أرمان فان كركوف Armand Vankarkov، أستاذ الفلسفة الذي شرّع بوجهنا أبواب الفلسفة الغربية/بقلم لويس صليبا
كنّا حقّاً محظوظين في ثانوية راهبات الوردية/جبيل إذ أتيح لنا أن نتتلمذ على أساتذة أجانب غربيين. ففي الأوّل والثاني ثانوي علّمنا الأخ المريمي السابق إيف كاريو Cariou الأدب الفرنسي، كما ذكرنا، أما الفلسفة الغربية فدرّسناها أستاذ بلجيكي متأهّل من لبنانية ومقيم في طبرجا/كسروان هو أرمان فان كركوف (1931-….)،.Armand Vankarkov
لم يكن الأستاذ أرمان معلّم فلسفة لي وحسب، بل كان صديقاً مقرّباً. كنتُ أزوره في منزله في طبرجا، فتسحرُني مكتبته الحافلة بمؤلّفات الفلسفة والأدب والفكر الفرنسي. وأبقى إلى اليوم مديناً له بشيء من انفتاحي على الفكر الغربي الحديث، ولا سيما على تيّارَي العبثية Absurde ممثّلاً بألبير كامو، والوجودية ممثّلاً بجان بول سارتر. وقد استعرتُ منه يومها عدداً من كتب هذين المفكّرين، إذ وضع الأستاذ أرمان مكتبته الغنيّة الزاخرة بتصرّفي: أستعير كتاباً وأردّه لآخذ آخر، وذلك في زمنٍ كنّا نفتقر فيه إلى المكتبات العامّة، إذ لم يكن في جبيل يومها، ولا في أكثر المدن الأخرى مكتبة عامّة واحدة تفتح أبوابها أمام طالبٍ مثلي يبغي أن يعمّق معارفه، وكانت الكتب الفرنسية غالية الثمن وتتجاوز امكاناتنا المحدودة.
وقد بدأت علاقتي به قبل أن أتتلمذ عليه. إذ كان مزمعاً أن يدرّسنا الأدب الفرنسي في الثاني ثانوي، ثم عدَلت الإدارة عن ذلك، وكلّفت كاريو بهذه المهمّة، في حين تولّى أرمان تدريس الفرع الأدبي هذه المادّة. وكانت تلك السنة الدراسية 78-79 أولى سنوات عمله في الوردية، وقد تعرّفتُ إليه مذ بدأ عمله هذا. كتبتُ في مفكّرتي يوم الإثنين 8 كانون الثاني 1979 وقبل بداية السنة الدراسية المبتورة تلك بيومَين: “تعرّفتُ اليوم إلى الأستاذ أرمان معلّم الفرنسية الجديد. وتحدّثتُ معه لمدّة تجاوزت الساعتَين في مواضيع فلسفية وأدبية مختلفة” Saliba, Lwiis, op. cit, p8.
واستمرّت علاقتنا طيلة تلك السنة إذ كنتُ ألتقيه أحياناً في أوقات الفرصة الفاصلة بين ساعات التعليم، وأقصده أحياناً إلى غرفة الأساتذة لأناقشه في مواضيع أدبية، أو أطرح عليه بعض الأسئلة المتعلّقة ببرنامج الأدب الفرنسي.
وقبل أن تبدأ سنتنا الدراسية الثانوية الثالثة زرتُه في منزله، وكتبتُ في مفكّرتي يوم الخميس 16/9/1979: “ذهبتُ اليوم لزيارة الأستاذ أرمان في طبرجا، ووجدتُ صعوبة في الاهتداء إلى منزله. وتحاورتُ معه في مسائل أدبية وفلسفية عديدة: المنهج اللبناني في الأدب الفرنسي والفلسفة العامّة، الشعر الفرنسي، التلميذ والأدب، لماذا نكتب. ودام نقاشنا أكثر من ثلاثة ساعات. واستعرتُ من عنده عدداً من الكتب” Saliba, Lwiis, op. cit, p228.
مع إيف كاريو بدأتُ بالاهتمام بتيّار العبثية من خلال كتابات جان آنوي ولا سيما ألبير كامو كما أسلفتُ. أما مع أرمان فان كركوف فتضاعف اهتمامي بجان بول سارتر (21/6/1905-15/4/1980) Jean-Paul Sartre. وكان يحبّ هذا الفيلسوف الفرنسي ويتتبّع أخباره، ويملك أكثر كتبه. فكنّا نتناقش في وجوديّة سارتر، وفي إسهاماته الأدبية كذلك. وكنتُ خلال العام الدراسي 78-79 وفي الصف الثاني ثانوي قد حضرتُ مسرحية لسارتر هي Huis Clos أي الأبواب المغلقة وكتبتُ عنها في مفكّرتي يوم الجمعة 23 أذار 79 ما يلي: “ذهبنا بعد ظُهر اليوم إلى جونية لحضور مسرحية في المدرسة المركزية في جونية. وكانت مسرحية الأبواب المغلقة لجان بول سارتر، وفيها يبيّن لنا المؤلّف معتمداً نهج العبثية Absurde أن: “الآخرون هم الجحيم ” L’enfer c’est les autres. مسرحية وجدتُ صعوبة في فقه معانيها الفلسفية كافّة. بيد أنّها جعلتني أتفكّر بوجودي وبالجحيم. ولا أشارك سارتر رأيه في هذا المجال، فبالنسبة لي الجحيم هو أنا بالذات عندما أكون بعيداً عن ذاتي، وليس الآخرون هم الجحيم. L’enfer c’est moi même quand je suis loin de moi-même, et non pas les autres
وكان لمسرحية سارتر الأخرى “الذباب” أثر عميقٌ فيّ كما رويت وتبسّطتُ في شرحه في مبحثٍ آخر.([1])
وكان الأستاذ أرمان كثيراً ما يحدّثنا في دروس الفلسفة في الثالث ثانوي عن سارتر، وكنتُ أبدي الكثير من الاهتمام بأحاديثه تلك وبأخبار هذا الفيلسوف الفرنسي الكبير، حتى إن رفاقي في المدرسة عندما توفّي سارتر في 15 نيسان 1980 جاءوا يعزّونني بوفاته وكأنّني فقدتُ قريباً وحبيباً، أمّا أنا فكنتُ يومها أردّد قول هذا الفيلسوف المأسوف عليه: “وحيداً سأمضي في هذا النفق المظلم، لن أتبعَ أحداً، ومن يشأ فليتبعني”.
وكان الأستاذ أرمان رجلاً طيّباً ودوداً، وصاحب فكرٍ حرّ، ولعلّه أوّل من شرّع بوجهي الأبواب للانفتاح على الفكر الأوروبي بمختلف تيّاراته، ولا سيما الإلحادية منها. وكان متمكّناً من مادّة الفلسفة بمختلف فروعها، وبالأخصّ الحديثة منها. أمّا عيبه الأساسي كمدرّس فكان أنّه لا يحفل بضبطِ صفّه كما كان يفعل زميله إيف كاريو الذي كان صارماً في هذا المجال كما أسلفتُ: أي كبّ الإبرة بتسمع رنّتها”. وخلافاً لذلك كان أرمان “يترك الحبل على الغارب” للفوضويين، ولمّا كانت الفلسفة باللغة الأجنبية مادّة غير أساسية في فرع الرياضيّات، فقد بالغ هؤلاء في فوضاهم. حتى إن نديم فرحات قال للأستاذ أرمان يوماً:
-Mr il n’y a que deux qui vous écoutent et tous les autres conduisent leurs voitures
-ليس هناك يا أستاذ سوى اثنين يستمعون إليك (ويقصد أنا وجاري وليد بشارة) أما الباقون فيقودون سيّاراتهم.
وكان نديم وسائر “الجوقة”، يمضون ساعات الفلسفة الغربية هذه عِننن عِننن أي كأنّهم يقودون سيّارة.
ومع مضيّ الوقت اكتشف الشباب ما يمكن أن يسبّب لهم عدم الاكتراث هذا من خسارة فادحة في الامتحانات الرسمية. فنظّمتُ لعددٍ منهم دروساً خصوصيّة كنتُ أشرح فيها أبرز مسائل الفلسفة التي يمكن أن تُطرح في هذه الامتحانات، وكان يحضر هذه الدروس زخيا خوري، وأنطوان خوري وغيرهما. فتحسّن أداء هؤلاء في مسابقات هذه المادّة. وأذكر في هذا المجال النادرة التالية:
كان الأستاذ أرمان غالباً ما يطرح علينا في المسابقة سؤالين لنختار واحداً منهما ونجيب عنه. وكان الجواب عن سؤاله في “الكور” الذي ندرس فيه غالباً ما لا يتخطّى صفحة واحدة وعشرين سطراً بالأكثر. والتلامذة لن يحفظوا كامل هذا الجواب بالطبع، وبالتالي فلم تكن إجابتهم تتجاوز الأسطر العشرة من الصفحة الأولى من ورقة الإجابة. أمّا أنا فكنتُ أتوسّع في مناقشة الموضوع ولا أكتفي بتاتاً بما ورد في الكور، وأبقى ساعتين كاملتين في كتابة مسابقتي، في حين ينتهي زملائي من إجاباتهم في غضون الربع ساعة الأولى بالأكثر. وكانت الصفحات الأربع من ورقة الإجابة التي توزَّع علينا عند بدء المسابقة لا تكفيني، فأطلب ورقة إضافية Supplément أو أكثر. إذ لم تكن مسابقتي تقلّ عن 8 صفحات. وكان الزملاء يحارون ماذا أكتب على كلّ هذه الصفحات، في حين أنّهم يعجزون عن كتابة ما يزيد عن عشرة أسطر!!
وما أن كنتُ أطلب ورقة إضافية من الناظر، حتى كانوا ينظرون إليّ شذراً وباستهجان واضح. بيد أنّهم تعوّدوا مع الوقت على ذلك. ويبدو أن الدروس الخصوصية في الفلسفة التي أعطيتها لعدد من الرفاق قدحت قريحة بعضهم على الإجابة في المسابقات. ففي أوّل امتحان تالٍ رفع زخيا خوري يده طالباً من الناظر:
-إستاذ Supplément لو سمحت.
وهنا اندهش الصفّ بأسره من هذا الطلب، فالتفت الشباب كلّهم إلى زخيا وصاحوا بصوتٍ واحد:
-زخيا لشوووو الSupplément
أما زخيا فمشى مزهوّاً مبتسماً، بل ساخراً متشاوفاً على الآخرين، ومتّجهاً إلى الناظر كي يأخذ الورقة الإضافية!!
وممّا أذكره عن هذه الدروس الخصوصية الفصل الخاصّ بفلسفة العلاقات الجنسية وسيكولوجيّتها. وقد استهلّيته بما يلي:
-موضوع تعرفونه جيّداً شباب، ولا يحتاج إلى شرحٍ طويل.
فعارضني أحدهم قائلاً:
-ما منعرف إلا شوي عالـ Pratique أي الممارسة.
فضحك الجميع حتى بدت نواجذهم.
وكان الأستاذ أرمان يقدّر تماماً جهودي في البحث الفلسفي وفي الإجابة عن أسئلته المطروحة في الامتحانات، فلم تقلّ العلامة التي كان يمنحنيها عن 18/20، وقد تصل إلى 19/20. وكان يغضّ النظر عن الأخطاء الإملائية التي قد تشوب إجابة طويلة مبسّطة مثل إجاباتي، ويركّز على المضمون.
وبقيتُ على علاقة طيّبة به ردحاً من السنة الجامعية الأولى، أزوره وأستمتع بمحاورته في الفلسفة والأدب، ولكن ومع انشغالاتي الدراسية انقطعتُ عن زيارته، لا سيما وأنّني ما كنتُ أملك سيّارة يومها. فانقطعت علاقتي به، وترك هو من ناحيته التعليم في الوردية بعد العام الدراسي 80-81، فلم أعد أعرف عنه شيئاً.
[1]-صليبا، د. لويس، اليوغا في المسيحية: دراسة مقارنة بين تصوّفَين، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2018، ف2: من المسيحية فالإلحاد فاليوغا، فق: رفض الإله Antithéisme، ص80-83.