عنـوان الدراسة : الإغتراب اللبناني ملحمة أم مأساة؟!
مؤلّف الدراسة والتكملة : د. لويس صليبا
باحث وأستاذ في الدراسات الإسلامية والأديان المقارنة
مؤلّف الكتاب : الخوري باسيليون خرباوي
العنوان الأصلي للكتاب : تاريخ المهاجرة السورية
إلى الديار الأميركية (1913)
عدد الصفحات : 434 + 220 ص
سنة النشر : 2008
تنضيد وإخراج داخلي : صونيا سبسبي
التجليـد الفنـي : تراث للتجليد
بيروت 453456/01
الناشر : دار ومكتبة بيبليون
طريق المريميين – حي مار بطرس- جبيل/ بيبلوس ، لبنان
ت: 540256/09 – 03/847633 ف: 546736/09
Byblion1@gmail.com
2009 جميع الحقوق محفوظة
مقدمة الدراسة
مَن منّا لا تهمّه الهجرة؟! وهل يخلو بيت من بيوتات لبنان، بسهله وجبله المفتوحَين على الغرب، من مغترب ومهاجر؟!
الهجرة آفة مُعدية لم تترك منزلاً في لبنان إلا وأصابته بشيء من بلاياها. وأية عائلة في لبنان لم تعانِ من الهجرة؟!
ولكن أليس للهجرة إلا هذا الوجه القاتم؟! وهل الهجرة اللبنانية مجرّد نزف بشري وشتات في أربعة أرجاء المعمورة؟! إذا كان البعض لم يرَ في الهجرة سوى الجانب السلبي المذكور، فثمة مَن لم يرَ فيها، كما سنرى عبر صفحات هذه الدراسة، سوى الوجه المشرق، ويكاد لا يعرف من المغتربين إلا أمثال قدموس والسمعاني وجبران. فأين تكمن الحقيقة؟!
أليست الهجرة فاتحة تغيير وثورة تقلب الموازين والأفكار والمجتمعات؟ ألم تبدأ غالبية الديانات بهجرة؟
لا بل إن التاريخ البشري بأكمله بدأ، وفقاً للمفهوم البيبلي والقرآني، بهجرة قسرية لآدم من جنّة عدن هجرة من باب الجنّة الغربي كما سيرد.
وإبراهيم أبو الديانات الساميّة الثلاث بدأ دعوته التوحيدية بالهجرة من ديار قومه.
﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، (العنكبوت 29/26). إنها هجرة إبراهيم، ومعه لوط ابن أخيه، من أرض الكفر والشرك إلى حيث أمره ربّه( ).
هجرة بأمر إلهي، وبداية تاريخ جديد استُهلّ بعهد ووعد. «وقال الرب لأبرام أهجر أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، واذهب إلى الأرض التي أريك. فأجعل منك أمة كبيرة، وأبارك وأعظّم اسمك، وتكون بركة لكثيرين»، (سفر التكوين 12/1 – 2) ( ). ويعقوب بن إسحق (إسرائيل) هاجر بأمر من أبيه.
وموسى ألم يبدأ رسالته بالدعوة إلى الخروج من مصر: «إذهب واجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم أن الرب(…) قد تجلّى لي قائلاً: (…) ها أنا قد وعدت أن أخرجكم من ضيقة مصر»، (خروج 3/16 – 17) ( )، وقال الرب لموسى: «قل لبني إسرائيل أن يرحلو»، (خروج 14/15).
وفي القرآن عن هجرة موسى وشعبه:﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى﴾، (طه 20/312).
وغوتاما بوذا (560 – 480 ق.م)، مؤسس البوذية ومعلّمها، والأمير ابن الملك يبدأ بحثه ودعوته بالهجرة من قصر أبيه:
«وقرّر الأمير غوتاما الاقتداء بذاك الزاهد. ولم تنفع ممانعة والده ولا حالتِ القصور وأسباب النعيم، وخلافة الوالد على العرش. فنهض في إحدى الليالي، ألقى نظرة أخيرة على زوجه وابنه، وامتطى جواده، وهجر القصر»( ).
وقبل بوذا هجر الملك راما، أبرز دعاة الهندوسية وأبطالها، مُلكه ومملكته تاركاً العرش لأخيه وتغرّب في الغابات.
