مقدّمة وغلاف كتاب وجه أمّي وجه أمّتي/ تأليف لويس صليبا

مقدّمة وغلاف كتاب وجه أمّي وجه أمّتي/ تأليف لويس صليبا

 

 

المؤلّف/Author: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba

مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية

عنوان الكتاب: وجهُ أمّي وجهُ أمّتي: حِكَم وأمثال ونوادر ووجوه وأزجال من التراث اللبناني

Title: The face of my mother is the face of my nation

wisdom, anecdotes, proverbs and faces from the Lebanese heritage

صوَر الغلاف: الأمامي هند يوسف الزيلع زمن الشيخوخة والخلفي أيّام الشباب

عدد الصفحات: 365ص

سنة النشر: طبعة ثانية 2024، طبعة أولى 2023

الناشر:            دار  ومكتبة بيبليون

طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان

ت: 09540256،        03847633،     ف: 09546736

Byblion1@gmail.com            www.DarByblion.com

2024©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.

 

ديباجة الكتاب

مدخل إلى بحوثه وطروحاته

 

 

وددتُ في هذا الكتاب أن أرسم صورةً لأمّي([1]) ورعيلها، فإذا بي أرسمُ عفواً، ومن دون سابق تصوّرٍ وتصميم، صورةً لأمّتي. صورة للبنان الذي كان ونشاؤه دوماً أن يكون ويبقى. ومن هنا العنوان، وإن كان فيه اقتباسٌ من جبران، الذي طالما أحبّته وحفظت أشعاره ونصوصه.

وكان من المقرّر أن يصدر هذا الكتاب في ذكرى رحيلها السنوية الأولى أي في 2/12/2019، لكن حالت ظروف انتفاضة 17 تشرين الأّول 2019، وجائحة وحجر كورونا الذي تلاها، ثم انفجار مرفأ بيروت 4 آب 2020 وغير ذلك من النوائب والمصائب الجسيمة التي ألمّت بالوطن الصغير، دون ذلك. ومع تأجيل إصداره، وتحوّل المناسبة من عائليّة وخاصّة إلى عامّة كان لا بدّ من تعديلٍ في مخطّطه وصيغته وتصميمه العامّ.

والوقتُ الإضافي الذي أتيح لي استُغلّ للتذكّر وتدوين المزيد من الأقوال والحِكم والنوادر والأمثال والأزجال. وكلّها من حصاد الذاكرة والنقر فيها. فكنتُ كلّما تذكّرت، وأنا في معرض حديثٍ أو غيره، مثلاً أو قولاً أو نادرة من مأثورات هندوما (والدتي هند الزيلع) أسارع إلى تدوينها كي لا تضيع أو تُنتسى. فتجمّعَ لديّ كمٌّ كبير من هذه المأثورات، وهي مادّة الباب الثالث من هذا المصنّف، حتى كدتُ أَقسم الكتاب إلى اثنَين واحدٌ ذو طابع عامّ يجمع كلّ ما يمتّ إلى التراث اللبناني بصلة، والثاني ذو طابعٍ خاصّ يتعلّق حصراً بوالدتي وذكرياتي عنها وأشعاري لها وما كتبتُه عن أحبّائها وأقاربها. لكنّني عدلتُ عن هذه الفكرة لارتباط القسمَين المفترضَين بعضهما ببعض. فمأثورات هندوما من حِكمٍ ونوادر وأزجال وغيرها لا يمكن أن تُفهم بمعزلٍ عن السياق التي رويت أو قيلت فيه، وبالتالي سيرتها وأحداث حياتها وسيَر أحبّائها. إنّها العلاقة الوشيجة بين النصّ ومؤلّفه، فلا يُفهم الأوّل بأبعاده بمعزلٍ عن الثاني وسيرته وظروف الكتابة والتأليف إلخ… لذا بدا لي أن فصل القسمَين يُحوج حُكماً إلى كثير من التكرار في الكتابَين المفترضَين، وهذا ما جعلني أُقلع عن هذه الفكرة.

والباب الأوّل (ب1) من الكتاب: مشاهد وأحداث من سيرة يروي بعضاً من محاور حياة هندوما وسيرتها، ولا سيّما ما يساعد منها على فهم مأثوراتها.

والفصل الأّول منه (ب1/ف1): ذكريات ولدٍ عن والدته، يسردُ بعضاً من ذكرياتي عنها. وبعضٌ من فقراته يتقاطع مع ما ورد في مصنّفٍ سابق لي([2]) لكنّ هذا الفصل (ب1/ف1) كُتب قبل تأليف الكتاب المذكور، ووُضع جانباً، حتى إنّني نسيته تماماً، وإلا لكنتُ اعتمدته في هذا الكتاب. ويبقى أن ما يميّز ب1/ف1 عمّا في “ذكريات ومشاهد” تركيزه على دور الأمّ، وهو يختلف عنه كذلك ويتميّز بما خصّ الوالدة من فقرات ومباحث تتناول شخصيّتها وبعضاً من صفاتها ومناقبها: تقشّفها، بساطتها، نكران الذات، إلخ ممّا كان له أثرٌ بعيد في نشأتي وشخصيّتي.

والفصل الثاني (ب2/ف2): عشرون عاماً في لباس الحداد، هو كلمة كاتب هذه السطور في أربعين والدته، وفيها يستعيد أبرز محاور سيرتها من يتمٍ مبكر، وفَقْدٍ لشقيقٍ تلو الآخر، وما واجهت من نكبات أخرى، كما يتوقّف عند ميولها وتأثراتها الأدبية، ليختم بأثرها في أبنائها وفي أحبّائها ومحيطها.

الباب الثاني (ب2): أشعار وقصائد إلى هندوما مجموعة من ستّ قصائد كُتبت بعد رحيل الوالدة وعنها. وقد ذُكر في آخر كلّ قصيدة/فصل تاريخ نظمها والمناسبة. ولن أتوقّف عند محتوى هذه القصائد، حسبها أنّها نتاج قلبٍ موجوع، ووجدان مكسور، وخاطر تعكّر صفوه من جرّاء غياب حبيبٍ رافق الكاتب خطوة خطوة طيلة نصف قرنٍ ونيّف من حياته.

أمّا طريقتنا في النظم وقرض الشعر فقد تحدّثنا عنها مراراً وعرضنا لها بالتفصيل في عددٍ من الدواوين السابقة، ولا سيّما في “جدلية الحضور”([3]) ثم في “سائح على ضفاف الذات”([4]) حيث تبسّطنا في عرض نظريّتنا في الشعر، وخلُصنا إلى تسمية طريقتنا في قرضه “الشعر المرسل” (صليبا، لويس، سائح، م. س، ص86-87). ولا زلنا عموماً ننتهج هذه الطريقة ونعتمد القوالب المذكورة آنفاً في هذه البحوث، فلا نرى من موجبٍ للتكرار.

ويبقى الباب الثالث: مأثورات هندوما، صُلب موضوع الكتاب ومادّته الأساسية، وعموده الفقري. وفيه أَنتَهجُ الخاصّ معبَراً إلى العامّ، وأرسمُ لوحة لهندوما تُظهر سماتها وملامحها من خلال كلمات لها وأقوالٍ ونوادر وأمثال كانت تردّدها، بعضها لها حصراً، ومن بنات أفكارها، وبعضها الآخر من مكتسبات تربية وثقافة شعبية نشأت عليها منذ الصغر.

والفصل الأوّل (ب3/ف1): حِكم وأقوال وتعابير هندوما، لعلّه الأكثر لصوقاً بها وبشخصيّتها. فهو يجمع ما حفظتُ ودوّنت خلال نحو ثلاث سنوات من أقوالٍ وحكم كانت تقولها وتردّدها في مناسباتٍ عديدة من حياتها. وأكثر هذه الأقوال والحكم والمصطلحات لها حصراً، وبعضه ممّا حفِظَتْ وأخذَت عن الأسلاف والأقرباء والأصدقاء. وقد عمدتُ إلى شرح كلّ قولٍ وذكر مناسبته باختصار لا يُخِلّ، مميّزاً بين القول أو الحكمة المكتوبة بالأسود Bold، وشرحها الذي يتلوها على سطرٍ مستقلّ بالخطّ العادي.

والفصل الثاني (ب3/ف2): نوادر ونكات من التراث اللبناني، استغرق تجميعه، ومن ثمّ كتابته وتأليفه الوقت الأطول، والجهد الأعظم. وهو مجموعة من نوادر ونكات كانت والدتي هند الزيلع ترويها لنا طيلة أكثر من نصف قرن. فحفظناها عنها، بيد أنّنا لم ندوّنها يومها. فكان عليّ كلّما تذكّرتُ نادرة أو نكتة أن أكتبها. وهنا احترتُ وتردّدتُ ردحاً من الزمن. فلو كتبتُ النكتة باللغة الفصحى حصراً لفقدَتْ الكثير من رونقها، وانتُزعت منها قدرتها على الإضحاك وأُفرغت من طابعها الكوميدي. وبالمقابل فلو كُتبت حصراً بالعامّية لصعب على العرب من أهل الخليج والمغرب فهمها وإدراك معانيها. لذا لجأتُ في أكثر الأحيان إلى حلّ وسط، فرويتُ بداية وقائع كلّ نادرة بالفصحى، ثم نقلتُ حواراتها باللغة المحكية اللبنانية ساعياً بذلك أن لا تفقد طابعها الكوميدي الفكه الضاحك والمضحِك. وكانت كتابة هذه النوادر تمريناً لي في السرد ورواية الأدب الشعبي لم آلفه في مؤلّفاتي السابقة. وعساي أكون قد نجحتُ في هذا الامتحان الصعب. وللقارئ أن يحكم لي أم عليّ.

وبعد تجميع النكات وتدوينها قسمتها تقسيماً موضوعاتيّاً (أو مواضيعيّاً) Thématique: نوادر تاريخيّة وبعضها يسلّط أضواء على جوانب من تاريخ لبنان غالباً ما بقيت في الظلّ. ونوادر أخرى دينية مسيحية، وطبّية واجتماعية، ونكات البخلاء والحمامصة. أمّا القصد من هذا التقسيم فتسهيل الرجوع إلى هذه النوادر وأرشفتها. وعساني أكون بهذا العمل المتعِب قد ساهمتُ ليس بحفظ مأثورات والدتي وحسب، بل بصون جانب محبّب من التراث اللبناني من الضياع والاندثار.

والفصل المختصّ بالأمثال اللبنانية أي الفصل الثالث من الباب الثالث (ب3/ف3) بعضه يتقاطع مع ما ورد في ب3/ف1 من أقوال وحِكم. وفيه جمعتُ عبر سنواتٍ ثلاث ما ذكرتُ من أمثال كانت أمّي هندوما توردها في أحاديثها. وكان كلامها مرصّعاً في الغالب بالكلمات المأثورة والأمثال، تسعفها في ذلك ذاكرة حادّة وقويّة وحسّ شعبي حِكَمي متطوّر. والأمثال خبرة الأجيال، وعصارة حكمة شعبية عمادها التجربة والمعرفة الاختبارية المتراكمة عند شعب ما. “من جرّب المجرَّب كان عقله مخرّب” يقول المثل اللبناني مؤكّداً على أهمّية وضرورة الاستنارة بتجارب الآخرين والسابقين. ومع النقر المتواصل في الذاكرة تجمّع لديّ كمٌّ لا بأس به من هذه الأمثال فقارنتُها بما هو مدوّن في عددٍ من المصادر في هذا المجال، كما ذكرتُ في مطلع ب3/ف3، وعمدتُ إلى شرح أكثرها بإيجاز، وعساني أكونُ قد وُفّقتُ في الجمع والشرح، وألقيتُ بالتالي بدلوي في هذا الجانب العزيز من التراث اللبناني، فأخرجتُ درراً سبقني الروّادُ إلى جمع بعضها، وتفرّدت بجمع أو بشرح بعضٍ آخر منها كمّاً كبيراً كان أم صغيراً! ولا أظن أنّ السابقين من الباحثين في التراث من أمثال أنيس فريحة والمونسنيور ميشال فغالي وغيرهما ممّن ذكرتُ في مطلع ب3/ف3 قد تركوا زيادة كبيرة لمستزيد!

وتبقى إشارة أخيرة في هذا المجال، ألا وهي أنّني رضعتُ الأمثال والحكايات والنوادر وحبّها والغرف من معينها مع الحليب، فكانت بالتالي جزءاً لا يتجزّأ من ثقافتي العامّة، وشخصيّتي الأساسية Personnalité de base ومن هنا اهتمامي بها، وسعيي للمساهمة في حفظها وصونها من الضياع، فهي خبرة شعبٍ وأجيال، وعلى اللاحقين أن يستفيدوا من تجارب السابقين إذا شاؤوا فعلاً أن يبنوا حضارة ويطوّروا ثقافة تقف على قدمَيها بين ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتها.

والفصل الرابع (ب3/ف4): أزجال وأغانٍ من التراث اللبناني. كانت والدتي هند الزيلع صاحبة صوتٍ فيروزي ألفتُ بل طربتُ وعشقتُ أن أغفو وأصحو على إيقاع شدوها الجميل. وكانت تحفظ الكثير من الأشعار والأغاني الشعبية ممّا لم أجده مجموعاً في كتب التراث التي عدتُ إليها. فرأيتُ من المفيد أن أجمع وأوثّق في ب3/ف4 ما حفظته أو ما أذكره عنها في هذا المجال. أغانٍ شعبية بعضُها راج في مناسبات تاريخية واجتماعية معيّنة، أو أزجال وأبيات تداولتها الألسن في زمنها، ولم تدوّن. وكلّ علمٍ ليس في القرطاس ضاع يقول الشاعر العربي([5]).

ومن بين عشرات الأغاني التي كانت هندوما تغنّيها لي اخترتُ اثنتَين كانتا الأقرب إلى مزاجها الحزين في الغالب والأبعد أثراً فيّ. واحدة للشاعر ميشال طعمة غنّتها هيام يونس: “يا حبيب الدار” وأخرى لميشال طراد غنّتها فيرزو “بِكوخنا يا بني”.

وكلّ أغنية من هاتين لها في القلب وفي الذاكرة الحميمة مكانة مميّزة. لذا أوردتُ النصّ الكامل لكلّ قصيدة، ثم توقّفتُ عند كلّ واحدةٍ من الدرّتين محلّلاً متفحّصاً الخصائص الشعرية والجمالية والميّزات. والجدير ذكره في هذا المجال أن أكثر نقدنا الأدبي أحكامٌ جاهزة وعموميّة تطغى على تحليل المضمون. وسنعود إلى تبسيط الكلام في هذه المسألة وإيراد بعض الأمثلة. والمهمّ هنا أنّنا في هذا الفصل قدّمنا مساهمة متواضعة قوامها تحليل نقدي لبعضٍ من نفائس قصائدنا وأشعارنا التراثية ممّا لم ينل بعد ما يستحقّ من عناية واهتمام.

والباب الرابع: راحلون من أحبّاء هندوما، يروي سيرة عددٍ من أصدقائها وأحبّائها.

والفصل الأوّل (ب4/ف1): حكاية ديكٍ من المهد إلى اللحد. هو ديك هندوما الذي كان الحيّ بأسره يصحو على صدح صوته فجر كلّ يوم. عاش بأبّهةٍ وجلال، ومات ميتة جليلة يندر حتى بين العاقلين من يموتها. فوجدتُ في حياته وموته عِبرة لي ولكلّ امرئ يفكّر ويستبصر، فكتبتُ حكايته من المهد إلى اللحد في اليوم الذي رحل فيه، وذلك من فرطِ تأثّري بهذه الميتة الجليلة، مستذكراً تحفةً شعرية أحببتُها وترجمتها إلى العربية ألا وهي قصيدة موت الذئب La mort du Loup للشاعر الفرنسي ألفرد دو فينّي (1797-1863).([6]) ([7]) وكما دعا دو فينّي نظراءه بني البشر أن يتعلّموا من ذاك الذئب كيف يموتون، كرّرتُ هذه الدعوة إثر مشاهدتي العيانية لموت ديك هندوما. وبعدُ يحدّثك بعض الجهّال قائلين إن الحيوان “ينفق” والإنسان “يموت”. وكأن الأوّل غير جدير بلفظة موت. في حين أنه ومن الناحية الفيزيولوجية والطبّية، فظاهرة الموت تبقى إيّاها عند الإنسان والحيوان. لا بل إن هذا الأخير يعرف، وبالفطرة ربّما، وأكثر من كمّ كبير من البشر كيف يموت. وسبق لي أن بحثتُ في هذه الحذلقات والمغالطات اللغوية، وبيّنت خطلها.([8])

وحكاية ديك هندوما هذه كتبتُها بالعربية ثم ترجمتها إلى الفرنسية وألقيتُها بنصّيها الأصلي والفرنسي في محاضرةٍ على Zoom الأربعاء في 22/6/2022، ولاقت استحساناً من جمهور المشاهدين العربي والفرنسي. وقد تجمّع لي العديد من النصوص والقصائد التي كتبتُها بالعربية ثم ترجمتها إلى الفرنسية، وعساني أصدرها في كتابٍ فرنسي في يومٍ ما.

والفصل الثاني (ب4/ف2): تريز سمعان صليبا واجهت الموت كما الحياة ببسمة، يحكي قصّة صديقةٍ وجارة ونسيبة لأمّي كانت بمثابة أمّ ثانية لي. وقد عرفَت كيف تعيش بفرح، وكذلك كيف تموت كما عاشت، ابتسمت للموت آخذة صورة لها لتكون صورة الأربعين التي تُرفع في الكنسية في قدّاس ذكرى الأربعين وتوضع من ثمّ في صالون بيتها للتذكار. أحببتُ هذه المرأة الوفيّة في صداقتها لأمّي ولسائر أحبّائها، وأثّر فيّ فرحها الدائم والذي رافقها حتى الموت، ووجدتُ في ذلك عبرة لي ولكلّ معتبر. فرويتُ قصّتها، لا سيما وأنّه طُلب منّي أن أفعل ذلك في تذكارها الأربعيني.

والفصل الثالث (ب4/ف3): وجوه من حصارات، أرّختُ فيه لوجوه قروية أصيلة من معارف والدتي وأحبّاء عمّي الخوري فرنسيس صليبا (ت أيار 1996). وهو في الأصل كلمة ألقيت في كنيسة سيدة حصارات/قضاء جبيل. ووجدتُ أنّها تتوافق مع السياق العام لهذا المصنّف، فأدرجتها فيه، ولا سيما وأنّها من جوّه وروحيّته.

والفصل الرابع (ب4/ف4): قتيل البراءة: سعدالله الزيلع. هو شقيق والدتي وقد قضى ظلماً على الطريق. وما أكثر الذين ظُلموا في حرب لبنان الغاشمة (1975-1990). تردّدتُ في إدراج هذا النصّ فصلاً من هذا السفر، لا سيما وأنّه نتاج قلمٍ طريّ العود، وغير متمرّس في حِرفة الكتابة. فهو نص الكلمة التي ألقيتُها في كنسية مار جرجس/نهر إبراهيم في 1/12/1978 في أربعين خالي سعدالله الزيلع. تردّدتُ، كما أسلفت، لأنّه من بواكير ما كتبتُ وأسلوبه وبعض أفكاره وتعابيره الدينية الحارّة كلّها تعكس أجواء فتى يافع لمّا يزل يتلمّس طريقه في عالم الفكر والقلم. لكنّني عدتُ وأقلعتُ عن تردّدي وأوردت هذه الباكورة كما كُتبت يومها، فليس لي أن أخجل ممّا سطّرتُ في بداياتي، وإن بدا لي اليوم “فجّاً” لم يستوِ بعد، هذا أوّلاً، وثانياً فهو نصّ يقع تماماً في سياقه ومن شأنه أن يسلّط أضواءً كاشفة على الكثير من الأحداث والتفاصيل التي ذُكَرتْ في الباب الأوّل، وتُفهم، بالتالي على ضوئه، حقيقة معاناة أختٍ (أي والدتي هند) فقدت على التوالي شقيقَيها في ظروفٍ قاسيةٍ ظالمة.

والباب الخامس والأخير، هو كما الباب الثاني مجموعة قصائد أوّلها (ب5/ف1) عن والدي طانيوس الياس صليبا (ت25/5/2013) نُظمت في ذكرى رحيله الرابعة، وثانيها (ب5/ف2) عن حكيمة ومعلّمة هي بمثابة أمّ روحية لي واسمها ناني ما Nani Ma،.وقد أتيحت لي فرصةٌ ذهبية أن أجلس وأتأمّل في الكهف الذي أمضت فيه سنوات تتفكّر وتتبصّر على ضفاف الغانج. وثالثها (ب5/ف3) نشيدٌ للنور، ولا سيّما للاستنارة. وهذه الأخيرة قد نلمح قبساً منها في حضور وجوه تحمل إلينا بعضاً ممّا في داخلها من نور، ومن نورٍ إلى نور يشعشع العمر بالنور. وآخر هذه المقطوعات (ب5/ف4) صلاتي اليوميّة وهي دعاء، أو بالحري مجموعة أدعية بسيطة تلخّص مُثلي الروحية وما أصبو وأتوق إليه. أضعها خاتمة لهذا السفر عساها تحمل للكاتب والقارئ بعضاً ممّا تستمطر من بركات.

وقبل أن أنهي جولتي في مضامين هذا الكتاب وفصوله ومحتوياته، أرى من الواجب أن أشير إلى أمرَين قد لا يتّضح كامل السياق بمختلف أبعاده من دون ذكرهما.

قاموس من لحمٍ ودم

الأوّل أهمّية المعرفة الشفوية التي نقلتها إليّ والدتي هند الزيلع، وأثرها البعيد والعميق في تكوين ثقافتي إنساناً وباحثاً في آن. ولستُ بمتفرّدٍ في هذا المجال، بل أنا مجرّد مثل عملي وتطبيقي لقاعدة عامّة، بل وسنّة من سنن الحياة. فالثقافة الشفوية لعبت ولا تزال دوراً محوريّاً في نشأة مختلف الحضارات وتطوّرها. وكانت هندوما بحكمتها الاختبارية المنبثقة عن تجربة وعن تبصّر في هذه التجربة، وكذلك بما اختزنت وحفظت من مأثورات تراثية وغيرها بمثابة قاموسٍ حيّ لي، رافقني ردحاً طويلاً من الزمن امتدّ لأكثر من نصف قرن، وواكب بالتالي نشأتي الفكرية وتطوّري العامّ. قاموسٌ منه استقيتُ الكثير من معارفي وتعابيري ومصطلحاتي. ومعجمٌ حيّ مُحيي يذكّر بقاموس الشاعر ميشال طراد الذي يدرس هذا السِفر ويحلّل بعضاً من درره ونفائسه. يروي الناقد والأديب توفيق يوسف عوّاد في هذا الشأن في مقالة نشرها في مجلّة المكشوف 1941: “قاموس ميشال طراد! هل تعرفه؟ هو قاموس لا كالقواميس. قاموس الناس من ورق وحبر، وقاموسه من لحمٍ ودمّ، بل من جلدٍ وعظم. عجوزٌ فوق الثمانين يستمع ميشال طراد إلى أحاديثها وحكاياتها ويأخذ من فمها الأدرد [أي الخالي تماماً من الأسنان] الكلمات اللبنانية المعتّقة، ويتسقّط كنوزاً من التعابير ضاعت خلال هذه اللهجات اللقيطة التي درجت عليها ألسنتنا. هي جدّته حفظها الله له”([9])

ويتابع عوّاد روايته الشيّقة: “ذات يوم استحقّ عليه [ميشال طراد] دينٌ من الديون، فجاء مأمورو الحجز إلى بيته ليحجزوا. فانتصب فيهم، ونبش شَعره وصاح: ماذا تريدون؟ الحجز على ما أملك؟ لستُ أملك إلا قاموسي! تعالوا واحجزوا عليه إذا شئتم. فلمّا دلّهم على القاموس الحيّ، نصف الميت، فضّلوا أن يتركوه له، وذهبوا آمنين” (عوّاد، م. س، ص84).

ونِعم ما كان يملك هذا الشاعر الفحل! وقد امتلكتُ، من ناحيتي، قاموساً مشابهاً كان لي خير رفيق في مسار شائك ومسيرة طويلة! وتعلّمتُ منه الأمثال اللبنانية، والكثير من التعابير الشعبية المنسية، والنوادر والحكايات المعبّرة، وها أنا أنقلُ في هذا السِفر بعضاً ممّا تعلّمت.

نقدُنا الأدبي أكثره أحكامٌ جاهزة

والأمر الثاني الذي أرغبُ في مناقشته سبق لي ذكره في هذه المقدّمة. وهو من صُلب اهتمامات هذا المصنّف وموضوعاته. ألا وهو مسألة النقد، وما تفتقده المؤلّفات النقدية في أدبنا من تحليل للنصوص وسبر أغوارها وأبعادها. فخلال إعدادي للدراسة الموجزة عن الشاعر ميشال طراد (ب3/ف4) وتحليل واحدة من درره اطّلعت على ما كُتب عن هذا الشاعر مذ بدأ بنشر أولى إبداعاته وحتّى اليوم. فتبيّن لي أنّه بمعظمه أحكامٌ جاهزة وعامّة طغت على تحليل المضمون. فشيخ النقّاد مارون عبّود مثلاً أشار إلى تأثير طراد وديوانه جلنار في سعيد عقل وديوانه رندلى، وهو حكم نقدي على درجة كبرى من الخطورة، ورغم ذلك، فهو لم يقدّم بيّنة على ما يقول، وهي على المدّعي كما تنصّ على ذلك القاعدة القانونية الشهيرة. وجاء بعده الشاعر/الناقد جورج غانم فزعم زعمه دون أن يكلّف نفسه عبء تقديم الأدلّة على ما يقول. وكلّ ذلك معروض بالتفصيل في ب3/ف4. واستعرض الباحث طوني طراد الذي درس تجربة ابن عائلته ميشال طراد الشعرية مَن سبقه في الكتابة عنه، فرأى: “تريز الخوري أعدّت عن ميشال طراد رسالة ماجستير، لكنها لم تغُص في رمزية القصائد وجماليّتها”([10])

ويتابع طوني طراد: “أورد مارون عبّود خطرات تحليلية عن جلنار ميشال طراد، لكنّه حصر همّه في مقدمة سعيد عقل للديوان (…)، وعرض جورج غانم لبعض المقاطع من ديوان جلنار من دون تحليلها. (…) وذكر توفيق يوسف عوّاد بعض الحوادث الطريفة التي حصلت مع الشاعر، واكتفى بإسباغ النعوت عليه من دون تحليل، وهذا ما فعله فؤاد سليمان. (…) وسعيد عقل في مقدّمة ديوان جلنار لم يتطرّق إلى تحليل أيّة قصيدة من قصائده، بل اكتفى بمدح شاعرية ميشال طراد. (…) وقال موريس عوّاد إن ميشال طراد أخذ الجمالية الشعرية عن سعيد عقل، إلا أنّه لم يضع أي إثبات يدلّ على صحّة كلامه”. (طراد، طوني، م. س، ص6-8).

ويختم طوني طراد عرضه المفصّل: “وكُتِبت مئات المقالات في الصحف والمجلّات عن قصائد ميشال طراد، لكن الأحكام الجاهزة والمطلقة طغت على تحليل المضمون” (طراد، طوني، م. س، ص8).

ومحصّلة بحث طوني طراد وعرضه تتقاطع مع ما لحظناه نحن خلال اطّلاعنا الموسّع على ما كُتب عن ميشال طراد.

وحده حسين مروّة عرض تحليلاً مجدياً لبعض قصائد ديوان “ليش” لميشال طراد.([11]) في حين قدّم غالب غانم موازنة مفيدة بين قصائد من ديوانَي العندليب لعبدالله غانم وجلنار لطراد.([12])

ولن نتبسّط ونطيل البحث والعرض في مقدّمة محدودة الحجم ولا تتيح لنا المزيد من الدخول في التفاصيل، لذا نكتفي بما أوردناه ونحيل إلى ما سبق وذكرناه عن حاجتنا إلى مقاربة تحليليلة وعلمية للنصّ. (صليبا، لويس، ذكريات، م. س، فق: المقاربة العلمية للنص، ص340-342). ونخلص إلى كلمة موجزة مكثّفة ومفادها أنّنا لا نزال نفتقر إلى الكثير من الجهد الموضوعي والتحليلي والعلمي البعيد عن التعميمات والأحكام المنمّطة أو الستاندرد Standard في مجال الدراسات النقدية.

سِفرٌ عفوي يجمع البساطة وعمق الدلالة

ويبقى أنّني، ومن الناحية الشخصية، شئتُ في هذا السفر أولاً أن أرسم لوحة للغالية والحبيبة الأولى كما سبق وأسميتُها([13]) أستعيدُ فيها سماتها وقسمات وجهها من ذكرياتي عنها، ومن كلمات وعبارات وحِكَم كانت تردّدها: بعضها أمثال حفظَتها وكانت تستخدمها في الوقت المناسب، وبعضها الآخر نوادر ونكات كان يحلو لها أن ترويها لنا، وهي الـمُحبّة لأجواء الفكاهة والفرح رغم حزنها الدائم، وبعضها عبارات وحكم هي نتاج حكمتها الاختبارية وتجربتها في الحياة، وكم كرّرناها في العائلة نقلاً عنها.  وشئته في الأساس كتاباً عفويّاً يجمع البساطة إلى عمقِ الدلالة، وصورة عنها إذ كانت في حياتها بسيطة على عمق.

وقد آليتُ جهدي فيه أن أُعيد رسم صورةٍ لها هي أقرب ما يكون إلى واقعها وسيرتها وحياتها انطلاقاً ممّا تركته من أثرٍ فيّ وفي محيطها. وذلك علّني كلّما التقطتُ هذا الكتاب، وفلفشتُ أوراقه وصفحاته يرتسم وجهها بملامحه المعبّرة والجذّابة في مخيّلتي وأمام ناظريّ. هذا من الناحية الشخصية كما ذكرت، بيد أن الخاصّ في هذا المصنّف يبقى مجرّد معبرٍ إلى العامّ.

مصنّفٌ يصعب تنميطه

ويصعب في الحقيقة تصنيف هذا الكتاب وتنميطه: فلا هو بالمذكّرات وإن حوى الكثير منها، ولا هو بمجموعة أمثال ونوادر، ولا هو كذلك بديوان قصائد وجدانية ورثائية: إنّه شيء من كلّ ذلك، وبورتريه لامرأةٍ أحبّت أسرتها ومجتمعها وتركت في كلّ منهما أثراً حميداً يحسن تذكّره وتسجيله وتدوينه كي لا يضيع بمرور الأيّام.

وهو كتاب يجعل أحياناً من الخاصّ وخاصّ الخاص بمتناول العموم. أوليست تجربة كلّ امرئ الخاصة هي في الحقيقة ثروة الجماعة والمجموعة؟! وذلك علماً أنه لا يقتصر على التجربة الخاصّة، بل يجعل من الذاكرة الفردية وما اختزنت من مأثورات ونفائس رافداً للذاكرة الجماعية، والإرث الثقافي العامّ.

ما بيضلّ من الناس إلا كم كمشة حكي

وذكرياتُ ولدٍ عن والدته هي بعض فصول هذا السفر. وهو ولدٌ ما عرف ولا درى أنّه هرم وصار كهلاً إلا عندما استيقظ من حلمٍ طويل ليجد نفسه يتيم الأمّ والأب. ذكرياتٌ تحمل عبرة للخاصّ وللعموم. والمثل اللبناني يقول: “ما بيضلّ من الحياة إلا شويّة ذكريات”. (عمار، شوقي، م. س، ص6/17). فهذه الذكريات، وهي أبرز ما بقي من أمّ حنون، كنتُ ضنيناً بها أن تضيع لما فيها من فائدة عامّة، لذا دوّنتها لتبقى.

وأقوال هي وحِكم ونوادر وأمثال. و”ما بيضلّ من الناس إلا كم كمشة حكي”، يقول مثلٌ لبناني آخر. (عمار، م. س، ص6/17). وكمشة الحكي التي بقيت من الراحلة الحبيبة هندوما تستحقّ أن تدوّن وتُحفظ لما فيها من حكمة وبُعد نظر ومعرفة اختبارية مفيدة لكل من أراد أن يتفكّر ويستبصر.

وختاماً ها إنّني أضع بين يديّ القارئ محصّلة عملٍ دؤوب امتدّ لفترة أربت على ثلاث سنوات. وهو مصنّف يتجاوز الطابع الخاصّ ليقدّم إسهاماً يحمل في العديد من جوانبه طابع الجُدّة، إذ يحوي بين ثناياه مألفة وباقة من نفائس التراث اللبناني ومأثورات من الأقوال والأمثال والنوادر والأزجال والأغاني وغيرها ممّا لم يسبق لأكثره أن ضمّته دفّتا كتاب من قبل. وهو لا يكتفي بالجمع وحسب بل يعمد كذلك إلى الشرح والتحليل ويقارب النصوص والدرر التراثية بمنهجيّة علمية وأكاديمية. فعساه يكون حافزاً لمزيد من الإسهامات والبحوث في مجال التراث، وكذلك لمزيد من إقبال القرّاء على تذوّق هذا الإرث الثقافي القيّم والتعمّق فيه والإفادة منه.

QJCSTB

اللقلوق/جبيل في 19/8/2022

[1] -هي هند يوسف الزيلع المولودة في العقيبة/كسروان 1931، والمتوفّية في مشفى البوار في يوم ذكرى مولد زوجها والدي طانيوس الياس صليبا (ت25/5/2013) مساء الأحد 2/12/2018.

[2] -صليبا، لويس، ذكريات ومشاهد وشخصيّات من لبنان في الستّينات والسبعينات 1960-1980، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2023، 490ص.

[3] -صليبا، د. لويس، جدلية الحضور والغياب: بحوث ومحاولات في التجربة الصوفيّة والحضرة، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2018، ب1/ف4: ص53-65.

[4] -صليبا، د. لويس، سائح على ضفاف الذات: حكاية مسار صوفي وسيرة ذاتية شعرية، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2014، ب1: سياحة على ضفاف الشعر، ص25-87.

[5] -صليبا، د. لويس، عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار؟ جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2018، ص8.

[6] -De Vigny, Alfred, Poèmes complets: Poèmes antiques et modernes, Les destinées, préface de Marcel Arland, Paris, Gallimard, 1967, pp225-228.

[7] -صليبا، د. لويس، القرابين البشرية في اليهودية القديمة: ذبيحة يفتاح في التوراة والتلمود والميثولوجيا والمسيحية والإسلام والآداب، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2020، ب3/ف3، فق: قصيدة موت الذئب، ص318-320.

[8] -صليبا، لويس، القرابين، م. س، ب3/ف3، فق: نفق ومات مرادفان، ص320-322.

[9] -عوّاد، توفيق يوسف، فرسان الكلام: أدب وأدباء، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط1، [1967]، ص84.

[10] -طراد، طوني، ميشال طراد: عصفور من لبنان قصائد ودواوين، الكسليك/لبنان، منشورات جامعة الروح القدس، ط1، 2013، ص5.

[11] -مروّة، حسين، دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي، بيروت، مكتبة المعارف، ط3، 1988، ص321-331.

[12] -غانم، غالب، شعر عبدالله غانم دراسة في البنية والمحاور، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، ط1، 1995، ص124-129.

[13] -صليبا، د. لويس، مقامات الصمت: محاولات وأبحاث في الصمت والتصوّف واليوغا، تقديم المستشرق بيير لوري، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2016، ب3/ف1: الحبيبة الأولى، قصيدة لوالدتي هند الزيلع، نظمت في أشرم تشاندرا سوامي، دهرادون/الهند في 25/2/2001، ص151-159.

 

شاهد أيضاً

Comment contrôler nos émotions/ VisioConférence de Lwiis Saliba sur Zoom, Mercredi 22 Janvier 2025

Comment contrôler nos émotions/ VisioConférence de Lwiis Saliba sur Zoom, Mercredi 22 Janvier 2025 La …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *