسي في تعريف أوروبا على فلاسفة وعلماء عرب، أمثال ابن سينا وابن رشد والغزالي والفارابي وابن الهيثم وغيرهم. إذ كانوا، كما أسلفنا، نظراء للمترجمين السريان في العصر العباسي.
أثر الثقافة الإسلامية في انفتاح مفكري اليهود
ويذكر د. شعشوع أثراً مهماً للثقافة الإسلامية في مفكري اليهود وفلاسفتهم وأدبائهم، وهو خروجهم من عزلتهم، وانفتاحهم على الثقافات الأخرى. يقول: وكلمة حق، يجب أن تقال، هي أن علماء اليهود، ورؤساءهم، لم يكونوا، قبل القرن العاشر، أو بالأحرى قبل قيام الدولة العربية في الأندلس، ليهتموا كثيراً بالدراسات الأدبية والاجتماعية، قدر اهتمامهم بعلوم الدين والتشريع والفقه. وكانوا في عزلة تامة عن علماء ومشرّعين من غير دينهم (…) غير أن تغييراً جذرياً إيجابياً قد حصل في حياة اليهود (…) ومنذ ذلك الوقت لم يبقَ اليهود مهتمّين بالحقل الروحاني من حقول العلوم والثقافة فقط، وإنما ابتدأوا بكل طاقتهم المادية والمعنوية بالاشتراك في الحياة العلمية والأدبية (…) ووجدوا المجال الواسع للإطلاع على علوم إخوانهم المسلمين وآدابهم. (ص 242).
هذا الإقرار بالأثر الإسلامي في الفكر والثقافة اليهودية لا بدّ من التنويه به. ومما يأسف له القارئ، أن الحديث عن هذا الأثر جاء موجزاً، مقتضباً وعمومياً، وفي خاتمة الكتاب. دون أن يُشفع بأمثلة على ذلك. فاكتفى الكاتب بتعميمات مثل: «ولم يكتفِ اليهود بمحاكاة إخوانهم المسلمين، في الأندلس، بما نهجوا عليه في شؤون العلم والأدب والفقه والمعرفة. وإنما أخذوا عنهم كثيراً مما امتازت به علومهم وآدابهم. وأدخلوها على لغتهم»(ص243).
وكان بمقدور الكاتب وهو المتقن للغتين العربية والعبرية، أن يستخرج لنا من الكتابات العبرية أمثلة ونماذج مما أُدخل على العبرية، لغة وأدباً، من مؤثرات عربية وإسلامية. يبقى أن النماذج الشعرية للتأثير المتبادل في الشعر بين اليهود والعرب، والتي خصّها بفصل طويل من كتابه ص 135- 152 ، تفي بشيء، وإن مجتزأ، من هذا الغرض. كما أن الفصل المعنون ”التوراة في الشعر العربي، والقرآن في الشعر العبري“ يشرّع الأبواب نحو دراسات معمّقة، للمقارنة والتفاعل بين الأدبين العربي والعبري.
1 – الأثر الإسلامي في الفلسفة اليهودية
والأثر الإسلامي في الثقافة اليهودية الفلسفية / الأدبية منها، وحتى الدينية، أمرٌ تناوله العديد من الباحثين، قبل شعشوع وبعده. وسنذكر هنا شيئاً من آرائهم استكمالاً للفائدة. يقول الباحث محمد علي دولة، عن أثر البيئة الإسلامية في فلاسفة اليهود، لا سيما منهم موسى بن ميمون، ما يلي: «إن أكبر فلاسفة اليهود في العصر الوسيط: موسى بن ميمون يعتبر أن أحد أسباب نبوغه، هو وجوده في بيئة إسلامية، منحته حرية التفكير والإبداع، وأنه لو كان تعرّض لنفس ظروف أقرانه الموجودين في الغرب، لعاش، ومات مثلهم داخل جيتو منعزل»( ).
هذا الرأي، وإن لمحنا فيه شيء من مغالاة، يشير إلى حقيقة تاريخية حضارية، وهي أن نفوّق يهود أسبانيا علمياً ودينياً وثقافياً، على سائر يهود زمانهم في أوروبا، يعود إلى عيشهم في بيئة إسلامية تتفوّق ثقافياً على بيئة الغرب في العصور الوسطى. وهذا ما جعل يهود الأندلس فاعلين في تاريخها وتاريخ إسبانيا. في حين أن دور أبناء ملّتهم في تاريخ وثقافات البلدان الأوروبية التي عاشوا فيها، بقي هامشياً. يقول المؤرخ الإسباني أميركو كاسترو( )، في شأن هذه الواقعة التاريخية: « يمكن أن نفهم تاريخ باقي دول أوروبا، دون الحاجة لوضع اليهود في المقام الأول. أما في الحالة الإسبانية، فالوضع مختلف، فالوظيفة الرئيسية للإسبان العبريين لا تنفصل عن ظروف التعايش والتلاقح مع التاريخ الإسباني الإسلامي (…) ومن الواضح أن تفوقهم على أقرانهم في أوروبا، يرتبط بتفوق الإسلام على المسيحية خلال الفترة من القرن العاشر، وحتى الثاني عشر. ولولا إحتكاكهم بالإسلام، لما عنوا بالفلسفة الدينية».
ويضيف كاسترو في هذا الصدد:«ولنقل أنه لم يكن ممكناً أن نرى هذه الشخصيات الكبيرة (إبراهيم بن عزرا، ابن غبيرول، يهودا هاليفي وموسى بن ميمون) بدون الإسلام الإسباني. وعندما اضمحل الحكم الإسلامي بعد القرن الثاني عشر، أخذت تضمحل العبقرية الإسبانية العبرية، وأصبحت منذ تلك اللحظة تعيش على الماضي»( ).
ولول ديورانت رأي مشابه، يحلّل فيه أسباب انفراد يهود البلاد الإسلامية بالعلوم، دون سائر يهود العالم في عصرهم يقول: «تكاد العلوم الطبيعية والفلسفة عند اليهود تنحصر كلّها في بلاد الإسلام، ذلك أن المقيمين في البلاد المسيحية في العصور الوسطى كانوا بمعزل عن جيرانهم، معرّضين للاحتقار، وإن كانوا متأثرين بهم. ولهذا لجأوا إلى التصوّف والخرافات (…) وتلك كلها أسوأ ظروف يمكن أن ينشأ فيها علم»( ).
ويقول مؤرخ الفلسفة آرثر هيمان Arthur Hyman: «تقسم الفلسفة اليهودية إلى ثلاثة عصور: العصر الهيلليني (القرن الثاني ق.م، منتصف القرن الألو ب م) العصر الوسيط، والعصر الحديث (ابتداءً من القرن 18) وبين العصور الثلاثة فالعصر الوسيط هو الأكثر أهمية وإنتاجاً. وامتداداً. وكانت الفلسفة اليهودية فيه جزءاً من النهضة الثقافية الإسلامية. كان اليهود في ذلك العصر يتكلمون، يقرأون ويكتبون العربية ما أتاح لهم المشاركة في ثقافة عصرهم»( ).
يقول المستشرق پالنثيا:« لقد بلغ من صدق الأدب الإسباني العربي الباهر أن تأثيره لم يقف عند الحدود السياسية لدولة الإسلام في الأندلس. بل كان له أثر بعيد عند المستعربين واليهود (…) فالشعر العبري أفصح عن نفسه مقلّداً لنماذج من الشعر العربي. وحتى نجد أوائل كتب النحو العبري الرئيسية تظهر مكتوبة بالعربية. ونجد ابن غبيرول، أول فيلسوف يهودي، يؤلّف كتابه المسمّى :”ينبوع الحياة“ بالعربية، ويقتبس مادته من أصل عربي. بل إننا نجد أنه كان يقلّد شعراء العرب فيما نظم من الشعر(…) وظلّ اليهود، بعد زوال سلطان العرب عن البلاد بزمان طويل، يتدارسون الكتب العربية، ويترجمونها إلى العبرية، في همة يتجلّى فيها إعزازهم العميق لها. فاستطاعوا، بذلك الجهد، أن يحتفظوا لنا، في أحيان كثيرة، بترجمات عبرية للكثير مما ضاعت أصوله من آثار الأندلسيين. بل أن أسراً يهودية، كبني طبّون، كرّست جهودها كلّها لإذاعة الكتب العربية بين الناس( )».
وفي كلام پالنثيا إنصاف لدور اليهود في التفاعل مع الثقافة الإسلامية. هذا الدور الذي لم يتوقف عند حدود التأثر والتلقّي. بل عمل على نشر هذه الثقافة والتعريف بها.
2 – الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي
وفي مجال هذا التفاعل، تأثراً وتأثيراً، بين اليهود والمسلمين، لا سيما الفكر الديني، يقول باحث آخر:«إن تعايش اليهود مع المسلمين واطّلاعهم على فكرهم وثقافاتهم ومناهجهم في الشرح والتفسير ودراسة لغة القرآن وأساليبه وبلاغته وإعجازه، كل هذا جعل هؤلاء اليهود يحسّون بضرورة اقتفاء أثر المسلمين، وتطبيق هذه المناهج المختلفة على نص العهد القديم (…) والتأثر والتأثير بالثقافات المجاورة، يعتبر من الأمور الطبيعية التي تفرضها ظروف الاحتكال والتعامل بينهما، ولا ضير في ذلك، فقد أثّر اليهود أنفسهم في التفسير الإسلامي، بما دخله من الإسرائيليات، في ذلك الوقت، وانتشر انتشاراً كبيراً في كتب التفسير الإسلامية»( ).
هذا التفاعل، وحركة الأخذ والرد بين المسلمين واليهود، قد أثرى كلا الثقافتين والعلوم الدينية والتفسيرية في كلا الديانتين، باعتراف الباحث المسلم د. عبدالرزاق قنديل وغيره. أما أبرز المؤثرات الإسلامية في علوم التفسير عند اليهود، فيذكر هذا الباحث عدداً منها:
1 – تفاسير سعدي الفيومي واضحة التأثر بمناهج المسلمين. وكتابه المعروف ”الأمانات والاعتقادات“ دليل على تأثره بالفكر الاعتزالي. وتفسير السبعين لفظة المفردة عنده هو تطبيق لمنهج ابن قتيبة في شرحه للغريب في القرآن والحديث.
2 – الأثر الإسلامي يبدو أكثر وضوحاً في مؤلفات علماء اليهود في الأندلس. فقد اقتفوا أثر علماء المسلمين في استنباط الأحكام من القرآن والأحاديث وترتيب كتب الصحاح (أحاديث) وتبويبها. فعلى هذا المنوال مثلاً وضع الفاسي مختصره للتلمود.
3 – الأثر الإسلامي في الأدب العبري
ومن الناحية الأدبية كان التأثير العربي أكثر وضوحاً وجلاءً. فقد استخدم شعراء اليهود الأوزان العربية والقوافي في شعرهم. لا بل ”تطرّق الأندلسيون منهم إلى الأوزان التي اخترعها العرب في فن الموشّحات، وكتبوا لأول مرّة في المدح والفخر والخمريات والغزل متمثلين بأساتذتهم من شعراء العرب“( ).
ويقول البروفسور دافيد يالين( )، في نظرة إجمالية على الأدب العبري الأندلسي، وتأثره بالأدب العربي وتفاعله معه: «ومنذ بدء القرن العاشر، منذ أن انتقل مركز التوراة من العراق إلى الأندلس، نما في هذه البلاد، بين ظهراني اليهود أدب جديد، ذو فروع كثيرة، أدب حي خلاّب. وفي ذلك الحين، اتسع صدر الشعر لأبواب جديدة ولصور جديدة، وجعل العلماء والأدباء والشعراء اليهود، ينسجون على منوال الثقافة العربية التي كانت وقتئذٍ ينبوع الثقافة والتفكير اليهودي»( ).
أما سبب تأثر الشعراء والأدباء اليهود بالشعراء العرب، وتقليدهم لهم، فيعيده البروفسور يالين إلى قناعة عميقة وراسخة عند يهود الأندلس بتفوّق العرب، في مجال الشعر، على بقية الشعوب. يقول: «إن هذه المحاكاة من قبل العبرية للعربية، لم تأتِ عفواً، وعن غير قصد. بل جاءت نتيجة لعزيمة صادقة منذ بادئ الأمر. لقد كان يهود الأندلس يعتقدون اعتقاداً راسخاً، بأن العرب يفوقون سائر الأمم في مضمار الشعر، ولذا فقد رأوا من الواجب أن ينسجوا على منوالهم في هذا المضمار»( ).
ويكفي تأكيداً على أهمية الأثر الإسلامي في الآداب العبرية، وعمق التفاعل بين الثقافتين، أن العصر الأندلسي يعتبر ”العصر الذهبي الثاني للأدب العبري، وكان العصر الذهبي الأول عصر الكتاب المقدّس“( ). كما يقول في ذلك البروفسور داڤيد يالين، ويضيف: «لقد كان العصر الأندلسي عصراً زاهراً في الأدب العبري (…) وقد شمل التقدّم الفكري الفلسفة والرياضيات وعلم الهيئة والطب»( ).
ويذهب مؤرخ الحضارة المعروف ول ديورانت إلى أبعد من ذلك معتبراً أن العصر الأندلسي هو أسعد عصور التاريخ العبري. يقول: «وكانت هذه القرون الثلاثة – العاشر، الحادي عشر والثاني عشر م، هي العصر الذهبي ليهود إسبانيا، وأسعد عصور التاريخ العبري الوسيط، وأعظمها ثمرة»( ).
وهكذا نجد أن آراء د. شعشوع في التفاعل الوشيج الصلات بين الثقافتين اليهودية والإسلامية، ليست ببعيدة عما ذهب إليه عدد من الباحثين الغربيين، أو حتى المسلمين. وإن لم يصلوا إلى تسمية ذلك ”بالتعاون“ في مجالات الأدب والترجمة واللغة والفلسفة والفلك والطب، كما يطلق هو على التفاعل بين هاتين الثقافتين في هذه المجالات، هذه التسمية ”العزيزة على قلبه“ والتي تتكرّر في غالبية عناوين فصول كتابه، يبدو أنها تحمّل هذه الظاهرة أكثر مما تحتمل. أو على الأقل تشطح بمدلولاتها إلى آفاق بعيدة عن الوقائع التاريخية، لتوظّفها في أهداف إيديولوجية وسياسية آنية.
