مراجعة لكتاب”مئة عام على الحرب العالمية الأولى، ج1″،/المركز العربي للأبحاث، بقلم لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد شباط 2023
“مئة عام على الحرب العالمية الأولى مقاربات عربية، ج1: الأسباب والسياقات والتداعيات”، إشراف وجيه كوثراني، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت في 575ص.
هي مجموعة بحوث مؤتمر عقده المركز في بيروت وضمّ عدداً من المؤرّخين من مختلف أنحاء العالم العربي، والسؤال المركزي المطروح: كيف نؤرّخ لحدث كبير مثل الحرب العالمية الأولى 1914-1918 بعد مرور مئة عامٍ عليه؟ وجاءت الإجابات في 39 دراسة ضمّ الجزء الأوّل 15 والثاني 24 منها. وعنها يقول المنسّق كوثراني (ص26): “هي مقاربات طلبناها لنقرأ الجزء والكلّ معاً، وبجدليّة الوصل والفصل فلا نستغرق في الجزء المنفصل، ولا نضيع في الكلّ الطامس للتنوّع”.
ويطرح كوثراني سؤالاً إشكاليّاً مهمّاً يستدعي التبصّر في الحدث (ص29): “لماذا استطاعت الحركة الوطنية التركية أن تلغي معاهدة سيفر 1920 التي تقضي بتقسيم تركيا تقسيماً أخطر من تقسيم سايكس بيكو للمشرق العربي، في حين عجزت الحركة العربية والثورات السورية عن أن تلغي أيّ بندٍ من بنود الاتّفاقات والمعاهدات التقسيمية من سايكس-بيكو إلى مقرّرات سان ريمو”
إشكالية مركزية تدعو إلى العودة إلى قراءة الأحداث بذهنية نقدية أو بالحري بروحيّة نقد ذاتي تقصي شبح الإحباط. فما يُخطَّط لنا، على خطورته، ليس حتمية لا مفرّ منها، وما فعله أتّاتورك بيّنة ودليل على ما نقول. وسايكس بيكو نفسها لم تكن سوى واحدة من اتّفاقيّات عديدة خلال الحرب سقطت كلّها إلّاها. وفي ذلك يطرح كوثراني السؤال الإشكالي التالي (ص29): “ترى لماذا دخلت سايكس-بيكو في الذاكرة التاريخية العربية كأسطورة محبِطة أو كفزّاعة، مع أنّها كانت مجرّد اتّفاقية أو سيناريو من سيناريوهات تقسيم التركة العثمانية في المشرق العربي، فضلاً عن أنّها لم تطبَّق كلّياً لأنّ الخلل في موازين القوى العسكرية بين بريطانيا وفرنسا عدّلها”.
ويقرن كوثراني بين هذه الأسطورة وأخرى كانتا معاً أبرز أسباب الإحباط والتهميش: “همّان أسطوريّان: أسطورة سايكس-بيكو، وأسطورة إلغاء الخلافة ساهما برأيي في تهميش مفهومَي الناسيوناليتيه والمواطنة في وعي الكثير من النخب العربية ذات النزعة القومية كما النزعة الإسلامية”.
ويدرس الباحث عقيل محفوض الشرق الأوسط بعد مئة عام على الحرب العالمية الأولى ليطرح السؤال: هل هناك سايكس بيكو جديدة؟ ويرى أنّه (ص252): “كان من نتائج الحرب العالمية الأولى أن تغيّرت خريطة العالم سياسيّاً ودولتيّاً وثقافياً واقتصاديّاً حيث سقطت أمبراطوريّات وحدثت خسائر مادّية وبشريّة جسيمة، وتراجع دور أوروبا في النظام العالمي لمصلحة الولايات المتّحدة”.
كيف ولماذا ترسّخت تغييرات مصطنعة فرضها المستعمِر كتلك التي أحدثتها اتّفاقية سايكس بيكو؟ إشكالية مركزية يتصدّى لها محفوض، وممّا يقول عارضاً (ص274): “صمدت حدود سايكس-بيكو وجغرافيّتها مئة عام تقريباً، ولم تؤدّ التغييرات التي حدثت أو طرأت عليها إلى إيجاد تحدّ كبير، كما لم تنجح محاولات تغييرها من خلال: كما فعلت إسرائيل تجاه عددٍ من الدول العربية (1948، 1967، 1982) وتركيا بسلخها لواء الإسكندرون 1939، أو الوحدة والاندماج كما بين سوريا ومصر 1958-1961، أو الضمّ كما حدث بين العراق والكويت 1990، أو من خلال التقسيم أو الانفصال مثل محاولات أكراد العراق.
لماذا إذاً صمدت حدود سايكس بيكو طيلة هذه الفترة؟ يقول هذا الباحث مجيباً (ص276): “لم تبدِ المنطقة أيّ مقاومة جدّية لخرائط سايكس بيكو والتعديلات التي طرأت عليها. ووضَعَ النظام العالمي حدوداً وقيوداً للسياسات الخاصّة بالحدود، ولم يسمح بتغييرها إلا في حدود ضيّقة”.
وإلى أي مدى يبدو ما يلوح في الأفق من تعديلات وتغييرات على الخارطة العامّة للمنطقة جدّياً وما الذي يقف سدّاً منيعاً بوجه هذا التغيير الذي طالما حُكي عنه وروّجَ له بل وبُشّر به مراراً وتكراراً؟! عن ذلك يقول محفوض مستخلصاً (ص282): “إن مسألة تغيير حدود سايكس بيكو وأخواتها ممكنة في ظلّ الأوضاع الراهنة التي تشهدها المنطقة، بما في ذلك احتدام المنافسة بين الفواعل الدولية والإقليمية الكبرى للسيطرة عليها وعلى مواردها، إلا أن المخاطر الكبيرة والخوف من انفلات الأمور وعوامل عدّة أخرى تمثّل بدورها عائقاً أو كابحاً لأيّ رغبة أو خطّة في تغيير الحدود”
أي أن الخشية من “الأعظم” والأدهى هو ما يجعل الدول الكبرى والصغرى في آن تحافظ على تلك الحدود التي وضعتها سايكس بيكو منذ أكثر من قرن!
ويرى محفوض أن تاريخ منطقتنا الحديث ولا سيما المعاصر هو بالأحرى تاريخ متواصل من الحروب إن لم يكن سببها آتٍ من خارج فهو متولّد من داخل (ص282): “استفاقت منطقة الشرق الأوسط على أصوات مدافع نابوليون بتعبير ألبرت حوراني، ومذّاك لم يهدأ صوت المدافع: معارك ومواجهات يتولّد بعضها من بعض، كما لو أنّ الحرب أو العنف قدر المنطقة. وإن لم يكن العنف أو الاستعمار أو التسلّط خارجيّاً يبرز له معادل داخليّاً”.
وهذا العنف المتواصل حريّ بأن يكون موضع تفكّر وتبصّر يسعى إلى الخروج من حلقته المفرغة والباحث يرى في ما يسمّيه الاستعمار الداخلي سبباً لا يقلّ وقعاً وخطراً وتداعيات عن الخارجي (ص282): “لا جديد في سردية المنطقة: نظام هيمنة واختراق بعد آخر. وإن لم يكن الاستعمار خارجيّاً يكون داخليّاً حيث قامت أو أقيمت دول أو أشباه دول وفق مقتضى النظام العالمي ومصالح فواعله الرئيسة احتار الدارسون في توصيفها”.
