أستاذ الفلسفة واللغة العربية الشاعر أديب صعيبي/بقلم أ. د. لويس صليبا
أديب صعيبي (1921-1986) ([1]) أستاذ فلسفة ولغة عربية ناجح، وأديبٌ وشاعر مبدع وابن شاعر ومعلّم. ومن سوء حظّنا أنّنا لم نعرفه ونتتلمذ عليه إلا في أواخر أيّامه وسنواته التدريسية، وكان المرض قد تفاقم في جسده، والسكّري قد بدأ يفتك به الفتكة البكر، فصار ضيّق الخلق، نزق المزاج، وما عاد بقادرٍ أن يطيل باله على التلامذة وشقاوتهم. يعلو السكّري في جسمه ودمه فيغضب ويثور، أو تنتابه موجة من الغيظ فيرتفع مستوى السكّر: إنها حلقة مفرغة يدور فيها أكثر المصابين بهذا الداء، ولا يعرفون منها خلاصاً، إلا بالرحيل.
ومن هنا فذكرياتنا عن أديب الأديب والشاعر ومعلّم الفلسفة وتاريخ العلوم عند العرب ليست أحلى صفحةٍ من حياته، بل هي من الصفحات الرمادية التي بدأت تميل نحو السواد، وذلك لأنّها، وببساطة، من زمنٍ كانت فيه شمسه قد آذنت على المغيب.
وكان لعددٍ من زملائي في الصف الثالث ثانوي/فرع الرياضيّات مع الأستاذ صعيبي مواقف ومشاهد أقرب إلى الإسكتشات الضاحكة، وعلى رأس هؤلاء نجم الكوميديا في الصفّ نديم فرحات.
وأوّل الدروس في تاريخ العلوم عند العرب كان عنوانه: الترجمة والنقل عن اليونانية وغيرها. ويتناول حركة تعريب العلوم والمصنّفات اليونانية في عصر الدولة العبّاسية ولا سيما في عهود المنصور والرشيد والمأمون (136-198هـ)، وكان صعيبي يشرح ويستفيض: حنين بن اسحق ماذا نقل، وقسطا بن لوقا ماذا نقل، وغيرهما. وبعد أن أنهى عرضه رفع نديم يده وقال:
– إستاذ هنّي نقْلوا وزحتونا فيهن وباللي عملوه، نحنا إذا نقلنا شي مرّة بتقيموا قيامتكن علينا وبتحطّولنا صفر!
و”ظبطت” مع نديم، فهذه النهفة وما تضمّنته من تورية([2])، أعجبت الأستاذ صعيبي، وهو المعتاد على أساليب البيان ووجوه علم البديع، فضحك على هذه الملاحظة وتابع الشرح.
وفي درسٍ عن عالم البصريّات العربي ابن الهيثم (ت1038م) كان المعلّم أديب يحكي عن أثر هذا العالِم في تاريخ العلوم، ويخلص قائلاً:
-نيوتن وباكون وكيبلر من علماء الغرب، هؤلاء كلّهم كانوا متأثرين بابن الهيثم وأخذوا عنه.
وهنا رفع نديم فرحات يده وقال:
-إستاذ فيه كمان جان بول بلمندو Belmando (الممثل الفرنسي الشهير 1933-2021) متأثّر بابن الهيثم.
ويبدو أن الصعيبي لم يكن قد سمع بعد ببلمندو فنظر إلى نديم وقال:
-ما بعرف، يمكن.
وهنا لم يستطع أكثر التلامذة من أن يضبط نفسه، “ففرط” الصف ضحكاً.
وإلى جانب نديم كان يجلس بشارة مونّس، ومن يستطيع أن يضبطهما متى كانا معاً؟! لذا بادر الأستاذ صعيبي هذا الأخير مرّة محذّراً:
-يا بشارة أنا لا لحية لي ولا فسطان لي ومن يفهم فليفهم!