يقول راما مخاطباً أمه قبل الهجرة:«إي أمي، لقد جاء زمن الشدّة، وأنا راحل إلى الغابة، ولسوف أقيم فيها أربعة عشر عاماً. فقد تنازلت عن العرش وكل ما يتّصل بالمُلك، وسيكون لباسي منذ الآن لباس الناسك. والمملكة سوف تصير إلى أخي بهاراتا»( ).
وفي فجر المسيحية هجرة إلى مصر، «إذا ملاك من الرب قد ظهر ليوسف في حلم، وقال: قم واهرب بالصبي وأمه إلى مصر، وابقَ فيها إلى أن آمرك بالرجوع..، فقام يوسف في تلك الليلة، وهرب بالصبي وأمه منطلقاً إلى مصر»، (متى 2/13 – 14) ( ).
وبداية التأريخ الإسلامي، أليست الهجرة. رسولٌ وصحابته يهاجرون في سبيل الله والدين الحنيف:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، (النساء 4/99).
والأمثلة تتعدّد والحديث يطول. الديانات العالمية الكبرى الخمس تبدأ بهجرة. لكأن فجر الأنوار والهدى لا ينبلج إلا بعد ليل الهجرة.
ولسنا هنا في صدد بحث ميتافيزيائي/فلسفي عن الهجرة. وإنما هي بعض خطرات تمهّد لهذه الدراسة، وهذا الكتاب عن الهجرة اللبنانية. والغرض منها إعادة التأكيد أن الهجرة ظاهرة إنسانية تساهم العلوم البحتة والإنسانية في جلاء بعض غوامضها. ولكنها لا تكفي، لوحدها، لفهم هذه الظاهرة وكنه أسرارها وأبعادها.
كان وقوعنا على كتاب الخوري باسيليوس خرباوي، تاريخ المهاجرة السورية إلى الديار الأميركية، اكتشاف بحدّ ذاته. وقد استخدمنا هذا المصنّف كمصدر في دراستنا ”صدام الأديان والمذاهب في لبنان“( )، والتي بها نصدّر كتاب مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان. وإثر إطلاعنا عليه ودراستنا له مقارنة بالأصول الأخرى، وجدنا أن مؤلَّف الخوري خرباوي مصدر أساسي في دراسة الهجرة اللبنانية–السورية وكذلك أوضاع المسيحيين في بلاد الشام وسائر الولايات العثمانية في القرن التاسع عشر. ففيما يتعلّق بالموضوع الثاني يورد خرباوي وقائع وأحداث وأوضاع عايشها وشهدها، ولا نجد لها أثراً عند غيره من المؤرخين.
وفيما يتعلّق بالموضوع الأول (الهجرة)، فهو يورد تقارير بالوقائع والأرقام والأسماء عن أوضاع الجاليات اللبنانية في مختلف الولايات الأميركية. وظروف أبناء هذه الجاليات وكفاحهم منذ بداية هجرتهم في منتصف القرن 19 وحتى تاريخ صدور الكتاب 1913. إنها وثيقة أولية Document de 1ère main وشهادة من الداخل.
وعلى أهمية ما حواه هذا المصنّف نجده غائباً تماماً في كل الدراسات القديم منها والمعاصر. بل وأكثر من ذلك، فإننا لم نجد له أثراً حتى في فهارس المكتبات الكبرى كمكتبة الكونغرس وغيرها ومواقعها على الانترنت.
كل هذه العوامل، وغيرها، حفزتنا على إعادة نشر هذا المصدر النفيس عن تاريخ الهجرة وأوضاع المسيحيين. ولكننا وجدنا أن مجرّد إعادة نشر نص الخوري خرباوي لوحده أمر لا يفي بالغرض المطلوب. فلا بد أن يُقرن هذا المتن بدراسة تعرّف أولاً بالكاتب والكتاب. وتلقي نظرة نقدية تحليلية على هذا الأخير.
وعملية جمع المعلومات عن الخوري خرباوي، لم تكن بالأمر اليسير.
فاسمه غائب، أو مغيَّب عن الموسوعات والمراجع التي تترجم للمؤلفين. والتعرّف إلى هذا الكاتب ومؤلّفاته وأفكاره، أمر ضروري لمعرفة خلفيته ودوافعه. وتقييم شهادته وموقعها من الجِدّية والموضوعية.