بعض عثرات الكتاب
يبقى، ختاماً، أن نذكر بعض الهنّات التي وقع فيها الكاتب. ومنها مثلاً ذكره لعنوان كتاب يهودا هاليڤي (أبو الحسن اللاوي) على الشكل التالي ”كتاب الحجة والإثبات في الدفاع عن الدين“ (ص 15) ولعلّه ترجمه عن مرجع إنكليزي. والعنوان العربي الصحيح لهذا الكتاب هو: ”كتاب الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل“ لأبي الحسن اللاوي. وسنعمل على إصدار هذا الكتاب في سلسلتنا هذه: ”اليهودية بأقلام يهودية“.
ولكن أبرز ما يمكن أن يؤخذ على كتاب شعشوع، إضافة إلى فكرته الأيدلويوجية الترويجية التي أشرنا إليها في بداية هذا البحث، هو عدم احترامه لأسس البحث العلمي الأكاديمي. وهو أمر غير منتظر من دكتور في الدراسات الإسلامية والعبرية. فلا نرى هوامش في صفحات البحث، تذكرُ المراجع التي استقى منها. وهو عيب لا يُغتفر. كما أن لائحة المصادر في نهاية الكتاب غير دقيقة، وينقصها الكثير من المعلومات عن المصادر: الناشر، سنة النشر… الخ. وهي نواقص كان بمستطاع باحث جامعي تداركها، ليبعد كتابه، أكثر ما يمكن، عن الطابع الترويجي الدعائي. ولينأى به أيضاً عن الاقتصار على التقميش والتجميع.
يبقى أن هذا الكتاب نموذج للفكر الإسرائيلي واليهودي المعاصر. وللمنحى التوفيقي الذي يدعو إليه هذا الفكر، متجاهلاً واقع الصراع العربي الإسرائيلي وجذوره وآثاره. وهو أيضاً مثال للمنهجية ”الإنتقائية“ في عرض الوقائع والأحداث بطريقة تخدم الأهداف السياسية أو الإيديولوجية، وإغفال أو تناسي ما يعيق هذه الأهداف، أو يشكّل مثلاً معاكساً Contre Exemple لها. إنتقائية، تأويل مناسب، توفيق يلامس أحياناً حدّ التلفيق، وذلك لترسيخ انطباع في ذهن القارئ، أن الأمور بين العرب واليهود كانت دائماً على ما يرام، في الماضي وعبر التاريخ. وتاريخ هذين الشعبين كان غالباً تاريخ تعاون مثمر. وهذا ما سيكون عليه مستقبلهم.
وإذا كانت الموضوعية والإنصاف قد حتما علينا ذكر هذه الهنّات والأهداف، فهما أيضاً يوجبان علينا القول أن سهم الكاتب وإن طاش حيناً، فقد أصاب أحياناً، في مناحٍ عديدة ذكرناها. ونجح في أن يقدّم لنا مرجعاً، لا غنى للمكتبة العربية إلى يومنا هذا، عنه.
Q.J.C.S.T.B
د. لويس صليبا
باريس في 16/02/2007
هذه الطبعة المزيدة
التزاماً منا بالأمانة العلمية والموضوعية، لم نتدخل في نص كتاب د. سليم شعشوع. فأثبتناه، كما هو، دون زيادة أو نقصان، أو حتى تعليق في الهوامش. أما ملاحظاتنا على ما يورده، فيمكن العودة إليها في المدخل/ الدارسة.
لكننا وجدنا من المناسب، تعميماً للفائدة، أن نضيف في آخر الكتاب ملحقاً لعددٍ من النصوص لأدباء وشعراء، وفلاسفة ورد ذكرهم في فصول هذا المصنّف. وذلك لنتيح للقارئ الفرصة للعودة إلى المصادر والأصول في الفلسفة والعلوم واليهودية، لا سيما وأن المتوفّر منها اليوم باللغة العربية قليل ونادر. وقد حافظنا على الترقيم الأصلي للكتاب بالأرقام الهندية. (الموجودة في الأسفل)، ولكننا أضفنا في وسط أسفل الصفحات ترقيماً آخر Chiffres Arabes يشمل أقسام الكتاب كافة أي الدراسة/المدخل، المتن الأساسي للمؤلّف، والملحق المضاف.
وأضفنا إلى قائمة محتويات الكتاب بياناً بالمحتويات الجديدة. فنرجو من القارئ الانتباه.
Q.J.C.S.T.B
باريس في 06/03/2006