وكان بذلك يعرّض بأستاذ التعليم الديني الراهب الأب أغسطين مهنّا الآتي ذكره، والذي طلّعولو الشباب دينو من كثرة الفوضى التي كانوا يحدثونها في ساعته. وما عناه صعيبي: أنّني لستُ مثله! وقليلٌ من فهم يومها على الأستاذ ماذا يقصد.
وكان صعيبي ما أن يترك الصف، أو يتأخّر لدقائق في الوصول، حتى يصعد برنلي نصّور ويجلس مكانه، ويخلع حذاءه من رجله مقلّداً الأستاذ “المتعب” من السكّري والذي يخاف أن “يعقره” الحذاء كما يحصل عادة للذين يعانون من هذا المرض. وما أن يفعل برنلي ذلك حتى تعلو “هيصة” الصفّ ضحكاً وهرجاً.
وممّا أذكره عن المعلّم أديب تسميعاته الشفويّة. وكان كثيراً ما يعلو عنده السكّري فيها لا سيما إذا لم يُحسن التلميذ الإجابة، أو أطال التفكير قبل أن يجيب. وكان زخيا خوري “من زبونات الارتجالي” طبقاً لتعبيره، وكنّا نسمّيه ملك الارتجالي. وكان يجلس في المقعد الأخير وإلى جانبه برنلي نصّور، فسأله هذا الأخير:
-ماذا ستفعل إن جاء دورك للتسميع؟!
-لا تقلق ولا تعتل همّ ملك الارتجالي.
وكان أن نادى الأستاذ صعيبي بعد دقائق:
-زخيا خوري تعال إلى اللوح.
فشخصت كل العيون إلى زخيا منتظرة بشوق هل سيخرج في هذه الورطة؟!
وكان سؤال صعيبي له:
-ماذا تعرف عن الطبّ عند العرب في الجاهلية وقبل الإسلام.
وكان الجواب عن هذا السؤال كما ورد في “كور” الأستاذ بسيطاً ولا يتعدّى بضعة أسطر:
-كان الطب عند العرب قبل الإسلام مختلطاً بالسحر والشعوذة، إلخ….
بيد أن “ملك الارتجالي” لم يرضَ أن يكتفي بهذه الكلمات، فبدأ إجابته كما يلي:
-مذ وُجد الإنسان وهو في صراعٍ مع العلّة.
دهش الأستاذ وأصغى، في حين أخذ زخيا يستفيض بعرض ما هو تماماً خارج موضوع الإجابة: صراع الإنسان مع المرض، تارة يغلبه هذا الأخير، وطوراً يكون هو الغالب، إلى ما هنالك من دوران حول الموضوع دون الدخول في صُلبه. وصعيبي لا يطيل باله ويريد إجابة مباشرة:
-يا بني خلّصني
وزخيا يحور ويدور:
-شو بدّك يا إستاذ إنّو قلّك إنو كان الطبّ عندهم مخلوط بالسحر والشعوذة؟!
-يا بني قولها وريّحني.
-هيدي مين ما كان بيعرفها، الأساس المقدّمة يا إستاذ!
-أنا بعفيك من المقدّمة، أدخل في صُلب الموضوع.
وهنا لم يعد زخيا يتمالك نفسه، وكان الصفّ قد بدأ يضحك فضحك معه. وانتهى التسميع على ذلك.
وذات مرّة كان المعلّم أديب يشرح عن مكتبة الإسكندرية ومأساة حرقها، واسترسل في موضوع مَن حرق مكتبة الإسكندرية: العرب كتبوا مئات الصفحات ليبرّئوا أنفسهم من هذه التهمة، وكذلك فعل البيزنطيّون إلخ…
والخلاصة فالفاعل مجهّل أو غير معروف. وبعد شرحٍ مستفيض مفصّل، رفع أنطوان خوري يده، وكأنّه استفاق لتوّه من غفوةٍ طويلة، وسأل:
-طيّب يا إستاذ مين حرق مكتبة الإسكندرية؟!
وبين الضاحك والغاضب أجاب صعيبي:
-ولك شو إلنا ساعة عم نحكي يا بني؟!
وكان الأستاذ أديب مُجيداً في شرحه وعرضه للدروس، ضليعاً في مادّة الفلسفة والعلوم عند العرب. نكاد معه نحفظ الدرس في الصفّ. وهو مؤلّف الكتاب القيّم الذي ندرس فيه هذه المادّة.([3]) ورغم ذلك، فهو لا يكتفي بالكتاب والتدريس فيه، بل يُملي علينا “كوراً” مختصراً يحوي خلاصة المادّة، وكان لنا خير معين في الامتحانات المدرسية والرسمية.
والألقاب التي تلقّب بها أكثر تلامذة الصفّ: السرخسّي، الزمخشري، الطوسي، ابن فرناس، وغيرها ممّا سيرد في وثيقة مصطلحات صفّ المتلام مأخوذة بمعظمها من دروسه: ابن فرناس لمن كان يبدي رغبة في دراسة هندسة الطيران، الزمخشري للمتفلسف، وهكذا.
وكانت دقّة صعيبي من ناحية، وشاعريّته من ناحية أخرى تظهران في الكثير من شروحاته ودروسه. كان دقيقاً عميقاً في عرضه للفلسفة العربية ولا سيما نظريّات ابن خلدون.
أما شاعريّته فكانت يومها تفيض من معاناته اليوميّة، وتعبّر عنها. وقد أبدع في تصوير هذه المعاناة الطويلة المريرة في قصيدة من أواخر ما أنشد:
جُرحُك النزّارُ لا يندملُ أيّها القلبُ فكيف العملُ
كلّما سكّن صبري علّةً زرعَتْ فيك المآسي عللُ([4])
أجل هذا ما كنّا نشعر به يومها، فما كان هذا الأستاذ الأديب يرتاح يوماً من دائه إلا لينهكه هذا الأخير لأيّام طويلة أخرى.
وهو يضيف متسائلاً بوجعٍ ظاهر:
خجل المرهمُ من جرحي فهل من دمي النازف جرحي يخجلُ
ويصف داءه بين الحلاوة في الاسم والمرارة في الطعم، فيجيد ويبدع في طِباقه:
مرضي، قومي دعوه سُكّراً وهو في مجرى عروقي حنظلُ
دبّ في جسمي دبيباً ناهكاً فوهى العظمُ وشُلّ المفصلُ
وهذا الحنظل المرّ الجاري في العروق باسم السكّر أودى في النهاية إلى البتر، فقُطّعت بعض أوصال “الأديب”، فأنشد شاكياً باكياً:
وعلى ساقيّ أهوى مبضعٌ مرهفُ الحدِّ، جلاهُ الصيقلُ
غاص فيها وارتوى من دمها وتوارى في الدياجي الأملُ
وهكذا صار من كان يملأ الدنيا أهازيج شعرٍ وأمل رجلاً مقعداً على كرسيّ متحرّك ويحتاج إلى من ينقله من هنا إلى هناك، وإلا بقي حبيس غرفته:
باتَ في الكرسيّ عانٍ مقعدٌ من ينابيع البلايا ينهلُ
إن يهبه الله من ينقله ينتقل، أو لا فلا ينتقلُ
وهل من مُصيبة أدهى من أن يتمنّى العليل قرب الرحيل كي يرتاح من معاناته والآلام؟! فقد يعتاد المرء على الكثير من المصائب والنوائب، وتبقى الأوجاع عصيّة على العادة. باكراً ألمّ الداء بالشاعر، وباكراً اشتهى أن يرحل عساه ينجو من مأساة تقطيع الأوصال وتداعياتها:
يا إلهي مثلما عجّلتَ في شقوتي فليتعجّلن الأجلُ (الأيوبي، م. س، ص112)
لوحةٌ رسمها الأديب الشاعر المبدع من مداد القلب ودمِ العروق التي طالما جرى فيها السكّر/الحنظل، فنشّفها وسدّها. وقد أفلح صعيبي في جعلنا نعيش ونعاني بعضاً ممّا عاش وعانى.
رحمك الله أيها المعلّم الشاعر أديب صعيبي، عانينا معك في القصيدة معاناة ممزوجة بمتعة تذوّق الإبداع، وعانينا بعضاً ممّا ألمّ بك إذ رافقناك في واحدة من سنواتك الأخيرة أمتعتنا فيها، رغم معاناتك الدائمة، بمذاق بعضٍ من خزين معارفك النفيسة. فحُقّ لك أن تستريح بعد طول عذاب، ووجب علينا أن نترحّم على طيبِ ذكراك.
[1]-أديب سليم صعيبي (10/10/1921-19/5/1986) أديب وشاعر وابن شاعر ومربّ لبناني ولد في قرية بجّة/قضاء جبيل. تلقّى علومه الابتدائية في مدرسة أبيه بمسقط رأسه، ثم تابع دروسه المتوسّطة في مدرسة الفرير ماريست/جبيل، والثانوية في مدرسة ميفوق للرهبانية اللبنانية المارونية. وحصّل المزيد من الثقافة بمطالعاته الشخصيّة. مارس التعليم مثل والده منصرفاً إلى رسالته هذه بكلّ قوّته ومحبّته، فدرّس مدّة سبع وأربعين سنة الأدب العربي والفلسفة العربية وتاريخ العلوم عند العرب، وألّف كتباً في هذه المجالات. وأبرز المدارس التي علّم فيها: مدرسة ميفوق الآنفة الذكر، مدرسة محمرش/البترون التي أسّسها والده، مدرسة قرطبا، مدرسة الآباء الكرمليين/طرابلس، مدرسة إخوة المدارس المسيحية/طرابلس، مدرسة البنات للروم الأرثوذكس/طرابلس، مدرسة الراهبات الكرمليّات/طرابلس، مدرسة السيدة لراهبات القلبَين الأقدسين/طرابلس، ثانوية طرابلس الرسمية، ثانوية شكّا للرهبانية اللبنانية المارونية، مدرسة الآباء الكبوشيين/البترون، مدرسة السيدة لراهبات القلبَين الأقدسَين/الحازمية، مدرسة دير عشاش/عكّار، مدرسة سان جورج/جبيل، مدرسة البيت الحديث/زوق مكايل. ثانويّة راهبات الوردية/جبيل. مؤلّفاته: 1-المتنبّي، دراسة، بيروت، 1964. 2-بيان العرب، 1966. 3-بحوث في الفلسفة العربية. 3-حلقات البكالوريا، 1974. 4-المنهج الحديث في الأدب العربي، جزءان، 1965. 5-المنهج الحديث في القراءة، 4 أجزاء. 6-تاريخ العلوم عند العرب، 1972. 7-بيان العرب الجديد، 1971. 8-جُمعت أشعاره في كتاب: “أديب صعيبي المجموعة الشعرية الكاملة”، وصدر سنة 1996، وهو يتضمّن دواوينه التالية: نفثات الصبا، المواسم، دموع الوفاء، الجراح النازفة، من الأكباد، شرارات المغيب.
[2]-التورية: هي في علم البديع أن يذكر المتكلّم لفظا مفرداً له معنيان: قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد مثل قول الشاعر: بربّك أنتِ روحي.
[3]-صعيبي، أديب، والجرّ خليل، تاريخ العلوم عند العرب السنة الثانوية الثالثة فرع الرياضيّات وفرع العلوم الاختبارية، طرابلس، مؤسّسة الكتاب المدرسي، ط3، 1974.
[4]-الأيّوبي، ياسين (إعداد وإشراف)، شعراء لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين، بيروت، رشاد برس، ط1، 2013، ج2: جبل لبنان والجنوب، ص111.