وكانت مواقع الانترنت Site الملجأ شبه الوحيد لنا. ولا بد أن ننوّه هنا بجهد عدد من الأصدقاء الذين أسعفونا بذلك. وعلى رأسهم الباحث أحمد الحوت، والآنسة ربى عبدالله المسؤولة في مكتبة جامعة البلمند.
ومن موقع إلى آخر، جمعنا المعلومة تلوَ الأخرى، كما تجمع لوحة Puzzle. وظهّرنا صورة لهذا الكاتب، إن لم تكن شاملة، فهي أداة مفيدة للبحث، ساهمت في فهم الكثير من الآراء والروايات التي يعرضها الكاتب. وكل ذلك مبيّن في طيّات بحثنا وقراءتنا النقدية للكتاب.
ومصنّف الخوري خرباوي، كأي مصدر تاريخي، لا يمكن أن تؤخذ رواياته إلا بعد قراءة نقدية تحليلية لها. ولكن القارئ، ليس ملزماً، بالطبع، بالأخذ بقراءتنا نحن لهذا المصدر. فمجلّدنا هذا يتيح له العودة إلى النص الأصلي الكامل، الذي نشر كما هو دون زيادة ولا نقصان. وهذا أبسط شروط النشر الموضوعي العلمي.
والهجرة موضوع مغرٍ وعزيز: فنحن ممَّن ذاق طعمها، بحلوِها ومرِّها، سنوات طويلة، ولا يزال. وهذا ما جرّنا إلى مزيد من التفكّر والبحث. فرأينا من المفيد أن نرفد كتاب الخوري خرباوي بأبحاث وجوانب لم يتناولها هو. فقد بحث مثلاً في أسباب الهجرة. فعرض أسباباً وحلّلها. وفاتته أخرى. أو لعلّها لم تفته، وإنما كانت غير ذات شأن في زمنه. فقمنا بدورنا بتحليل أسباب ومسبّبات أخرى، ومن زاوية مختلفة عن مقاربة سائر الأبحاث وذلك تحاشياً للتكرار. ومن جملة ما انفردنا بعرضه نظرة علم المعمار الهندي Shapatya Veda للموضوع. وقد تبدو طريفة، أو غريبة، بل حتى مستهجنة للبعض، ولكنها تستحق وقفة وتفكّراً.
وتصدّينا للهجرة مفهوماً وتعريفاً وتحديداً. ومعلوم أن الفلاسفة، منذ سقراط، يجمعون على: «أن لا شيء أصعب من التعريف، ولا شيء أشدّ في فحص الصفاء العقلي من محاولة تعريف الأشياء وتحديد المقصود منها»( ).
فتناولنا تعابير الهجرة والتغرّب والاغتراب في اللغة. وربطنا بين هذه الأخيرة والرحيل من الغَرب وفق نظرة علم المعمار الهندي. ثم توقّفنا عند مسألتين لا يُذكر الاغتراب اللبناني إلا وتذكران معه: أزمة الهوية ومسألة الانتماء.
ففيما يتعلّق بالموضوع الأول، كان لا بد من جلاء الالتباس في هوية المهاجرين: أعثمانيون هم؟ أم عرب أم سوريون أو لبنانيون؟ لا سيما وأن كتاب الخوري خرباوي الذي ننشر لا يتحدّث إلا عن السوريين والمهاجرة السورية. فبينّا، إستناداً إلى النصوص والمصادر، كيف تطوّر استخدام هذه النعوت تاريخياً ليستقرّ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى على مصطلح الهجرة والاغتراب اللبناني. وأوضحنا لما عُرف المهاجرون اللبنانيون، بداية، في أميركا بالسوريين وفي مصر بالشوام. وإلى ما كانت تشير هذه الألقاب.
وفيما يختصّ بالمسألة الثانية: الانتماء، تناولنا قضية ازدواج الجنسية عند المغتربين، وهل تعني ازدواجاً، أو حتى تناقضاً، في الانتماء بين بلدين.
وذكرنا ما قام به المهاجرون من سعي حثيث من أجل استقلال لبنان. وكيف عبّروا بمواقفهم ونشاطاتهم وأدبهم عن التعلّق بالوطن الأم والحنين إليه وخدمة قضاياه.
ولعلّ الصفحة الأكثر إشراقاً في تاريخ المهاجرة اللبنانية هي أدب المهجر. ومصنّف الخوري خرباوي يكتفي بالإلماع إليه. في حين أن الملايين من البشر لم تعرف لبنان إلا من خلال جبران وزملائه. فهل يجوز إغفال هذا الجانب الأساسي في دراسة عن الهجرة؟.
ولكن ثمّة إشكالية مهمة تُطرح هنا: فالدراسات عن أدب المهجر عديدة ومتوفّرة. فما الفائدة من تكرار ما جاءت به؟! وهل يتّسع المقام لدراسة وافية عن هذا الأدب في بحث هو في الأساس تاريخي– فكري وليس بأدبي. لذا، ومنعاً للتكرار، من ناحية والتطويل من أخرى، حصرنا بحثنا في أدب المهجر في ناحيتين، هما في صلب موضوعنا الأساسي:
1 – مسألة الهوية والانتماء اللتين توقّفنا عندهما، وكيف انعكستا في أدب المهجر.
2 – الصورة التي رسمها أدب المهجر للمغترب اللبناني وما يفيدنا هذا الأدب في البحث عن تاريخ الهجرة ومراحلها وأوضاع المهاجرين. وهكذا استخدمنا الأدب ونصوصه في عملية البحث التاريخي/الأنتروبولوجي. وقديماً قيل الشعر ديوان العرب، أي أنه حافظ لأخبارهم وأرشيف لتاريخهم.
وصورة الهجرة والمغترب في أدب المهجر قادتنا إلى تناول مسألة الهجرة في أدب المقيمين. أو ما يُعرف بالأدب اللبناني الحديث.
وهنا لاحظنا تناقضاً في النظرة بين تيارَين:
واحد لم يرَ في الهجرة سوى مأساة، بل وخرافة أحياناً.
وثانٍ: وعلى العكس من الأول غنّى وأنشد ملحمة الاغتراب اللبناني منذ أيام الفينيقيين إلى اليوم. والتيار الثاني أقدم زمنياً، على الأرجح، من الأول.
فتناولنا أبرز من يمثل كلاًّ من التيارين.
ولا بد لي أن أعترف هنا أن كتابة هذه الدراسة، ولا سيما الفصلَين الخامس والسادس، قد أتاحت لي نتفاً من تذكار الماضي والحنين إليه. وأيقظت فيّ حسّ الأديب والناقد الأدبي. فكانت مناسبة للعودة إلى قراءة أدباء أحببتهم في نشأتي أمثال فؤاد سليمان وسعيد عقل. وهما، وإن كانا على طرفي نقيض في النظرة إلى الهجرة وفي الفكر القومي، فقد عبّر كلٌّ منهما عن رأيه ورؤياه بأدب مبدع راقٍ . فإن أنت شاطرت الواحد أو الآخر رأيه أو ناقضته، فلا بدّ لك من الاعتراف بإبداعه ومعجز بيانه.
ولكن، وكما ألمعت، ليست الدراسة الأدبية هدفنا هنا، فنحن وإن شطح القلم بنا أحياناً إلى تحليل ونقد أدبي. فمقصدنا الأساسي كان واستمر وبقي، كما ذكرنا في خاتمة ذلك الفصل، محاولة مقاربة الهجرة هذه الظاهرة البشرية المعقّدة من حيث عجزت العلوم الإنسانية والبحتة عن مقاربتها، أو على الأقل من حيث أظهرت عجزاً عن الإحاطة الشاملة الكاملة بكل أبعادها ووجوهها.
وهل لهذه العلوم أن تنطق بالكلمة الفصل في سلسلة الهجرات المباركة التي عرفها تاريخ البشرية منذ إبراهيم وراما وصولاً إلى المسيح ومحمد، ومروراً بموسى وبوذا عليهم أشرف السلام.
فقد تفشي الكلمة المبدعة وتبوح بما تعجز عنه الأرقام والمكاييل والمقاييس.
ولا ندّعي في هذه الدراسة فقه جوهر ذاك السرّ. وإنما هي مجرّد محاولة لمقاربته وملامسته بما تيسّر وأتيح من أدوات.
Q.J.C.S.T.B
باريس في 10/06/2007