ندوة حول كتاب “نصف حياة في سطور” لريما داغر . قدّم له البروفسور لويس صليبا

د. لويس صليبا

كلمة في ندوة “نصف حياة في سطور”

 

 

كتبتُ في تُحفة ريما موضوعِ ندوتنا ([1]) دراسةً بلغ حجمُها ثلُثَ الديوان! ولمّا كان دأبي دوماً أن لا أكرّرَ في مقامٍ مقالاً قلتُه في آخر، عملاً بالقول المأثور: “لكل مقام مقال”، فهل من جديد أقولُه في هذا الديوان، وإن لا، فما مبرّر أن تكون لي كلمة في هذه النُدوة؟!

سبق لي أن قارنتُ سِفْرَ ريما هذا بوجهها، وحِرتُ أيهما الأجمل. وأستعيدُ الآن هذه المقارنة لأقول: ديوانٌ كوجه صاحبته، ووجهٌ كذاك الذي أنشد فيه أبو النواس:

  بوجهٍ سابريٍّ لو                  تصوّبَ ماؤه قطرا

يزيدُك وجهُهُ حُسْناً              إذا ما زدتَه  نظرا([2])

كذا الوجه، وهكذا شبَهُه الديوان، كلّما أمعنتَ فيه نظراً، وسبَرْتَ أغوارَه، كشف لك عن جواهرَ جديدةٍ مخبوءة.

كتبتُ الدراسةْ، والديوانُ مجموعةُ أوراقٍ مخطوطة، وما أن رأيتُه كتاباً مطبوعاً بين يديّ بغلافه البهيّ وصفحاتِه الأنيقة كشاعرته، حتى تجدّد الانطباع، بل وأوحى لي بانطباعات أخرى. إنه تماماً كالفرق بين مولودٍ منتظَر، والمولودِ نفسِه وقد خرجَ من بطنِ أمِّه. والبعضُ يسمّي المقدمة: بين يديّ الكتاب، ففرحةُ الكتاب بين يديك، كفرحتِك بطفلٍ وليدٍ بين ذراعيك.

أعجبني ما في الكتاب من مساكنة، أو بالحري تعايشٍ بين قصائد وخواطر، وهي طريقة اختطّها في عدد من كتبي. وإذا كنتُ قد أطلت الإطراقة والتبصّر في الفئة الأولى في الدراسة التي تصدّرت الديوان، فإنني اقتنصها اليومَ فرصةً لأقفَ متأملاً في الخواطر.

بعضُ خواطر الديوان ذو طابع فيسبوكيFace book ، وليس في الأمر ما يُضير. فإذا كانت صفحاتُ وسائل التواصل تقدحُ قريحةَ البعض، فمرحى بها.

 ولكن أكثرَ ما استوقفني في خواطرِ ريما أن في عدد منها بواكيرَ شطحٍ صوفي واضح!

فما الشطحُ أولاً؟ نسمّيه بالفرنسية Les Paradoxes المفارقات أو الكلمات المتناقضة، كمثل قول الشاعر:

«ماتَ اللهُ، فالحمدُ لله والشكرُ لله»([3]) فعبارته الثانية تنقضُ الأولى.

 

وكقول الحلاج (ت359هـ/922م):«من فرّق بين الكفر والإيمان فقد كفر.» ([4])

وفي خواطرِ ريما مفارقاتٌ تحيّر العقل، وتُتعبُ الذهنَ إذا شاءَ لها شرحاً وتحليلاً، كمثل قولها:«هي مجرّد لحظاتٍ، وستمضي بعد بضعِ سنين.» (خاطرة41، ص116)

أو كقولها الآخر:«أتسمحُ لي بأن أقتلَك قليلاً؟!» (خاطرة 42، ص117)

فهل في القتل قليلٌ أو كثير؟!

وشطحة ثالثة لها: «ومن قال إنهم أموات، وإننا أحياء.» (خاطرة60،ص121)

لـمَ يَستخدمُ الصوفي، والشاعرُ الشطّاح هذا التضادّ والمفارقات؟!

لأن من شأنها أن تعطّلَ عملَ الذهنِ والمنطق، وتهيئ لتجاوزِهما، أو لفهم اختبارٍ يتجاوزُهما. يقولُ المستشرق هنري كوربانCorbin(1903-1978): «التعبيرُ عمّا لا يُعبّرُ عنه، ذلك هو الشطحُ الحقيقيّ.» ([5]) 

ويواصلُ تلميذُه أستاذي المستشرق بيير لوري Loryمعقّباً وشارحاً: «الشطحُ تعبيرٌ عن حالةِ اختبارٍ روحي بلغةِ البشر، اختبارٌ يعصى فهمُه على الإدراكِ العاديّ.» ([6])

نفهمُ إذاً لـمَ لغةُ التضادّْ هذه.