ولسنا نرى أن الباحث محفوض قد جافى الحقيقة والواقع التاريخي في تركيزه على ما أسماه “الاستعمار الداخلي” في إشارة إلى معوقات النمو الآتية من داخل، وبحسب المثل الشعبي “دود الخلّ منّو وفيه”. ولو أخذنا بلداً كسوريا على سبيل المثال، وقارنّا حالها خلال الانتداب الفرنسي وبعده. فهل كانت سوريا الاستقلال مع أنظمتها الانقلابية المتتالية في حال أحسن ممّا كانت عليه تحت الانتداب؟! والملاحظ أن أكثر الدول الشرق أوسطية والعربية تولّت الحكم فيها بعد الاستقلال أنظمة توتاليتارية أمعنت في الفساد وقمع الحرّيات ما جعل مواطنوها “يتحسّرون” على أزمنة الانتدابات!!
ويبقى أن بحث محفوض قد أفلح في وضع الإصبع على الجرح وفي أن يكون منطلقاً لمزيد من البحوث تتناول الوضع الراهن على ضوء ما حصل بالأمس القريب.
ويدرس الباحث اللبناني سعود المولى تجربة الأمير شكيب أرسلان بين العثمانية والعروبة والحرب الكونية الكبرى 1890-1916. فيرى أن الأمير (ص470): “لم يتبنَّ سياسة محمد عبده في الإصلاح والتعليم والتعامل مع الغرب، بل عارضه وعارض تلميذه رشيد رضا. وظلّ الخلاف قائماً بين أرسلان ورضا حتى 1923 بسبب الموقف من الدولة العثمانية”
وينقل عن أرسلان قوله لمطلق الثورة العربية 1916 (ص497): “أتظنّ أيها الأمير أن الإنكليز يغدرون بكلّ هؤلاء الملوك والممالك ويستثنونك أنت من بين الجميع، فيتعلّمون فيك الوفاء ويخرقون من أجلك خطّة الغدر التي ساروا عليها إلى يومنا هذا”.
وكذلك ردّه على منتقدي سياسته المؤيّدة للسلطنة (ص483): “وكان الكثير من إخواني وأصدقائي مغتاظين منّي لاتّخاذي تلك السياسة العثمانية التي هي بزعمهم خلاف ما تقضيه المصلحة العربية، وكنتُ أقول للجميع تمهّلوا فسترون أيّاماً أشدّ سواداً من القطران، وستأسفون على أيّام الترك التي تشكون منها”
إنّه حقّاً نفَسٌ واقعي ورؤيوي نبوئي في آن، يسجَّل لأرسلان ويوضح الكثير من خلفيّات مواقفه خلال الحرب الكونيّة، وثباته في الدفاع عن هذه المواقف بعدها.
بيد أن هذا الموقف الأرسلاني عينه أثار الكثير من النقد والتفنيد والتُهم خلال تلك الحرب ولا سيما بعدها. وما أعلنه أهالي الشهداء الذين فتك بهم السفّاح جمال باشا خلال الحرب، وما وجّهوا من اتّهامات إلى الأمير الأرسلاني بشأن دوره الملتبس في هذه المسألة مثل على ذلك. وكذلك ما ووجه به من ظنون بشأن دور محتمل ما في المجاعة لا سيما وأن صديقه المقرّب أنور باشا وزير الدفاع العثماني كان من كبار المسؤولين عنها. وكان يحسن بالمولى أقلّه أن يشير إلى ذلك. لذا يبقى المأخذ الأساسي على هذه دراسة أنّها غالباً ما تكتفي بالعرض دون النقد ومناقشة الكثير ممّا ووجهت به شخصية إشكالية كأرسلان من نقوضٍ واتّهامات واعتراضات!
والخلاصة فالكتاب موسوعيّ قيّم، ويغطّي العالم العربي في حقبة الحرب العظمى بمساحاته الشاسعة الواسعة، والباحثون المشاركون بمجملهم أكاديميّون، وقد اختيروا من مختلف الأرجاء العربية. والكتاب كذلك متقن إخراجاً وطباعة وهو ضروري لكلّ مكتبة تاريخية.