قراءة نقدية لكتاب فردريك معتوق “سوسيولوجيا التراث” /منتدى المعارف-بيروت، بقلم لويس صليبا
سوسيولوجيا التراث، تأليف د. فردريك معتوق، صدر عن منتدى المعارف، بيروت، في 207ص.
دراسة بقلم أ. د. لويس صليبا، نشرت في مجلة الأمن/بيروت، عدد أذار 2023
كتاب مميّز في موضوعه وفي مقاربة هذا الموضوع في آن. فالتراث بالمفهوم العربي الإسلامي يُرخي بثقله من النواحي الثقافية والدينية والاجتماعية، وغالباً ما يكتسي صفة المقدّس فيغدو رديفاً للدين وتصعب عندها مقاربته مقاربة نقديّة. وهو ما فعله المؤلّف بجرأة وروح أكاديمية تسجَّلان له. وهو يثير هذه المسألة في المقدّمة إذ يتحدّث عن (ص11): “ربط المخزون الفكري العائد إلى الأزمنة الماضية بمرجعية هي المرجعية الدينية. فلا يعود التراث مجرّد خزّانٍ ضخمٍ لأعمال كتّاب من الماضي يتمّ التعامل معه بالعقل، بل يتحوّل إلى مخزون معنوي هائل يُستثمر في تجييش المشاعر، وأحياناً العصبيّات”.
وملحوظة معتوق هذه تأتي في محلّها. إذ لا بدّ من أن نُقِرّ أن علاقتنا بالتراث تطرح إشكاليّة مركزيّة لا مناص من مواجهتها وإعادة قراءتها. لا سيما وأنّنا في شخصيّتنا الأساسية Personnalité de base ماضويين Passéistes نعيش في الماضي، أو أقلّه في حالة نوستالجيا وحنين دائم إليه، وكأنّه فردوس مفقود أضعناه من فرط تغرّبنا ونسخنا للنماذج والأنماط الغربية الحديثة!
والمؤلّف من هذه الناحية تحديداً يقايس ويُجري مقارنات ذات دلالة بين موقف كلّ من الإنسان العربي والغربي من تراثه. ويسجّل الاختلافات والتضادّ ليبني عليها تشخيصاً عامّاً للوضع. فيرى مثلاً أن الغربي أكثر آنية وواقعية في النظرة إلى تراثه (ص13): “يدخل الغربي إلى إرثه الثقافي من باب الحاضر، لا من باب الماضي. وهذا الموقف المعرفي شديد الأهمّية لفهم كيفيّة الفهم عند الغربي، ولتمييزه عمّا هو جارٍ عند سواه”.
الغربي إذاً “راهني” وآني في النظرة إلى تراثه، ويتعامل معه بنفَسٍ موضوعي لا أثر للتقديس فيه ولا للنوستالجيا (ص15): “الإنسان الغربي يتعامل مع تراثه على أساس ابتعاد نظري Distanciation يضعه هو في الأصل خارج التراث لا داخله. ومن هنا فهو انتقائي، وغير ملزَمٍ بكلّ ما يقدّمه هذا التراث. يختار فيه ما هو مطابقٌ لحاضره، ولا يعود بنفسه إلى هذا الماضي لأخذ بركته”.
وميزة الغربي أنّه يعيش في حاضره، أي أنّه ابن وقته وساعته، طبقاً للتعبير الصوفي، ولا يرى في زمن الآباء والأجداد عصراً ذهبيّاً مفقوداً يحنّ باستمرار إليه (ص16): “لا يشكّل الإرث الثقافي أنموذجاً يُحتذى به لزمنٍ فاضل وذهبي. فالغربي يعلم تماماً أن الزمن الذهبي هو الذي يعيش فيه راهناً. ذلك لأنّه يؤمّن له العدالة والحرّية والمساواة”
هل يعني ذلك أن الغربي في حالة قطيعة مع تراثه، في حين يبقى العربي في حال تواصل دائم معه؟! وإن صحّ ذلك فأيّهما هو الموقف الثقافي الأجدى؟
يركّز الباحث على هذه اللُحمة بين العربي وتراثه، ولعلّها نقطة قوّته وضعفه في آن (ص21): “علاقة العربي بتراثه علاقة عضوية، حيث إنّ هويّته القومية برمّتها تتغذّى من التراث، لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حدّ سواء”
وبالمقابل لا نجد عند الشعوب الأخرى هذه العلاقة الوجدانية، وهذا التعلّق التشبّثي بالتراث (ص21): “من الممكن أن تبتر الإنسان الأفريقي أو الآسيوي عن تراثه، من دون أن يموت حضاريّاً. أمّا العربي فإن قطعته عن تراثه تكون قد حكمتَ عليه بالموت”
وإثر هذا التشخيص العامّ لحال التراث والموقف منه يطرح معتوق عدداً من الحلول التي يرى فيها خروجاً من الوضع المأزوم، ومنها (ص24): “ضرورة إخضاع التراث لنظرة جديدة علّها تسمح بتفعيله وإدخاله في حياة جديدة غير الصورة التي هو مسجون فيها. (…) نزع القدسية عن أعمال التراث. (…) وإخضاع هذه الأعمال للفحص والتحليل والمقارنة”.
ويطول الحديث لو شئنا مناقشة طروحات المؤلّف في التعامل مع التراث وقراءتها نقديّاً. ونكتفي بالقول إن مقاربته للموضوع سوسيولوجيّة أكاديمية، ونبرته رزينة هادئة، وطروحاته جديرة بالتبصّر والتفكّر والنقاش. أولسنا نكوّن في كثير من الأحيان من هذه النظرة الطوباوية والتقديسية لتراثنا بعضاً من سلاسل نكبّل أنفسنا بها، وتقف بالتالي حاجزاً بيننا وبين انطلاقةٍ لنا نحو مواجهة وعيش واقعي ليومنا وإعدادٍ مثمرٍ للغد؟!
ومن النظري ننتقل مع الباحث معتوق إلى العملي والتطبيقي. فنستطلع نماذج من مقاربته للتراث المكتوب.
فهو في دراسته لأيّام العرب أي حروبهم في الجاهلية والإسلام كما أرّخها الميداني صاحب مجمع الأمثال (ت 518هـ/1124م) يرى أن (ص42): “المسافة المفاهيمية التي تفصل بين مُقاتل القبيلة ومُقاتل الدعوة مسافة شاسعة، إذ أصبح المقاتل الثاني المسلم ينظر إلى فوق، في حين أن المقاتل الأوّل الوثني كان يكتفي بالنظر إلى تحت”
وهو يخلص إلى (ص45): “لا تشكّل حروب الدعوة مجرّد تطوير للحروب القبلية السابقة، بل إنها الصيغة البديلة لها إستراتيجيّاً وفكريّاً ومادّياً ومعنويّاً. إنها قَطعٌ مفاهيمي معها، وفتحٌ لآفاق جديدة”
وهي خلاصة لا تجافي بتاتاً الواقع التاريخي، وميزتها أنّه جاءت محصّلة لدراسة سوسيولوجية لنصوص الميداني.
وتبقى أبرز مساهمات الكتاب البحثية دراسته السوسيولوجية لإحدى النفائس التراثية ألا وهي موسوعة وفيات الأعيان لابن خَلِّكان (ت608هـ/1282م). ويطرح معتوق إشكالية بحثه فيرى (ص48): “ارتباط كتب الطبقات والسيَر بالعلوم الاجتماعية. فبعد أن كانت هذه الكتب، ولفترة طويلة، مصدر عمل للمؤرّخين، أصبحت اليوم أقرب من ذي قبل إلى السوسيولوجيين والاقتصاديين”
ويضيف مؤكّداً على أن (ص49): “الحسّ السوسيولوجي الذي تميّز به عددٌ من كتّاب السيَر، لا يقلّ أهمّيةً عن الحسّ السوسيولوجي الذي يميّز الفرنسي مونتسكيو”.
ويشير إلى أن (ص49): “الحضارة العربية الإسلامية ابتدعت فنّاً فريداً من فنون التأريخ وهو كتب الطبقات والسيَر، ممّا لا نجد له شبيهاً في آداب الأمم إلا في زمننا الحاضر”.
أمّا عن اختياره “وفيات الأعيان” تحديداً لدراسته سوسيولوجيّاً، فلأنّه (ص50): “من أشمل كتب الأعيان وأبرزها، ومنطلقاته أقرب إلى السوسيولوجيا من سواه”
وإذا كان هذا الكتاب موسوعة تاريخية بالدرجة الأولى، فهذا لا يمنع بتاتاً من دراسته دراسة سوسيولوجيّة أكاديمية إذ (ص50): “كان إميل دوركهايم يؤكّد باستمرار أن السوسيولوجيا والتاريخ توأمان. وعلماء الاجتماع في الغرب فهموا هذا الشعار فهماً حسناً، فبادروا إلى القيام بدراسات تاريخية سوسيولوجية. أمّا عندنا فالحقل لا يزال قليل الجاذبيّة”
وبكلمة تقييمية موجزة نقول إن الباحث أجاد في طرح إشكاليّته وعرض موضوع بحثه وأبعاده السوسيولوجيّة الواضحة، ومنهجيّة مقاربته له وميّزاتها. فماذا في تفاصيل بحثه ونتائجه؟
يحلّل معتوق معطيات “وفيات الأعيان” إحصائيّاً فيستنتج أن أعيان ابن خَلّكان يتوزّعون على الفئات التالية (ص58): “أدباء وكتّاب 42%، رجال دين وقضاة 28%، أُسر مالكة 19%، أمّا الفنّانون والأطبّاء وعلماء الكيمياء والحساب فكلّ فئة منهم 1%”
ومن هذه الأرقام يتبيّن لمعتوق (ص58): “أن الثقافة الطاغية آنذاك كانت الثقافة الأدبية. (…) والمثقّف هو الأديب والشاعر بشكلٍ رئيس”
ويتابع الباحث محلّلاً أرقامه فيستنتج أن (ص60): “تقدير الأدباء والشعراء ليس تقليداً غربيّاً، كما أن تقليد العرب ليس تقدير علماء الدين دون سواهم من الأعيان. ويتّضح من خلال مؤلَّف ابن خلكان أن تقدير العرب تقليديّاً ذهب باتّجاه رجال القلم (الأدباء والشعراء)، والكلمة (العلماء)، والسيف (الأُسر الحاكمة) تماماً كما حصل في الغرب الأوروبي، ومن هنا فلا فرق بنيويّاً بين الأعيان العرب والأعيان الغربيين”.
وهي نتيجة مهمّة بلا ريب. وقد تشكّك بالكثير ممّا توصّل إليه الباحثون من أحكام وخلاصات، وفي ذلك يقول معتوق (ص60): “يساعدنا كتاب ابن خَلّكان على تصحيح هذا الخطأ الشائع الذي روّجته أبحاث المستشرقين الكلاسيكيين في فترة من الفترات (بدءاً بماسينيون وانتهاء بفون غرونباوم)”
بيد أن السؤال المنهجي الذي يفرض نفسه هنا يبقى التالي: فمجموعة الأعيان التي ترجم لها ابن خَلّكان واكتفى معتوق بتقسيم توزّعها المهني دون أن يذكر حتى عددها، ولا توزّعها بين هذا العصر وذاك ولا هذا الحيّز الجغرافي وذاك. فهل تكفي عيّنة كهذه كي تكون عيّنة تمثيلية Echantillon représentative. وتتيح من حيث توزّعها المهني للوصول إلى أحكامٍ بهذه الأهمّية والخطورة تنقض أو أقلّه تشكّك بنتائج بحوث سابقة بنيت على تفحّصٍ دقيق لوقائع تاريخية وسوسيولوجية عديدة؟
أياً يكن يبقى أن فردريك معتوق بحث ودقّق وأحصى واجتهد، وللمجتهد أجرٌ حتى وإن أخطأ وأجران… إن أصاب.