ومن أشهرِ شطّاحي الصوفية وروّادِهم أبو يزيد البسطامي (188هـ-261هـ/847م) ([7])

القائل:” سبحاني ما أعظم شاني”([8]) ويليه الحلاج القائل: “أنا الحق”.

وفي خطرات ريما نلمح أحياناً نفَساً بسطامياً في الشطح، كمثل قولها:

«أستطيعُ أن أصرخَ، فتتفتّتُ الصخورْ

والأرض تثبتُ، وترفضُ أن تدورْ»

أبمقدورِ امرئ واحد أن يفعلَ هذا؟ لنستمع إلى شطحات بسطامية مشابهة، رُوي عنه: «سَمِع أبو يزيد قارئاً يتلو الآية: إن بطش ربّك لشديد(البروج/2) فقال: بطشي أشدُّ من بطش الحقّ.» ([9])

وروي أيضاً: «خاطب الحقُّ أبا يزيد في سرّه وقال : يا أبا يزيد مُلكي عظيم أعظم. فأجاب أبو يزيد: مُلكي أعظم من مُلكِكْ.» ([10])

ولريما رحلاتٌ معراجية بسطامية، وقد اشتُهر عن أبي يزيد رحلاتُه إلى ما أبعد من هذا العالم، وهو القائل: «خُضتُ بحراً وقفَ الأنبياءُ بساحله»([11])  والقائل: «كنتُ أطوفُ حول البيت أطلبُ، فلمّا وصلتُ إليه رأيت البيتَ يطوفُ حولي.» ([12]) 

وعن رِحلتِه المعراجية يروي أبو يزيد: «طلّقتُ الدنيا ثلاثاً بَتّة لا رجعة لها، ثم تركتُها وطرتُ وحدي إلى ربّي.» ([13]) ويضيف البسطامي راوياً: «قطعتُ المفاوز حتى بلغتُ إلى البوادي، وقطعتُ البوادي حتى وصلتُ إلى الملكوت، وقطعتُ الملكوت حتى وصلتُ إلى المُلك.» ([14])

ولريما رحلةٌ تذكّرُ بسفرة البسطامي، تروي: «استقلّيتُ القطارَ لأذهبَ حيث أبغي، فأوصلني القطارُ إلى مكانٍ ما وجد بعد» (خاطرة64، ص122).

ولنا أن نتخيّل مكاناً لم يوجد بعد، فكم تتشابه الرحلتان غرابةً وهدفاً!

وتروي لنا ريما رحلة لا تقلّ غرابة عن هذه، فتقول: «ذهبتُ إليه مرّة، ولم أجد نفسي بعدها.»(خاطرة67، ص123).

من هو ذاك الذي ذهبَتْ إليه؟ وكيف؟ ولـمَ أضاعَتْ نفْسَها؟!

تذكّرني شطحةُ ريما هذه  بما روي عن أبي يزيد، كيف أضاع نفسه يوماً وصار يطلبها مع الطالبين: «عن يوسف بن الحسين: كنتُ عند ذي النون، فجاءه رجلٌ، فقال: رأيتَ أبا يزيد البسطامي؟ فقال نعم رأيتُه، فقلتُ له: أنت أبو يزيد؟ فقال: ومن هو أبو يزيد؟ يا ليتني رأيتُ أبا يزيد. فبكى ذو النون، ثمّ قال: إن أخي أبا يزيد فقد نفسَه في حبّ الله تعالى، فصار يطلبُها مع الطالبين.» ([15])

ويروي بايزيد كيف ولـمَ أضاع نفْسه، فيقول: «رأيت رب العزة في المنام، فقلتُ كيف الطريقُ إليك؟ قال: أترك نفسك وتعال.» ([16]) 

وكان لأبي يزيد مُريدة من أبناء الملوك زهدت وتبتّلت، وكانت عندما تُسأل عنه، وأين هو تجيب: «هذا مكان أبي يزيد، وأبو يزيد يطلب نفسه لإيجادها.» ([17]) عبارة المريدة وعبارة ريما واحدة.

 

ويستوقفنا مفهوم ريما للحلم، واختبارها للمنامات والأحلام. ونراها تميل إلى عدم التمييز والتفريق بين حقيقةِ الحلم، وحقيقةِ اليقظة أو الواقع. تقول: «أحلامنا هي واقعُنا المستحيل

وواقعنا هو كابوسُنا الأليم» (خاطرة60، ص121)

وتقول أيضاً:

«أنام ثمّ أصحو ثمّ أنام،

حتى إنني لم أعد أعرف أيهما سبق:

النوم أم الصحوة؟» (خاطرة 68، ص123)

هنا نراها تعود لتقترب من أبي يزيد عينه الذي لم يكن يميّز بين حقيقتي الحلم واليقظة، روي عنه: «قال رجل لأبي يزيد: كيف أصبحت؟ قال: لا صباح ولا مساء، إنما الصباح والمساء لمن تأخذه الصفة، وأنا لا صفة لي.»([18])

وكان أبو يزيد يصف العالمَ بأنه وهمٌ وخداع، ويؤكّد أنه خدعة. يقول المستشرق زاهنر الذي درس سيرة هذا الصوفي وتعاليمه، إن عبارة خدعة التي يستخدمها البسطامي هي ترجمة حرفية لِ Maya شانكارا(788-820م) ([19])الفيلسوف والمتصوّف الهندي الذي يرى أن العالم وهمٌ لا فرق فيه بين حقيقة الحلم وحقيقة الواقع، فكلاهما واحد. ([20]) وعندما يبلغ المرء يقظة التحقّق يدرك أن كلّ ما سبقها أضغاثُ أحلام، ويكون كمن صحا من منام.

ونلمحُ عند ريما بذور رؤيا مشابهة. فهي لا تميّز بين كرور الأيام، وكرور الأحلام. فتعيشُ واقعها حلماً مزعجاً، تقول:«كالحلم يأتي ويذهب، ويتركُني أعاني كوابيس الصحوة.» (خاطرة42، ص117)

وتعيشُ الحلمَ امتداداً للواقع، تقول: «بتّ أخشى النوم كي لا يتراءى لي في الحلم ما أحاولُ نسيانَه في اليقظة.» (خاطرة69، ص123).

وليس الحُلم امتداداً سلبياً تحاول أن تهربَ منه وحسب، بل هو امتداد إيجابي تسعى إليه، تبوح ريما:

«وإن مرّ يوم فيه لا أراك

أُسرع إلى النوم علّني بالحلمِ ألقاك.» (خاطرة 92، ص130)

ورؤيا أبي يزيد في عدم التمييز بين حقيقتي الواقع والحلم نراها تنعكسُ في شعر المتنبي (303-354هـ/915-965م) إذ يُنشد:

هوّن عل بصرٍ ما شقَّ منظرُه         فإنما يقظاتُ العينِ كالحلمِ([21])

يشرحُ أبو العلاء المعرّي (363-449هـ/973-1057م) بيتَ المتنبي هذا بما يلي: «لا حقيقة لليقظة، كما لا حقيقة للأحلام، كذلك أحوالُ الدنيا وشدائدُها إلى زوال عن قريب، كحلمٍ مفزع يراه الإنسانُ في نومه، فإذا انتبه زال.» ([22])

نرى المعرّي العارف بالفلسفة الهندية، كما يروي كتّاب سيرته، قد أصاب كبدَ حقيقةِ تعليم شانكارا في المايا، لا بل إنه استخدم المثل عينه: الإنسان المستيقظ من حلم.

ولن أطيل الشرح والتحليل في هذه العجالة، وأختم الكلام في هذه المسألة بخاطرةٍ لريما تؤكّدُ أن الأحلام امتدادٌ للأيام، ما قد يُفهم منه أن حقيقتَهما وواقعَهما واحد، تقول: «عندما تفرّقنا الأيام، تجمعنا الأحلام» (خاطرة 57،ص120)

بعد هذا العرض والتحليل المقارَن قد يسأل سائل: “ما الذي يجمعُ ريما بمتصوّفٍ شاعر يفصله عنها أكثر من ألف سنة؟! ولـمَ هذه القرابة الروحية الظاهرة بين سالكة وشيخ من تقليدين دينيين مختلفين؟!

والجواب بسيط، وهو ما تسمّيه اليوغا: وحدة الاختبار. فالفيزيولوجيا البشرية واحدة، مهما باعدت بين الناس أزمنة وأمكنة وثقافات وديانات.  ووحدة الفيزيولوجيا البشرية هي أساس وحدة الاختبار، وكما تقول اليوغا: Spiritual experience is a physiological experience

الاختبار الروحي اختبار فيزيولوجي أولاً. وبِلُغة الكومبيوتر قد يختلف الSoftwar أي البرامج بين حاسوب وآخر ولكن ال  Hardwarأي الجهاز نفسه بينهما يبقى واحداً. وإذا استخدمنا هذا التشبيه في علم الإنسان:

Hardwar: طبيعة الإنسان، فطرته، وأهدافه

Softwar: ثقافته، مجتمعه، دينه وكلّها عناصر تصبُغُ طبيعتَه.

