مجلّة الأمن/بيروت، مكتبة الأمن/حزيران 2023
بقلم أ. د. لويس صليبا
مراجعة لكتاب الياس جرجوس “كمال الصليبي الحوار الأخير”/دار نلسن-بيروت، بقلم لويس صليبا
“كمال الصليبي الحوار الأخير حول التوراة ولبنان والذكريات”، تأليف الياس جرجوس، صدر عن دار نلسن/بيروت في 157ص.
مقالة صدرت في مجلّة الأمن بيروت، عدد حزيران 2023
هي مجموعة حوارات ومقابلات أجراها المؤلّف جرجوس مع المؤرّخ اللبناني المعروف كمال الصليبي (1929-2011) استمرّت حتى عامه الأخير. (ص5).
وميزة هذا الكتاب تكمن في أن الصليبي يعرض في هذه الحوارات وبأسلوبٍ شفوي مبسّط مجمل آرائه ونتائج بحوثه بصورة موجزة ومكثّفة ممّا يتيح للقارئ أن يكوّن فكرة عامة عنها.
وبشأن تاريخ لبنان المعاصر يقول الصليبي (ص100): “قبل عام 1920 لم يكن هناك كيان رسمي اسمه لبنان، ولا كيان رسمي اسمه سوريا، ولا آخر اسمه فلسطين. هذه الكيانات جميعها هي مِن صُنع الحلفاء وتحديداً بريطانيا وفرنسا بعد القضاء على الدولة العثمانية”.
وهنا يرى الصليبي خاصّية للبنان تفرّد بها دون سائر الكيانات الناشئة الأخرى، فيتابع قائلاً: “الشيء الوحيد الذي تميّز به لبنان في هذه الصناعة للكيانات العربية المستحدثة هو أن مشروعاً لكيان اسمه لبنان الكبير كان معَدّاً للتنفيذ منذ ما قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وأصحاب هذا المشروع كانوا الموارنة وغيرهم من المسيحيّين الكاثوليك”.
ولا نرى أن الصليبي قد جافى الحقيقة التاريخية فيما ذهب إليه هنا. فنقطة انطلاق لبنان ككيان راهن كانت فعلاً مع إعلان لبنان الكبير، بيد أنّه لم يكن كياناً مرتجلاً كما المملكة الأردنية مثلاً. فطيلة عهد المتصرّفية عمل الموارنة، وعلى رأسهم بطريركيّتهم، وسائر الكاثوليك على توسيع حدود وطنهم وإعادة ما سمّوه الأقضية الأربعة المسلوخة عنه والمدن الساحليّة. وهذا الإعداد المتواصل والدعوة المستمرّة لهذا المشروع هو ما أمّن له الوصول إلى الخاتمة السعيدة. وهو ما سبق وقلناه في دراستنا “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي”، فلأن الموارنة كانوا يعرفون ماذا يريدون ويعملون له بدأب وصلوا إلى ما يريدون. أمّا الفرقاء الآخرين فكانوا ضائعين ومنقسمين بين الدعوة إلى سوريا كبرى، أو دولة عربية كبرى، أو هلال خصيب إلى ما هنالك من مشاريع وتسميات.
ونتابع مع الصليبي تحليله إذ يقول: “الفئات المسيحية والإسلامية التي تحفّظت تجاه قيام الكيان اللبناني في البداية، ولمدّة عقود من الزمن، حمّلت الموارنة ولمدّة عقود، ما حمّلتهم من مسؤولية بشأن هذا الكيان. وربّما صحّ القول بأن الأكثرية الواضحة من هذه الفئات، وهي الرافضة للكيان اللبناني أصلاً، أو المتحفّظة تجاهه تحوّلت منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية من ذمّ الموارنة إلى الاعتراف بفضلهم التاريخي لكونهم هم الذين أوجدوا لبنان أصلاً، بل ولبنان الكبير تماماً كما هو من الناحية الجغرافية”.
هل يمكن أن نقول إن تجربة لبنان الكبير قد نجحت إذاً وانقلب المعارضون لها إلى موالين، ووطنيين كسائر من سعوا إلى إنشاء هذا الكيان؟
ليس الجواب بأمرٍ متاحٍ اليوم ولا بدّ من انتظار عقود أخرى! والصليبي نفسه لم يجازف بالإجابة، بل اكتفى بالإشارة إلى تعقيدات الوضع اللبناني والتي اعتبرها من حسنات موطن الأرز وسيّئاته في آن، فقال (ص101): “لبنان شفّاف وتعقيداته واضحة للعيان، وسهلة الاستغلال عربيّاً ودوليّاً. هذه هي نقطة الضعف الأساسية في لبنان، ولعلّها في الوقت ذاته مصدر قوّته”.
ويُطِلّ الصليبي على التاريخ العثماني إطلالة نراها واقعيّة ومنصفة. فهو يرى بداية أن العشائرية التي كانت سائدة في زمنها كانت السلطنة مجرّد وريث لها (ص102): “عانت الدولة العثمانية من الواقع العشائري العربي مثلما عانت منه قبلها دولة المماليك وغيرها. فالعشائرية متأصّلة في بلادنا بحيث لا تحتاج إلى من يحتضنها لتأمين انتقالها من جيلٍ إلى جيل”.
ويحذّر الصليبي من أن الحقبة العثمانية قد غدت، مع الوقت وبتأثير الانتداب، مشجباً يعلّق عليه كل المشاكل (ص103): “عندما اقتسم الفرنسيّون والبريطانيّون بلادنا، وأقاموا عليها انتدابهم، علّمونا أن ننسب كلّ السلبيّات في أوضاعنا إلى الحكم العثماني البائد. ونحن صدّقناهم. وقد حان الوقت أن نعيد النظر في الموضوع وأن نتساءل: هل كلّ ما قاله لنا البريطانيّون والفرنسيّون عن العثمانيين كان بالضرورة صحيحاً وخالياً من الأهواء؟”
وبالمقابل فلا يفوت الصليبي أن ينبّه من أن نغمة نسبة أسباب مشاكلنا تعود بمجملها إلى الاستعمار لم تعد مجدية بل هي بالحقيقة عائق بوجه تطوّرنا (ص106-107): “لن نتقدّم إطلاقاً إذا بقينا نخدع أنفسنا فنعتبر أن كلّ ما لدينا من سلبيّات من المتأصّل والمشهود له تاريخيّاً فينا مردّه إلى الاستعمار أو غير الاستعمار من العوامل الخارجة عن إرادتنا. عندما نتوقّف عن مخادعة أنفسنا بمثل هذه المخادعة، وفقط عند ذلك يصبح بإمكاننا تجاوز كلّ ما نريد تجاوزه بل ويجب أن نتجاوزه بما في ذلك العشائرية بمختلف أشكالها”
وهو يخلص في هذا المجال إلى (ص104): “الحكمة تبدأ بوضع الملامة على النفس بدلاً من وضعها على فريقٍ خارجي قبل أن يتسنّى لهذا الفريق لعب دوره”.
ونحن بدورنا نرى أن موقف هذا المؤرّخ الحصيف من الحكم العثماني ومن الانتداب موقف رزين حكيم. فقد أشبعتنا الأنظمة الديماغوجية التي حكمت معظم دول المنطقة بعد نهاية زمن الانتداب اتّهامات للدول المنتدِبة وأحياناً للسلطنة، في محاولة كانت تهدف في الغالب إلى تغطية فشلها هي في الحكم وفي حلّ مشاكلنا أو بعضاً منها. وما ألفناه من عادة وتقليد يقضي بنسبة أسباب العوائق والخيبات إلى عوامل خارجية آن الأوان أن نعي خطورته ونتخطّاه. ولا يفوت الصليبي أن يضع الإصبع على الجرح ويقرأ بذهنية النقد الذاتي أوضاعنا الراهنة وأسباب معاناتنا المزمنة (ص138): “نحن عموماً شعبٌ تنقصه ميزة الجدّية. حياتنا العامّة معظمها تمثيل، والتمثيل ليس الحياة الحقيقيّة. نقطّب وجوهنا ونتصرّف وكأنّنا خائبون ومرهقون ومحبطون، ونحن في قرارة نفوسنا لا نشعر بشيء من ذلك. ولو جاء هذا الشعور صادقاً لدينا في أيّ وقت، لكنّا ولا بدّ قمنا بعملٍ ما يردّ الخيبة والإرهاق والإحباط وسائر السيئات التي نثرثر عنها وننظّر حولها لتمضية الوقت”
ملحوظة عيانية تنمّ عن نظرة ثاقبة وعقلية نقدية حكيمة ترى المنكر والخطأ وتسعى جاهدة إلى تغييره وتصحيحه. نعم مصيبتنا أنّه تعوزنا الجدّية ومن هنا تخلّفنا الحضاري وتأخّرنا عن ركْب الحداثة. وعساه لا ينطبق على هذا المؤرّخ الحكيم قول المثل العربي: “على من تقرأ مزاميرك يا داود”.
بيد أن الصليبي يبقى متفائلاً وواقعيّاً في آن (ص126): “لبنان ما زال يواجه مشاكل داخليّة وخارجيّة. ولكن هل يبقى للحياة طعمٌ من دون مشاكل؟ مررنا بمشاكل درّبتنا على المرونة، وسوف نمرّ على الأرجح بأخرى نخرج منها كما خرجنا من سابقاتها عن طريق الخبرة التي توصّلنا إليها بأساليب المرونة والدربة”.
ولا يرى الصليبي إمكانية لفصل تاريخ لبنان عن تاريخ محيطه العربي (ص99): “هذه النظرة إلى تاريخ لبنان في نطاق تاريخ المنطقة العربية التي يشكّل جزءاً لا يتجزّأ منها هي النظرة الوحيدة المعقولة. إذ لا يمكن أن تستقيم أيّة نظرة علمية إلى تاريخ لبنان بمعزل عن التاريخ العربي الأوسع، كما هو الواقع بالنسبة إلى تاريخ سائر الكيانات العربية القائمة”.
بيد أنّه بالمقابل يرى أن تاريخ لبنان عرف تمايزاً فعلياً واستقلالية منذ النصف الثاني للقرن 20 (ص57): “حتى حوالي خمسينيّات القرن الماضي من غير الممكن أن تكتب عن لبنان بالاستقلال عن سوريا، أو عن سوريا بالاستقلال عن لبنان. بعد ذلك أصبح الأمر ممكناً أكثر فأكثر، لأن الأوضاع القانونيّة تفرض متطلّباتها، ولأن ترتيبات الحكم والنظم الإدارية والقانونية في لبنان وسوريا بعد 1950 أخذت تنتحي دروباً مختلفة حتى أصبح لكلّ من البلدَين شخصيّته الخاصّة”.
وهذا الموقف الوسطي والمعتدل من تاريخ لبنان ولا سيما في علاقته بمحيطه جديرٌ بأن يتدبّره المؤرّخون الجدد من مختلف المشارب والتيّارات وأن يكون نقطة لقاء أو أقلّه حوار بينهم، خصوصاً وأنّه يأتي من شيخ المؤرّخين اللبنانيين ومن له باعٌ طويل في تاريخ المنطقة.
وممّا يؤخذ على هذا الكتاب استرسال المحاوِر جرجوس في عرض نظراته ونظريّاته ومعلوماته، فكثيراً ما كانت الأسئلة مستفيضة ليكون الجواب مقتضباً كما في ص 136-147 حيث يستغرق السؤال صفحة كاملة في حين لا يتعدّى الجواب السطرَين!! وفي 113-120 تعقيب للمؤلّف من 8 ص على أجوبة الصليبي!!
وأيّاً يكن فالكتاب جليل الفائدة ويستحقّ لفتة من القارئ وتبصّراً من المؤرّخ.