ذكرى هند الزيلع أمّي، بقلم لويس صليبا
أ. د. لويس صليبا
كلمات لويس صليبا، الأب حنا اسكندر، جاندارك أبي عقل، وخضر نبها في أربعين هند الزيلع 26 كانون الأول 2018 على الرابط التالي:
كلمة لويس صليبا في أربعين هند الزيلع (مدرسة فرير جبيل 26/12/2018)
نحو عَقدين من الزمن أمضتْهُما في لباسِ الحداد على شقيقها لويس الزيلع الشابِّ البهيّ الطلعة الذي قضى بحادثِ سيّارةٍ أليم، وتركَه مَن صَدمه ينزفُ دمَه طيلةَ الليلِ حتى مات!
وما أن بدأَ الأسودُ يتحوّلُ إلى رماديّ حتى نكبها الدهرُ الغدّار بمقتلِ شقيقها الثاني سعدالله 1978 على أيدي مجرمين نهبوا شاحنَتَه وصرعوه قبل منبزَغِ الفجر عند نفقِ شكّا.
حمّلتني اسمَ شقيقِها الحبيب القتيل لويس لتنقلَ إلى كائنٍ كانت تحملُه في أحشائها يوم مقتله، حبَّها الجارف، علّها بهذا الحبّ المتحوِّل تلقى بعض عزاء !
وكانت تحفظُ عن ظَهر قلب الأشعارَ والأغاني التي كان ينشدُها فقيدُها الحبيب، فتغنّيها لي بصوتِها الشجي، فتحملُني، وأنا طفلٌ يحبو، إلى عالمٍ آخر يختلطُ فيه الحبّ بالأسى ويتوّجُهما الإبداع.
أنا الزير بو ليلى المهلهل وقلب الزير قاسي ما يلينا
وهل أنسى أغنيتَها الفيروزية المفضّلة، وكم كنتُ أطربُ لسماعِها بصوتِها العذبِ الحنون:
بكوخنا يا بني بهالكوخ الفقير
والتلج ما خلّى ولا عودة حطب
والريح عم تصفر فوق منّو صفير
وتخزّق بهالليل منجيرة قصب
وكان كلامُها مرصّعاً، في الغالب، بالأمثال اللبنانية التي كانت تحفظُها عن ظهر قلب. فإذا تلكّأتُ مرّة عن عمل ما تطلبُه متذرّعاً بالقول: احسبيني غائباً أو مسافراً، كانت تجيبني على الفور: “ما غايب إلا واستغنينا عنّو ولا حاضر إلا واعتزناه”. إذ كانت أستاذةً في العَمَلانية وسرعةِ البديهة في آن. سئلتُ يوماً في امتحان في صف البريفيه ما معنى سَربَل، وحرتُ في الجواب، وبعد أيام سمعتُها تقول لي: يامّي بتسربلّي إيديّي”. فبادرتُها: ليتك قلتِها لي قبلَ الامتحان. وأطرقتُ متفكّراً وقائلاً في نفسي: كنتُ أحسبُني ضليعاً بالعربية، وها إنّني اتحقّق أنّني لمّا أزل دون مستوى أمّي فيها.
هندوما أورثتني من اسمها حبَّ الهند، فصرتُ مستهنداً، كما كنتُ ابن هند، وهي التسمية التي كان يحلو لكثيرين أن ينادونني بها. صرتُ مستهنداً ومحبّاً لهذا اللقب لأن فيه اسمَ أمّي وبعضاً من عطرها. وكم كانت تغارُ من هذا البلد وتخشى أن يخطِفَ منها وحيدُها فتطولُ إقامته فيه! بدّي غيّر اسمي بلكي بخلص من هالمصيبة، كانت تقول لي أحياناً غاضبةً من إقامتي الطويلة في الهند، أو من المُسحة الهندويّة في فكري وأدبِ حياتي.
يوم خُطفتُ في أيلول 1989، وبقيتُ نحو شهر تحت الأرض ومجهولَ المصير إبيضّ ما في رأسها من شعرٍ أسود، وأصابَها داءُ السكّري ذاك المرضُ الصامت الذي نخرَ الجسد حتى العظم، وكاد يقطع أصابع قدمها. “بدّي روح عالقبر وجسمي كامل مش ناقصو شي” كانت تقول وتردّد سنة 2008 يوم أُدخلَتْ المشفى لمعالجةِ عُقر القدم، وأُنقذَتِ الأصابعُ بعد عمليةٍ وعذابٍ وأوجاعٍ دامت أشهراً.
يوم توفّي عمّي الخوري فرنسيس صليبا في أيار 1996، كنتُ في باريس أعملُ وأتابعُ البحثَ الأكاديميّ. ومنعتني الظروفُ وطبيعةُ العمل والإجراءات الحكومية من المجيء إلى لبنان للمشاركة في تشييعه ودفنِه. وعندما جئتُ قبل الأربعين بادرتني بالقول: أهكذا عندما أموت ستكونُ أيضاً غائباً!؟ وكلّ ما أطلبه أن تقفَ يوماً على حائط الكنيسة لتصافح المعزّين!” وكانت هذه الكلمات الملتهبة هي ما جعلني أعودُ إلى لبنان لأبدأ فيه حياتي من جديد، بعد أن كنتُ قد استقرّيتُ في باريس، وكانت الهجرةُ هي الخيار!
ويوم توفّي والدي طانيوس صليبا في 25أيار 2013 فجراً بالسكتة القلبية ولم أرَ منه سوى جثّة هامدة، كان جلُّ أمنيتي أن يتاحَ لي أن أرافق كامل مسارها قبل أن تُسلِمَ الروح! ولعلّها أحسّت في أعماقها بما أتمنّى أو بالحري لعلّها شاركتني الأمنية كما اعتادت دوماً أن تفعل. ففي صراعِها الأخير، وكأنها بحبّ الأم الأسطوري، لم تشأ أن تعطّلَ ما أتيحَ لي من فُرَص مهمّة: وقعَتْ قبل موعد ندوةٍ مهمّة عن أحد كتبي، ولم تُعطّل الندوة. ثم أُجريت لها عمليّةٌ جراحية قبل يومٍ من سفري إلى مؤتمر دُولي في حوار الأديان في تونس، وكنتُ فيه المشاركَ الوحيد من لبنان والمشرق العربي. سافرتُ الخميس (28/11/2018) مطمئنّاً إذ عاينتُها قبل يومٍ تخرجُ من غرفة العمليّات وهي بحالٍ جيّدة. وكأنها لم تشأ أن تلفُظَ النفسَ الأخير قبل أن تراني. فعدتُ الأحد (2/12/2018). وتناولنا الغداء معاً في غرفتِها. وتركتُها لأرتاحَ قليلاً من أتعابِ السفر، لأُوقَظ بعدها من نومي وأسارعَ إلى غرفتها فأراها وهي في صراعٍ مع الموت. نظرتُ إليها، فكانت تنظرُ إليّ، وتحرّكُ يدَها وكأنها تتمسّكُ بالحياة، أو أنها تُبلِغني الوصيّةَ الأخيرة… مشهدٌ لم أعاين ما يضارعُه أثراً في حياتي: أمّي تحت ناظريّ في صراعٍ مريرٍ بين الحياة والموت! وتعزيَتي الوحيدة أنّني رافقتُها مع شقيقتيّ جوهرة وشمس حتى الرمقِ الأخير.
وفي اليوم التالي كانت كلماتُها القديمة ترنّ في البال تزامناً مع جرسِ الكنيسةِ الحزين! وأوّلها تلك المقطوعة الجبرانية التي استظهرَتْها من تلاوةِ أخيها لويس المتكرّرة على مسامعها: كلماتٌ تختصر فلسفتَها في الوجود، وسيرةَ حياتِها:
رحماكِ يا نفسُ رحماكِ حتى مَ تنوحين يا نفسي وأنتِ عالمةٌ بضُعفي!
أنكرَتْ هندُ الزيلع ذاتَها، وعاشت في تكرّسٍ لأسرتِها لا يكلّ ولا يملّ، وهي تردّد كلماتِ جبران التي حفظتها عن ظهر قلب: “لقد أنكرتُ يا نفسُ ذاتي، وتركتُ ملاذّ حياتي، وغادرتُ مجدَ عمري، ولم يبق لي سواكِ، فاقضي عليّ بالعدل، أو استدعي الموتَ واعتُقي من الأسر معنّاكِ.”
أنكرت ذاتها، وهي التي نشأت منذ الصِغر يتيمةَ الأمّ، تحاول أن تذكُر لأمّها جوهرة وجهاً أو صورة، فلا تستطيع. فنقلَت اسم أمّها هذا إلى ابنتها البكر علّها تجدُ في التسمية هذه بعضاً من تعويضٍ عن يُتم مبكر. وسعت دائماً أن تُفعم أولادَها، وسائرَ أحبّائها، بحنان الأمّ الذي طالما افتقدتْه. والحبُّ الكبير هذا الذي حمِلتْه في قلبها جعل جسدَها النحيل ينوءُ من ثِقَله: “رحماكِ يا نفسُ! فقد حمّلتِني من الحبّ ما لا أطيقُه: أنت والحبُّ قوّةٌ متّحدة، وأنا والمادّة ضُعفٌ متفرّق، وهل يطولُ عراكٌ بين قويّ وضعيف!”.
أما السعادة فهي عندَها حَسْرةٌ متواصلة، وتنهيدةٌ لا تنقطع: “رحماكِ يا نفسُ! أنت والسعادةُ على جبلٍ عالٍ، وأنا والشقاء في أعماق الوادي، وهل يتمّ لقاءٌ بين علوّ ووطوءة؟!
وتبقى الكلمةُ المفتاح تختصرُ مسارَ حياتِها الطويل والذي نخالُه اليوم مضى كومضةِ عين: “أنتِ يا نفسُ تفرحين بالآخرة قبل مجيء الآخرة، وهذا الجسد يشقى بالحياة، وهو في الحياة”.(جبران، جبران خليل، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران العربية، تقديم ميخائيل نعيمه، بيروت، دار صادر، ط1، 1949، ص269).
لقد أحبّتْ أنشودةَ جبران النثرية هذه وحفِظتْها وردّدتْها. بل أكثر من ذلك فقد جسّدَتْها في حياتها، وكانت مرآةً تعكسُ هذه الرؤيا الشاحبة. وعاشَت جدليةَ هذا الصراع بين الجرأةِ والخوف، والقوّةِ والضعف، والإيمانِ والشكّ، والسعادةِ والشقاء، وبكلمة بين الحياة والموت، حتى الرمقِ الأخير.
سُئل كبيرُ متصوّفي الإسلام أبو يزيد البسطامي يوماً: بما بلغتَ ما بلغت؟ فأجاب: أنتم تقولون ما تقولون، وإنما أرى ذلك من رضا الأمّ! (السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، تحقيق عبدالرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط3، 1978، ص93)
ولستُ أدّعي أي شبهٍ بمعلّمي الجليل هذا. ولكنّني ببساطةٍ ساذِجةٍ أقول: في مسيرتي الفكرية والعملية، منذ البدايات وحتى اليوم، عثراتٌ وعقباتٌ كثيرة، ونجاحاتٌ قليلة! فالعثراتُ، وما أكثرها، من ضَعفي وحَبْوي. أما النجاحات، وما أقلُّها، فبفضل بركاتِ أمّي وإمساكها الدائم بيدي عندما أحبو. فألفُ سلامٍ على طيفها الذي لمّا يزل لي الرفيقَ الأمين، وسيبقى حتى نهاية المشوار. وباسمي وباسم شقيقتيّ جوهرة وشمس وزوجِها الدكتور وليد بشارة وعائلتيّ الزيلع وصليبا أشكرُكم جمعياً على هذه المشاركة في إحياء ذكراها.
مراسم مأتم هند الزيلع في كاتدرائية مار بطرس/جبيل، وكلمة العلّامة علي الأمين فيه في 5 كانون الأوّل 2018
على الرابط التالي:
نص كلمة السيد علي الأمين في مأتم هند الزيلع:
|
نحمدك اللهم ، تعالى مجدك وتبارك اسمك الرحمن الرحيم، ونصلّي ونسلّم على جميع رسلك وأنبيائك وجميع الصالحين من عبادك، وحسن أولئك رفيقاً.
في حضرة الموت تخشع القلوب والأبصار وتتألّم النفوس لغياب الأحباب وفقد الأعزاء، ونتوجه إلى الله تعالى أن يتقبل فقيدتنا الوالدة هند الزيلع الكريمة الغالية والسيدة الفاضلة بقبوله الحسن وأن يمنّ عليها وعلى موتانا بالرحمة والغفران وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.
يذكّرنا الموت عندما يطرق أبوابنا وأسماعنا بأن سهامه التي أصابت اليوم غيرنا سوف تصل إلينا في وقت آخر، لأنه حكم وقانون يجري على كل الناس، كما جاء في قول الله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) ويذكّرنا الموت أيضاً بأن هذه الحياة الدنيا لا نملك سبيلاً للبقاء والخلود فيها، قال الله (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون) (إنك ميّت وإنهم ميّتون)وقد جاء في الحديث خطاباً لابن آدم: (إجمع ما شئت فإنك تاركه، وأَحْبِبْ من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وعِشْ ما شئت فإنك ميّت).
فلكل واحد منّا أجل محدود ووقت معدود، (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ورصيد العمر في الحياة يتناقص يوماً بعد يوم حتى لا يبقى منه يوم، وكلما أخرجنا من رصيد العمر يوماً فلن نستطيع إرجاعه إليه حتى لا يبقى لنا في بنك الأعمار رصيد.
وهذا ما يعلمنا بأن حياتنا هنا على محدودة، وأن الحياة هي الفرصة التي منحنا الله القدير إياها للعمل الصالح فيها، والناجح في هذه الفرصة الإختبار ليس الأكثر مالاً، ولا الأكثر عدداً وجنداً، لأن كل ذلك سوف يزول ويفنى. إن الفائز والناجح في هذا الإختبار هو الأحسن عملاً، كما قال الله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور)، وميدان العمل الحسن الذي ننال به رضا الله تعالى ومحبّته هو خلق الله، كما ورد في الحديث: (الخلق كلهم عيال الله، وأحبُّهُم إليه أنفعهم لعياله) فالعمل الصالح هو شهادة الفوز والنجاح التي نأخذها ليوم الدينونة والحساب.
ويبيّن لنا الإمام علي في عظة له عن الموت هذه الحقيقة عن تناقص رصيد العمر وحتمية انتهائه:
(….أَلَا ترون إلى الماضين منكم لا يرجعون ، وإلى الخلف الباقين لا يبقون…فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم، قد حملوا إلى قبورهم غير راكبين، وأنزلوا فيها غير نازلين، فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمَاراً، وكأن الآخرة لم تزل لهم داراً، قد أوحشوا ما كانوا يوطنون، وأوطنوا ما كانوا يوحشون، إشتغلوا بما فارقوا وأضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً، ولا يستطيعون في حسن ازدياداً، أنِسوا بالدنيا فغرّتهم، ووثقوا بها فصرعتهم.
فسابقوا رحمكم الله إلى منازلكم التي أُمرتم أن تعمروها والتي رُغّبْتم فيها ودُعيتم إليها، فاستتمّوا نِعَمَ الله عليكم بالصّبر على طاعته والمجانبة لمعصيته، فإنّ غداً من اليوم قريب.
ما أسرع الساعات في اليوم وأسرع الأيام في الشهر وأسرع الشهور في السنة وأسرع السنين في العمر ..!).
هذا هو أجل الأفراد ساعات تمر وأيام تنقضي وأعمار تنتهي بحلول الأجل: (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) لا خيار لنا في تحديده انتهاءً كما لم يكن لنا خيار فيه ابتداءً عند قدومنا للحياة، فهو بيد الله الخالق وليس بأيدينا.
هذا في أجل الأفراد، وأما إذا نظرنا إلى أجل الجماعات والشعوب والأوطان فإننا نرى أن لنا فيه إرادة واختياراً، تموت الأفراد ولا يموت الشعب والوطن بموت الفرد والأفراد، فالأوطان والشعوب تبقى بعد موت الأفراد وتطول آجالها ويستمرّ بقاؤها بالتّمسك بعوامل البقاء فيها، بتضامن أبنائها بعيشهم المشترك القائم على السلام والوئام والمحبّة والإحترام، وباختيار القيادات والحكام لسبل التفاهم والتعاون في قيادة البلاد والعباد، فبذلك تستمرّ الأوطان وتبقى وتتقدّم، وأما حينما تختار القيادات سبل النّزاع والشقاق والتصارع على المكاسب الشخصية والمحاصصات الطائفية والحزبية فهناك يحصل الخوف على الوطن والشعب لأن النزاع يؤدي إلى تعريض الوطن والشعب لخطر الهدم والفناء وبذلك نكون من العاملين على تقريب الأجل للوطن والشعب بإرادتنا وسوء إدارتنا واختيارنا.
فالأوطان لا تبنى ولا تدوم إلّا بالمحبّة والتعاون على إقامة العدل، (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، ولا تقوم البلاد على الخلاف والنزاع، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله في القرآن: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وفي الإنجيل: (كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب ومل مدينة أو بيت ينقسم على ذاته لا يثبت).
قال الشاعر:
هو الحبّ بين الناس يجمع شملهم / وتزدهر الدنيا به وتقومُ
وما بُنِيَتْ إلّا على الحبّ أمّةٌ / وما عزّ إلّا بالحنان زعيمُ
وما بعد نعماء المحبّة جنّةٌ / وما بعد شحناء النفوس جحيمُ
وفي الختام نتقدم من أهل الفقيدة بالعزاء سائلين الله تعالى لهم الصبر الجميل والراحة لنفس الفقيدة الغالية ولأنفس موتانا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كلمة العلامة السيد علي الأمين في رحيل السيدة هند يوسف الزيلع رحمها الله والدة البرفسور لويس صليبا – كاتدرائية مار بطرس، جبيل، لبنان
الأربعاء 5 ك1 ، 2018
قدّاس أربعين هند الزيلع في كنيسة مدرسة فرير جبيل في 26 /12 /2018 على الرابط التالي:
كلمة د. خضر نبها في أربعين هند الزيلع.
تعازيّ الحارّة أخي لويس لك ولعائلتك الكريمة.
أوّل ما تعرّفتُ على أخي لويس كان عن طريق مؤلّفاته وهي بحدّ ذاتها مكتبة ضخمة. وبعد ذلك استضفته في برنامجي “أحسن الحديث” على قناة المنار، فوجدته إنساناً من عقل وقلب. عقل عالِمٍ، وقلب طفل متسامح. وهو ما يندر اليوم!
مازحته يوماً قائلاً: لماذا لا تتزوّج؟! فأبدى ارتياحاً. واليوم ربّما أشدّد على هذه المزحة.وبشكلٍ جدّي، بعد أن فقد الأمّ التي كانت ربّما تنسيه متاعب الحياة. وعندنا حكمةٌ تقول: المرءُ يبقى ولداً إلى حين تموتُ أمّه. بعد موتها يصبحُ رجلاً.
أخي لويس، أيها الأحبّة:
العمرُ قصير، أحلام، نوم، مرايا…
وما العمرُ إلا مثل أحلام نائمٍ، ومثل خيال الظلّ حين يُفيق. وما نراه هو أحلام، ظلال. والحياة الحقيقية في مكان آخر. وحتماً سنلتقي غداً مع من نحبّ.
أهلي وأحبّتي وأخي لويس:
اسمحوا لي أن أطرح في جمعكم هذا فكرة تراودني دوماً، وهي:
كيف كانت العلاقة بين النبي محمد، ص، والمسيحيين الأوائل؟ هل كانت علاقة ودّ واحترام؟ أم تنافر وتزاحم؟
وجدتُ أن القرآن الكريم يصف المسيح أجمل وصفٍ. فهو روح الله، وكلمة الله. وأتباعه هم {رهباناً وقسّسين، وهم لا يستكبرون}. وإن أوّل هجرة للمسلمين هرباً من الظلم، كانت إلى الملك المسيحي الذي قال عنه محمد، ص، بلسان جعفر بن أبي طالب: قال لنا محمد اذهبوا إلى الحبشة، فإن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد.
وأما البساط الأحمدي، فهو المثال على الصراحة والحبّ والاحترام والوضوح. يا تُرى إذا كانت حال النبي، ص، مع المسيحيين الأوائل على هكذا حال من الودّ والحب والاحترام، فمن هو المسؤول عن التباعد والتناحر الذي حصل لاحقاً؟!
أطرحُ هذا الأمر من باب التأمل والتفكّر والنقد المرهف، لأن النقد كما يقول التوحيدي هو كلامٌ ثانٍ مع كلامٍ أوّل.
أيها الأحبّة:
كنتُ قديماً أعتقد أن العزاء بالموت، ولم أكن أعلم أن يشمل موت الأوطان العزاء!
عِبرةٌ تعلّمتها من السيد المسيح. سألته: يا معلّم، الحِزان كثير، فأي الحِزان تعزّى؟
وقبل أن يجيبني دخل رجلٌ ملهوفٌ يبكي ويقول: بيتي يا معلّم، بيتي قد هدمه الزلزال. فتبسّم المعلّم، وقال لمريديه: اذهبو مع أخيكم، وابنوا بيته.
وما أن انصرف حتى دخل رجلٌ آخر فاقداً أعصابه ويبكي: حقلي يا معلّم قد ضاع مع السَيل.
فقال المعلّم لمريديه: ازرعوا حقل أخيكم.
ولكن عندما دخل عليه رجلٌ وهو يقول: وطني يا معلّم، وطني قد احترق. فهنا هبّ المعلّم واقفاً وهو يقول: هيّا بنا نطفئ النار، ونبني وطننا. فهو العزاء الحقيقي عند فقدان الأوطان.
وماذا عن وطننا لبنان؟ ومَن يريد الفتنة فيه؟
قال المسيح: قاتلوا الشرّير. ونحن اليوم يا روح الله، ويا كلمة الله. نحن اليوم اللبنانيين جيشاً، وشعباً ومقاومة نقاتل الشرّير حتى لا يبقى في دنيا العرب وفلسطين لا شرّ ولا شرّير.
المسيح قام بثورة، وفي اعتقادي انتصرت ثورته مع الرسول محمد. وما أروع وصف أمير المؤمنين عليّ للمسيح: كان سراجه في الليل القمر، من اهتدى به أنار الله له الطريق.
أخي لويس والعائلة الكريمة، والحضور الحبيب:
أكرّر تعازيّ لكم مشفوعة بالمباركة بالمولد المجيد الذي هو الزمن المجيد.
وكلّ واحدٍ منّا ليترحّم على فقيدتنا الغالية بطريقته ومنهجه ومسلكه. وأنا سأبدأ بنفسي بقراءة الفاتحة.
رحم الله أمّك أخي لويس، وأنت الحكيم بالنسبة لها.
مع حبّي وشكري وتقديري
خضر نبها، 26/12/2018
كلمة جندارك أبي عقل في أربعين هند الزيلع
الموتُ يَفجَعُ مهما الفكر نُعْمِلُه والقلبُ يَسألُ للأحكامِ عن سببِ
نعم أيّها السادة، الموت أحجية الأحاجي التي عجزت أعتى العقول عن حلّها.
هو اليقين الذي لا شكّ فيه وبالرغم من ذلك يغافلنا، نُفاجأ به، نر فضه، يفجعنا، يهزّنا، نثور عليه، ثمّ لا تلبث ثورتنا أن تهدأ، إمّا إيمانًا منّا بأنّ ما بعده أفضلُ ممّا كان قبله، وإمّا رضوخًا لما لا يمكن لضعفنا وقلّة حيلتنا التحكّم به.
وإذا كانت الحياة لا تكتسب قيمتها إلّا بالموت، فإنّ الموت لا يهون تقبّله إلّا لمن كانت حياته عامرة بالحياة، وهذا ما ينطبق على المرحومة هند.
وإذا كان
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلّا التي كان قبل الموت بانيها
فإنّ دار سكنى المرحومة هند هي الدار المعدّة لمن جاهد الجهاد الحسن على هذه الفانية.
هند، أمّ لويس، كما عرفتها، عقل راجح، وتوازن فكريّ ونفسيّ، كرم من دون تبذير، ترحيب من دون مبالغة، وسؤال من غير استرسال.
ما رأيتها مرّة مهمومة إلّا إذا تعلّق الأمر بأبنائها، بكلّ شاردة وواردة تتعلّق بهم، كان فخرها بهم وثقتها بقدرتهم وذكائهم لا يمنعانها من القلق عليهم. أليست أمًّا؟ أليست التضحية صفة الأمّهات؟ ولكن مع الفقيدة تخطّت التضحية كلّ المقاييس وصولًا إلى نكران الذات، وحصرًا لدنياها بأولادها وشؤونهم وشجونهم.
أمّا نحن، أصدقاء الأبناء، فلنا الحصّة الكبرى من المحبّة والاهتمام.
رحمة الله عليك أيّتها الفقيدة الغالية.
جاندارك أبي عقل