وشعرُ ريما، وسائرُ نصوصِها، مرآةٌ تعكس بشفافية اختباراتها، أو هو بالحري  نتاج اختبار وتأمل في هذا الاختبار، وتبصّر فيه. هو ما تسمّيه ريما الدخول في الذات، تقول لمن إليه تهدي كتابها: «إلى من جعلني أهرب إلى ذاتي، وأدخلني أغوار نفسي…فجلستُ هناك، واسترحتُ، ودوّنتُ كتابي.» (ص5)

هذه الصداقة الوشيجة مع الذات، وهذا الاستبطان Introspection هما أساس للوحي الشعري الأصيل. يقول الشاعر أحمد الصافي النجفي (1897-1977) عن الوحي الشعري، وتجربته معه: «خُلقتُ أحبّ الزوايا بحثاً عن الخبايا، فإن لم أجدْ في الزوايا خبايا، جلستُ منزوياً أفتّشُ عن خبايا نفسي، والنفسُ أوسعُ مِنَ الكون وأكثرُ منه زوايا وخبايا.» ([23])

وريما لم تقل إلا ما قاله النجفي، ولكن بأسلوبها.

فإذا كان نصُّها نتاجَ اختبار، وتعبيرٌ عن الاختبار وتأمل وتبصّر فيه، فطبيعي أن تلتقي مع أصحاب الاختبارات الأصيلة ممّن سبق ذكرُه. وأخالُها هنا كتلك المرأة ابنة الملوك التي زهدت، وتبتّلت، وتتلمذت على أبي يزيد، فعساها تعرجُ يوماً معراجها على خطى البسطامي شيخ الشطّاحين.

ويبقى أن ما قدّمتُه قراءةٌ لمحاولات ريما وخواطرِها. ولكنها ليست بالضرورة القراءة الوحيدة. فنصّ ريما، ككلّ نصّ أصيل “حمّال أوجه” وفق تعبير الإمام علي بن أبي طالب، وقد يُفهم النصّ ويشرح بطريقتين مختلفتين، بل ومتناقضتين، من دون أنْ يعني ذلك حُكْماً أنَّ واحدة منهما صحيحة والأخرى خطأ. فأهمّية النصّ أن ينفتح على تأويلات عديدة، وأن يُؤون في كل زمن، وما اختلاف التأويلات وتباين التفسيرات سوى مؤشر عل غنى النصّ، فالتعبير الشعري أرحب من أن تضبط دلالته، ومعانيه تتّسع لكل طريق.

ولو شئتُ أن أوجز بعبارة تجربة ريما في باكورتها هذه لقلت: اختبارٌ يصلُ حدّ المعاناة، وعفويةٌ في التعبير عنه قد تصلُ حدّ البراءة، وفي هذا يكمن سرّ جاذبية نصّها.

                   نقدات وملاحظات

وقد يلومني القارئ والحاضر في هذه الندوة متسائلاً: ألم تجد في خواطر  ريما وديوانها إلا ما هو جدير بالثناء والتنويه؟! وما من شيء تنقدها عليه؟!

سبق لزميلي وصديق العمر الصحافي والناقد أنطوان قسطنطين أن وجّه بدبلوماسية ولباقة ملحوظة سهام نقده إلى بعض ما استوقفه في الديوان. وأراني مستدرَجاً لأناقشه وأحاوره في بعض ما ذهب إليه.

وأبدأ بتحية شكر صادق وعميق على لفتته الكريمة بشأن دراستي التي تصدّرت الديوان. لا سيما وأنه استهل بها مداخلته القيّمة فقال: «أسجّل بداية إعجابي بالأبعاد والأعماق التي بلغها الدكتور لويس صليبا في تحليله الدقيق لنصف حياة ريما. إن مدخله إلى محاولات الشاعرة هو لعمري نصف كتاب يكتمل به المعنى والمبنى».

قد يرى البعض في قولته هذه، والتي تعتبر دراستي بمثابة نصف الكتاب الذي لا يكتمل معناه ومبناه إلا به، شطحة مبالغة. ومن ناحيتي أكتفي بشكره على هذه اللفتة، وأشير إلى أن ما جعلني أطيل الوقفة عند هذا الديوان إحساسي العميق بأنه تعبير صادق وعفوي عن تجربة أصيلة.

         مازوشية امرأة

ويردف زميلي طوني: «إذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه، فإن كتابك يا ريما يُقرأ من إهدائه.» ثم يردف متوجّهاً إلى الكاتبة: «أراكِ لا تكفّين عن جلد الذات.» وإنني لأوافقه تماماً في ما ذهب إليه. ففي الإهداء، وفي غيره ربما، مازوشية واضحة. تقول الكاتبة: «إلى كلّ من آلمني، ومن خذلني، وجعلني أهرب إلى ذاتي.« (ص5).

فها هو الخائن الذي أشعلت شاعرتنا ثورة ضدّه، وأقامت الدنيا مشهّرة بخيانته، يُثاب على هذه الخيانة، وإليه يُهدى الكتاب. أفهم أن يُسامح بروح مسيحانية على فعلته الشنيعة، ولكن أن يكافأ عليها بإهداء رقيق كهذا، فهذا ممّا لا أفهمه. أبجرّة قلم تُقلب الأدوار، فيعاقب الوفيّ، والخائن يُثاب؟! إنها لعمري مفارقة غريبة.

وأسمع صديقي الناقد يغمز مرّتين من قناة عبارة الكاتبة القائلة في فاتحة كتابها إنها قضت نصف عمرها في حضن الربّ. ومثله أستغرب هذه العبارة: أمسْكَنة هي؟! أم زعم قداسة؟! وأراني مؤثراً تفادي الإلحاح في طرح أسئلة كهذه، ومكتفياً بالقول إنها بعبارتها المبالِغة هذه قد طاش سهمها عن تأدية المعنى المقصود.

         القافية ليست عنصراً ضرورياً في الشعر

وأتوقّف عند قول صديقي الناقد: «نصٌّ هو بين الشعر والنثر في مبناه. متفلّت من القافية غالباً.»

فأسأله: وهل نحدّد الشعر بالقافية؟!

لقد جرجر كتّاب العربية عقدة القافية منذ أسجاع الجاهلية التي عرفت ذروتها في قصار السور وما عُرف بالإعجاز. فصارت القافية معجزة، وصار الشعراء يحضّرون قوافيهم قبل أن يستحضروا أفكارهم ومشاعرهم. فالشعر عندهم يكمن في القافية، رغم أنه من الشعور اشتقّ اسمه. وحقّ للمتنبي سيّد الشعراء أن يفاخر بسهولة استحضار قوافيه:

أنام ملء جفوني عن شواردها        ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ([24])

ووُضعت كبريات المعاجم كلسان العرب وغيره مرتّبة على القوافي لا على بداية الكلمة. ولا يزال النُظّام، إلى اليوم، يستخدمونها لإعداد قوافيهم قبل أن يشرعوا في النظم.

وظاهرة السجع، أي النثر المقفّى، لا مثيل لها في لغات العالم، وهي لوحدها بيّنة تُظهر كم عانينا، ولا نزال، من عقدة القافية والإعجاز. وبالمقارنة والمقايسة على اللغات الأخرى فإنّنا نجد أكثرها لا يعتمد القافية في شعره. فَ “ريك ڤيدا مثلاً، وهو أقدم أشكال الشعر وأنواعه التي عرفتها البشرية، ويعود كما بيّنا في أطروحتنا عنه إلى نحو 7000سنة، يعتمد الأوزان دون القوافي. وأشعار السريانية، وشعراؤها أمثال يعقوب السروجي، ومار إفرام السرياني وغيرهما، وهم من كبار شعراء العالم، لم يعرفوا القوافي. وكذا القول في ملاحم كبرى أمثال الرمايانا والمهابهاراتا الهنديتين وغيرهما. أفما آن لنا أن نحلّ عقدة القافية هذه أو نتجاوزها؟!

      سكيزوفرنيا اللغة بين الفصحى والمحكية

أما حديث صديقي طوني عن سكيزوفرنيا اللغة والازدواجية بين الفصحى والمحكية، فلا أملك إلا أن أوافقه عليه. أجل نحن نحلم بلغتنا المحكية التي يسمّيها البعض العامّية وكأنها للعامّة فقط دون الخاصّة، لا بل ونفكّر بها كذلك. ويكاد كلامنا الفصيح المكتوب يكون ترجمة من المحكية إلى الفصحى. أهي إذاً مجرّد لهجة محكيّة، أم هي لغة لبنانية طبقاً لمصطلح سعيد عقل؟ أكاد أوافق شاعرنا الكبير التعبير، فللغة اللبنانية بُناها وتراكيبها وقواعدها  التي تختلف عن نحو العربية وصرفها ومبانيها. ولا يستغربنّ أحدٌ قولي: إن للغة اللبنانية أو اللهجة المحكية قواعدها التي ندركها بسليقتنا ومن دون دراسة. فمن دون هذه القواعد لاستحال علينا أن يفهم كلّ على الآخر. أذكر أنني صُدمت عندما قال لي أستاذي المستشرق جيروم لونتين Jérôme Lentin([25]) أن للغة اللبنانية المحكية قواعد Grammaire فسألته مستغرباً: وكيف ذلك، فأجاب: «وهل قولك رِحتْ مثل رحتي ورحنا وراحوا؟! فها أنت تُصرّف بالعامّية فعل راح وفق ضوابط وقواعد معينة من دونها يستحيل عليّ أن أفهم ما تقول، ويستحيل عليك أن تَفهمني كذلك. وأضاف اللغة العربية الفصحى لم تكن يوماً لغة محكية يتكلّمها العرب، وإنما لغة أدبية مشتركة بين القبائل.»

أما لماذا يؤثّر فينا شعر اللغة المحكية أو الزجل أكثر ممّا يؤثر الشعر الفصيح، فلأنه ببساطة أكثر عفويةوطبعية، وأقلّ صُنعة وتصنّعاً من الفصيح. وهو يحدّثنا بلغتنا الأمّ التي نحلم بها وبها نفكّر.

ولكن هل يعني ذلك دعوة إلى التخلّي عن الفصحى، واعتماد اللبنانية لغة كتابة كما هي لغة محكية؟!

أسارع إلى القول لا. فلو خيّرت أن أتوجّه بنصّي المكتوب إلى بضعة لبنانيين، وأكثر أهل بلدي لا يقرأ، وذلك عوضاً عن التوجّه إلى مئات الملايين من العرب، أفمن الحكمة أن يكون الخيار الأول خياري؟!

ولكنه خيار ثمنه أو بالحري أرخص ما ندفع من ثمن له هذا الفصام اللغوي، أو سكيزوفرنيا اللغة التي تحدّث عنها صديقي الصحافي أنطوان قسطنطين

 

ويبقى ختاماً أن أتمنّى للكاتبة أن تعملَ دوماً على أن تصغُر المسافة وتتناهى  بين ما تكتب، وما تعيش، فتكونَ نصوصُها المقبلة كهذا، مرآةً ناصعة تعكسُ حالها. وكما تعلّم جبران ([26])الصمتَ من الثرثار، أن تتمسّك هي دوماً بقيَم الوفاء إثر تجارب الخيانة التي وقعت ضحية لها، كما تروي، وبسائر القيم التي عبّرت برهافة حسّ عنها في هذا الديوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الأستاذ أنطوان قسطنطين

 

لست من أتباع مدرسة التحليل في قراءة النص الشعري، ولا من المتزمّتين في البحث عن نوايا الشعر ومقاصده.

فقط وببساطة، أحبُّ الاستمتاع بالشعر الذي يحرّك الوجدان عقلاً وأحاسيساً.

أقول هذا لأسجّل بداية إعجابي بالأبعاد والأعماق التي بلغها الصديق الدكتور لويس صليبا في تحليله الدقيق لنصف حياة ريما داغر.

إن مدخله إلى محاولات الشاعرة وخواطرها هو لعمري نصف كتاب يكتمل به المعنى والمبنى.

أما بعد،

فإذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه، فإن كتابك يا ريما يُقرأ من إهدائه.

السيدات والسادة،

كتبت ريما لأنها تألّمت وخذلت، فهربت إلى ذاتها واستراحت في أغوارها فدوّنت.

إنه إذن اختبار جوّاني خرّجته أحرفاً، لا فكرنة أسقطتها سطوراً، ومن يبحث عن عقلنة وتحليل في قصائدها لن يجد ضالّته.

تعلن ريما سلفاً إنها قدريّة المعتقد، وتستسلم للقدرة الإلهية التي تسيّرها.

لا ينفي ذلك بروز تمرّد في قصائدها، لكنها لا تسجّل اعتراضاً وجوديا، فهي تعتزّ بأنها قضت نصف عمرها في حضن الرب.

إن الإيمان معطى لا يُناقش. إنه كالفطرة والأحاسيس يحكم العقل ولا يحكمه عقل.

ولأن الأمر كذلك، أذهب فوراً إلى النص أستنطقه علّه يبوح بمكنوناته.

نصّ هو بين الشعر والنثر في مبناه. متفلّت من القافية غالبا، وحتى من ضوابط اللغة حين يصبح نصاً محكياً باللهجة الدارجة. كأني بالكاتبة تستعين بوجدانها في لحظة التعبير القصوى فتهرب من سكيزوفرانيا اللغة بين الفصحى والمحكية، إلى ما درج عليه لسانها من لهجة اكتسبتها وتمرّست بها في حياتها اليومية كما في أحلامها. وهل من بيننا من يحلم “بالفصحى”؟

نصف الحياة في كتابتها سنوات مظلومة، وصاحبتها هي الظالمة. تسكن في حضن الرب لكنها تعترف بأنها أخطأت بحق سنواتها فجلدتها خوفا ومنعت عنها ساعات العيش ومساحات التنفس.

أهو اعتراف أم أسف أم ندم على ما فات؟

سيدتي،

هل تعتذرين من عمر اخترت أنت له مساره؟

أم أن القدر اختار عنك وأحكام المجتمع وتقاليده وضوابط الدين ومحرماته رسمت لك الدرب، فأطعت؟

أراك لا تكفين عن جلد الذات وطلب السماح والتمني لو أن الأيام تعود لتعوّضي عليها وإلا فإنك تطلبين منها أن تنساك إلى الأبد.

من عتاب السنين، إلى خيبة الأمل، فالحبيب العائد منافق، وحنينه المستجد لن يصلح فساد ماضيه.

له، تقف الذاكرة بالمرصاد، وتفضح اسمه الجارح. هو ليس سميراً ولا نديماً إنه ببساطة فعل ندم.

وتكرّ مشاهد العشق المكتوم لورقة سيجارة تحترق. ولا سبيل لنارها سوى الكتمان والغرق في الهذيان (حرفيا).

أسأل ريما، لم كل هذا الحرمان؟

لا أقصد التدخل في ما لا يعنيني من حياة خاصة، لكن نصف حياة ريما سطور كتبت وطبعت فباتت ملكاً عاماً.

عذرا إذا استنطقت النص، فهو يستفزني بوجعه وظلمه.

لكنه في مكان ما يتعرّى جميلاً في بوح صادق.

إليكم من هذا البوح بعضه في “بعيداً عني”:

“أشعر بهمسه، بدنوّه بلمسه

أقترف الخطايا لمجرّد لمحه

يا رجلاً اقتحمت كياني، أثرت بركاني، ملكت كل الثواني.

اقترب واجعل الأرض تركع لحب ما هزّها من قبل وبمثله لم تسمع”.

ارتكبت ريما خطيئة الظن. فهنيئا لها.

باحت بالنوايا ولو كان نزار قباني بيننا، لمشى إليها فاتحاً ذراعيه، وطابعاً قبلة على وجنتيها لا تنسى.

في هذه القصيدة، حب لا يخشى نار جهنم ولا يكتمل من دونه فرح الجنّة.

برافو ريما، فالعشق جنّة من نار. ولا بأس أن تسعدي. قد لا يكون حبيبك شاعراً، لكنك بالتأكيد شاعرة، تسكن كتابها بقدر ما تسكن مشاعرها.

تمارسين عشق الكلمات وبشغف تطبعين من القلبات آلاف العبر.

سطور النصف الأول من حياتك مشحونة بالوجع والخيبة وبالرغبة تضجّ في روحك والجسد.

أتشوّق لمعرفة ما سيحمله النصف الثاني من حياة أتمناها حافلة بالعطاء، وإذا خالفتك في الحياة نهجاً فإنني أحترم الحق في الاختلاف، فلا أنت مسيّرة بالمطلق كما تظنين، ولا أنا مخيّر بلا حدود كما أشتهي. والشِعر بيننا صلة وصل كصلاة بين الأرض والسماء.

 

كلمة الأستاذة مي سمعان

 

نصف حياة في سطور

“نصف حياة في سطور” للمؤلفة ريما داغر… رشفتها في ساعتين لما فيها من نضارة ونداوة ودهشة.

كما جذبني المدخل إلى الكتاب وخواطره للدكتور لويس صليبا الذي وجد أن تجربتها تهزّنا هزا، وحبّها عاصفة تزعزع، لا بل هو طوفان يأتي على الأخضر واليابس ليعيد الخلق من جديد.

أما وأنا أتنزه في الكتاب، فقد شعرت أني في غابة استوائية عذراء فيها الباسق من الشجر وفيها الشجيرة والنبات اللطيف الهش والطحالب الصخرية…. بل كل باقة متنوّعة تجاور فيها الشعر مع الخواطر والتأملات واشتملت على شذرات مما يجول في البال أو يعتري النفس من خوف ودهشة ورهبة وانسحاق.

وتعترف المؤلفة بأنها امرأة تفرغ ذاتها على الورق… وتومىء أن حياتها تشكل النصف في سطور الكتاب أما النصف الآخر فما بينها وهذا أمر بديهي لأن للنفس أغواراً سحيقة لا يدرك أبعادها حتى أصحابها.

والوحدة بحسب المؤلفة، هي مطلوبة ومستعذبة وأنا أجدها كذلك لأنها بستان الروح ومنها قطفت ريما شجي الكلام، وعميقة وهي منجم الإحساس ومصدر الوحي، وفيها تنثال الرؤى الجذلى على المخيّلة الهائمة بالجمال والمفتونة بالسحر.

وللغزل مكان ومكانة في الكتاب، وللإيحاء فيه حضور أخاذ والمؤلفة العاشقة تصغي لإيقاعات روحها، وتنبض مشاعرها، وما يعتريها من حب وشوق إما للحبيب أو للأم أو للأمكنة واللقاءات والعناق…

أما وقد شبّهت الكتاب بغابة استوائية، فإني أضيف أن في تلك الغابة فسحات الضوء والنور المساوي والايمان التلقائي الفطري والرجاء، وما يتصل باللامحدود واللامنظور…

وكيف بكاتبة أنثى أن تنسى أنوثتها أو تجانب العشق، وقد قدّسته وكرّسته مليكا وسيدا وقدرا لا منجاة منه!

أما الطفولة، فقد تربّعت في صدر الكتاب وظلّت تطفو على متن أمواجه حينا وحينا تتوارى.

وماذا عن الخيانة؟؟ تلك الآفة الجرثومة التي تنخر كما السوس جسد الحي حتى تحيله رماداً أو صقيعاً أو ترديه أو الضغينة! وقد حطّمت وانتهكت كل المحاسن والفضائل.

وللضيعة حضور بلوري شفاف في قلب ريما داغر ومنها غرفت أسمى المعاني وأرق الصور وأنقى الرؤى وفيها اختزنت واحات الوجد والألق والشغف ومنها تغرف…

أما الصداقة، فهي العنوان الأرقى في مهجة المؤلفة وفي وعيها وكأن المؤلفة في هذا الكتاب الباكورة أفرغت ما تحصّن في ذاكرتها على مدى عقدين، ثلاثة أو أكثر سعيا وراء إخلاء المكان وإجلاء الماضي كيما تؤسس في المكان مملكة جديدة محصّنة وعصيّة على النقد أو ضدّ التصدّع.

أما وقد غادرت الكتاب – الحديقة – فباتت المقاربة النقدية بعيدة عن العواطف ووجب الكلام في المستقبل الإبداعي المرتقب لريما داغر، أدرك أن الرحلة تحتاج إلى الذاكرة وأحداثها، وهي أمتعة السفر في الكتابة وعدتها… أما وقد جازت المؤلفة الكاتبة هذه المسافة الشاقة بنجاح فبات لزاماً عليها أن تحدّد مسارها بوضوح أكبر وتوحّد الرؤيا والتطلعات، وتختار الأسلوب والمسار والوسيلة جيدا… الشعر أم النثر، الوضوح أم الرمز… لأن المزج يضيّع القارىء ولا يصيب النجاح دوما. كما أتمنى عليها في جديدها القادم، أن تغرف من ذاتها، وقد انصهر فيها هذا التنوع واختمر وبات له هوية خاصة، لأن الكتابة ليست ردات فعل على أحداث خارجية، وإن شكلت لها الشرارة الأولى أو المنطلق، بل هي الذات الإشراقية التي منها ينبلج نور الكتابة والإبداع.

غابة حلا في جنباتها وأفيائها، واستعذبتُ تنوّعها ولكني سأنتظر عملاً أكثر تكاملاً وتماسكاً…

مبارك جهدك الإبداعي ريما داغر، وسننتظر ما بين السطور بكل محبة.

وشكرا

Image may contain: 4 people, indoor

Image may contain: 2 people, people on stage, people standing and shoes

 

شاهد أيضاً

Note de la o VisioConferință de Lwiis saliba (Sur Zoom) Echanimitate și mindfulness Miercuri, 18 septembrie 2024

Note de la o VisioConferință de Lwiis saliba (Sur Zoom) Echanimitate și mindfulness Miercuri, 18 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *