حوار أكاديمي حول لبنان الكبير، بين البروفسورين لويس صليبا وعبدالغني عماد

حوار أكاديمي حول لبنان الكبير

البروفسور والعميد الراحل عبدالغني عماد (ت2020)

البروفسور عبدالغني عماد (الأوّل إلى اليمين) في ندوة لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي، بجّة/قضاء جبيل 21/11/2018

لبنان الكبير:  الرهان الكبير/

بقلم البروفسورين لويس صليبا وعبدالغني عماد

يجمع هذا البحث([1]) مقالتَين، أو بالحري مقاربتَين لموضوع واحد أو كتابٍ واحد: إنه كتاب “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي” للبروفسور لويس صليبا، وقد لقي اهتماماً ملحوظاً من القرّاء جعل طبعاته تتتالى، فصدرت مؤخّراً طبعته السابعة.

المقالة الأولى لمؤلّف الكتاب نفسه، وهو يعرض فيها دوافعه لتأليف دراسته، وأبرز ما حوته هذه الدراسة من مواضيع ومباحث ومحاور، ومن كلّ ذلك ينطلق ليتفحّص حقبة ما بعد إعلان لبنان الكبير أيلول 1920، ويحاول أن يجيب عن سؤالٍ مركزي: هل كان الكيان الناشئ 1920 هو الخيار الصائب؟! وكيف يمكن مقاربة هذه الإشكاليّة بعد مرور قرنٍ من الزمن؟

أما المقالة الثانية فهي للعميد البروفسور عبدالغني عماد، وفيها يقدّم قراءة نقدية لكتاب: لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي”: ما هو جديد هذا الكتاب؟ وبماذا أفاد البحث والدراسات في هذا المجال؟ وما هي نقاط قوّته ونقاط ضعفه؟

والمقالتان معاً مدخل متعدّد الجوانب والمشارب، يُسقط النظرة الأحادية في موضوع طالما شغل اللبنانيين… ولا يزال.

تاريخ لبنان أم تاريخ صراع أديان؟!

“لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي” كتاب لي صدر 2015،([2]) وهو اليوم في طبعته السابعة. ولن يكون هذا الكتاب محور دراستنا وإنما نقطة انطلاقتها: منه نطلّ على الماضي القريب في سبيل فهم حاضرنا، واستشراف المستقبل وما تخبّئ لنا الأيام. لستُ متخصّصاً في تاريخ لبنان، وإنما في الفلسفة وتاريخ الأديان وعلومِها. وكلبناني عاش الحربَ بأهوالِها ومآسيها كنتُ دوماً أطرحُ على نفسي سؤالَ كارل ماركس الشهير، والذي طرحَه في رسالة له إلى إنجلز إذ قال: «ما الذي يجعلُ تاريخ الشرق كما لو كان تاريخ أديان فحسب؟!»([3])

وإسقاطاً على الوضع في لبنان كنتُ أتساءلُ بدوري: ما الذي يجعلُ من تاريخِ لبنانَ الحديث والمعاصر يبدو وكأنه حصراً تاريخ أديان ومذاهب، أو بالحري تاريخَ صراعٍ بين الأديان والمذاهب؟!

وكنتُ أنظرُ إلى الحقبة القصيرة نسبياً التي عاشها لبنان الكبير منذ إعلانه في 1 أيلول 1920 فأراها تحفل بالخضّات والصراعات والحروب: الثورة البيضاء 1952. الأحداث الطائفية وأزمة 1958، أزمة العمل الفدائي واتفاق القاهرة 1969. الصراع بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية 1973. ثم الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة والشرسة 1975-1990. أحداثٌ وحروب متتالية في نحو سبعين سنة من الزمن كانت تجعلني أتساءل: هل كان لبنانُ الكبير فعلاً وحقّاً خياراً صحيحاً؟!

لبنان الكبير هل كان الخيار الصحيح؟!

وثارت ثائرتي عندما سمعتُ بمقولة “لبنان خطأ تاريخي”. من أطلق هذه المقولة التي استغلّتها إسرائيل أيما استغلال، ومن الذي روّج لها بالتزامن مع إعلان لبنان الكبير؟

تلك كانت بدايةُ البحث الذي استمرّ سنوات. ولا مجال بالطبع لأن أعرض مراحِلَه، ولا أن أفصّل نتائِجَه. لذا أكتفي بنقطتين موجزتين:

1-عندما سافر البطريرك الحويك إلى مؤتمر الصلح 1919 للمطالبة بتوسيعِ حدودِ لبنان، وضمّ الأقضية الأربعة، والمدنِ الساحلية: طرابلس وبيروت وصيدا، وسهل البقاع إليه، التقى في باريس الأديبَ والشاعرَ اللبناني، ومترجم الإلياذة، والوزير العثماني السابق سليمان البستاني المقيم في سويسرا بعد اعتزاله السياسة، وكان قد قدم إلى باريس خصّيصاً للقاء بطريركه. فأخبرَه الحويك عن مسعاه. فحذّرَه البستاني من مغبّةِ توسيع الحدود اللبنانية إلى ما وراء المناطق المسيحية، وضمّ جماعات إلى لبنان تخلّ بتوازنِه. هذا خطأٌ كبير يا غبطة البطريرك قال معرّب الإلياذة، وستندم على هذه المبادرة في أقلّ من خمسين سنة. (صليبا، لبنان الكبير، م. س، ص101-102)

ولكن سليمان البستاني لم يكن المعارض الوحيد للبنان الكبير، فكثرٌ غيره عارضوا مشروعَ الحويك هذا، والكتاب يبحث في دوافع كل المعارضين، وخلفيّاتِهم، ويعرضُ لطروحاتِهم المختلفة ممّا لا يتّسعُ المجالُ لذكره هنا. ونكتفي بواحد كنموذج معبّر.

هل تصحّ نبوءة جبران؟

2-إثر إعلانِ دولةِ لبنان الكبير كتب نابغة المهجر جبران خليل جبران (1883-1931) مقالَته الشهيرة “لكم لبنانُكم، ولي لبناني” ونشرها في مجلة الهلال المصرية في ت2، 1920، فمنعت سلطات الانتداب هذا المقال لأنه ينطوي على معارضة واضحة للبنان الكبير. ” لبنانكم مربّعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش. أما لبناني فمعبد أدخله بالروح”. يقول جبران في مقالتِه، في تعريض واضح بالبطريرك الحويك والجنرال غورو.

لِمَ عارض جبران مشروعَ لبنان الكبير، وهو اللبنانيُّ القحّ الذي رفضَ الجنسيةَ الأميركية المعروضة عليه، وآثرَ أن يموتَ لبنانيّاً كما ولد، وهو كذلك القائل: “لو لم يكن لبنان وطني، لاتّخذتُ لبنان وطني”.

بحثتُ مطوّلاً في كتابي، في هذه الاشكالية، ويمكنُني أن أجيبَ باختصار: لأنه كان يرى بعينِه الثالثة، وفق تعبيره، مجازرَ طائفية في هذا الخليط غير المتجانس. يقولُ في مخطوطةٍ له لم تنشرْ يومها: «لبنان البلد الصغير الهادئ الآن سيكونُ مسرحاً لمجزرة هائلة، يَذبحُ فيها المسلمُ المسيحي، والمسيحيُّ الدرزي. وسوف يذبحُ المسيحيُّ أخاه المسيحي، ومن يعشْ يرَ.» (ص142).

وصحّت، ويا للأسف، نبوءةُ جبران الأولى هذه. فهل تصحّ نبوءته الثانية؟ كلّما قرأت مقالته “لكم لبنانكم، ولي لبناني” تنتابني قَشعريرة، لا سيما في المقطع الذي يطرحُ فيه السؤال: «لبنانُكم حكومةٌ ذات رؤوسٍ لا عِداد لها. لبنانُكم عقدةٌ سياسية تحاول حلّها الأيام. وماذا عسى أن يبقى من لبنانِكم وأبناءِ لبنانِكم بعد مئة سنة؟» (ص144).

ويتحدّث جبران عن ساسةِ لبنانَ الفاسدين المفسدين: «هم الذين لا يعرفون المجاعةَ إلا إذا كانت في جيوبهم. هل بينَهم من يتجرّأ أن يقول: إذا ما متّ تركتُ وطني أفضل قليلاً ممّا وجدتُه عندما ولدت؟ هل بينَهم من يتجرّأ أن يقول: لقد كانت حياتي قطرةً من الدمّ في عروق لبنان، أو دمعة بين أجفانه، أو ابتسامة على ثغره.» (ص144).

نقرأُ اليومَ ما كتبه جبران منذ قرن، فنشعرُ وكأنّنا نقرأُ مقالةً في جريدةٍ صدرت هذا الصباح. أما رهانُه أن لا يستمرَّ لبنان الكبير أكثر من قرن، فهو التحدّي الكبير الذي علينا جميعاً أن نواجهَه.

ويبقى أن البطريرك الحويك آثر الخيارَ الجغرافي وتوسيعَ حدودِ لبنان رغم خطورتِه، على الخيار الديمغرافي، والبقاء في وطنٍ صغيرٍ متجانسِ الأطيافِ والفئات.

والسؤالُ البديهي الذي يُطرح اليوم: ماذا فعلنا نحن اللبنانيين في هذا القرن الطويل والحافل بالأحداث: هل بنينا دولة، أم هي مجرّدُ مزرعة كما يحلو للكثيرين أن يقولوا؟!

يصعبُ، بل يستحيلُ أن نستعرضَ أحداثَ قرن: ما تحقّق من إنجازات، وما بقي حبراً على ورق. لذا نقتصرُ على نموذجين وعلى تجربةٍ واحدة في الحكم، وعلى طرحٍ من الجانب الآخر من الوطن.

فؤاد شهاب باني الدولة الحديثة

ستُّ سنوات قضاها الجنرال الأمير والرئيس فؤاد شهاب في الحكم (1958-1964) كانت حافلة بإنجازاتٍ لم تعرفها أكثر العهود الباقية. سعى الأميرُ الرئيس بفاعلية ونجاح إلى إرساء أسسِ دولةٍ عصرية.

بعثة إيرفد، برئاسة الأب دوبريه اليسوعي 1960، قامت بمسح للبلد وحاجاتِه على مختلف الأصعدة، ووضعت مخطّطاً للتنفيذ. واستغرق الكشف الميداني الذي قامت به سنتين كاملتين، أنهته بتقرير شامل متوازن حوى خطّة لإنعاش الريف، وإيقاف الهجرة منه إلى المدينة. ([4])وكان الرئيس شهاب يعبّر دوماً عن حبّه للقرية اللبنانية سنديانة وتقاليد …وكنيسة، ويكرّر دوماً: لبنان ليس المدينة والعاصمة والمطار والأسواق …بأكثر ممّا هو البلدة والقرية وسهل البقاع والأنهر والفلاح. (م.ن، ص27).

ومن إنجازات العهد الشهابي: الضمان الاجتماعي، مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، ديوان المحاسبة، التفتيش المالي، مجلس القضاء الأعلى، إنشاء مصرف لبنان، مصلحة الإنعاش الاجتماعي، المشروع الأخضر، مجلس التخطيط والإنماء الاقتصادي، مكتب الفاكهة والقمح. (م.ن، ص29) ما يعني ببساطة أن مقوّمات الدولة الرئيسية: دولة المؤسّسات لم يعرفها لبنان حقاً وفعلاً إلا في العهد الشهابي.  وحتى قانون الستين للانتخابات النيابية الذي لم نعرف، حتى الأمس القريب، أن نخرجَ منه كان إنجازاً في ذلك الزمن.

وتحدّث الرئيس شهاب مراراً عن المعوقات التي منعته من أن ينجزَ الكثير ممّا خطّط له: فكم تبرّم ممّا أسماه “جدار المال” Le mur d’argent: ([5]) وبالفعل، فنحن ما زلنا في بلد تحكُمه المصارف، بل وتتحكّمُ به وبمقدّراتِه، وترفضُ أن تدفعَ، وإن جزءاً يسيراً، من أرباحها الصافية الخياليّة التي تصل إلى مليارات الدولارات كلّ عام. والمالُ السياسي: نموذج برلسكوني سقطَ في إيطاليا وسائر أوروبا منذ نحو عقدين، ولا نزال نجترُّه في لبنان وسنبقى.

وعبثاً كان الأمير اللواء يكرّر: «الاقتصاد ليس غاية بحدّ ذاته، وهو لا يصلح إن لم تكن له غاية اجتماعية.» (م.ن، ص167-168).

وتحدّث الرئيس شهاب عن الفساد والفاسدين المفسدين: أكلة الجبنة Les Fromageurs. أما زعماء الطوائف فكانوا الحاجزَ المنيع بوجه العبور نحو الدولة المدنية. ففي آخر عهده 1964 زار الوزير كمال جنبلاط الرئيسَ شهاب ليقنعَه بضرورةِ التجديد، فردّ عليه الرئيس حازماً جازماً: «أشكر ثقتَك. ويهمُّني أن تعرف ويعرفوا: لم أشعرْ أنني حكمتُ كما يقضي الواجبُ أن أحكم. ولا شكّلتُ حكومةً كما أبغي وأريد. أنتم زعماء الطوائف تفرضون وزراءكم في كلّ العهود. ولا يمكن التخلّصَ من هذه التجاوزات إلا بدكتاتورية تهرقُ دماءً كثيرة. ولستُ مستعدّاً أن أكون هذا الدكتاتور. لذا لن أجدّد. وقراري نهائي. ويصدرُ غداً بيانٌ بذلك»([6])

حسْبُ الرئيس شهاب نزاهتَه وتعفّفه. حسْبُه أنه لم يجدّد رغم طلب أكثر اللبنانيين والنواب منه ذلك. في حين أحرق غيره البلد ولم يسأل عنه في دأبه الحثيث للتجديد وأحداث 1952، 1958، 1988، 2004، أمثلةٌ على ذلك.

وكنتُ خلال إقامتي الطويلة في باريس أتردّد على العميد ريمون إده في فندقه هناك، والعميد كان خصمَ الشهابية العنيد. ومرّة قال لي في ما يشبه البوح والإقرار (ت2، 1992): «فؤاد شهاب هو أهمّ رئيس جمهورية حكم لبنان» وتكفيه شهادةُ الخصمِ هذه.

العلايلي منظّراً للكيان اللبناني

والنموذجُ الثاني نختاره من الجانب الثاني من الوطن. شيخٌ معمّم، وفقيهٌ ومفكّر مميّز: إنه الشيخ عبدالله العلايلي.

كان العلايلي في طليعة المنظّرين لفكرة الكيان اللبناني، وممّن شاركوا في صناعة تاريخ الجمهورية الأولى على قواعد من السياسة المدنية مستعيضاً عن فكرةِ العصبية الدينيّة في بناء الدولة. وعندما اشتعلت نيرانُ الحربِ في لبنان أيقنَ العلايلي أن الكيانَ اللبناني مهدّدٌ في وضعه النهائي، فأصدر كتابَه الشهير في نقدِ السياسة اللبنانية وعنوانُه “لبنان: عنزةٌ ولا مرقد” مقترحاً سبلَ الخروج من النظام الطائفي الخانق لمفهوم الدولة المدنية. ومنبّهاً أن المواطنة لا تقوم على مفهومي الأكثرية والأقلّية داعياً، إلى نبذ ذينك المصطلحين من معجم المواطنة الحقّة ليندمج الكلُّ في الكلّ اندماجاً يحقّقُ مفهومَ الوحدة في التنوّع.

واتّفق العلايلي مع المهاتما غاندي في حركة اللاعنف والدعوة إليه. ورأى في الحلّ السلمي حلّاً ناجعاً للقضية الفلسطينية. وعبّر عن موقفه الرياديّ هذا في كتابه المميّز “فلسطين الدامية”.

وفي علوم الأديان أسّس العلايلي في كتابه “دستور العرب القومي” مرجعية الدين الطبيعي في الفكر القوميّ، كمقدّمة لا بدّ منها إلى الأديان الوضعيّة المعبَّر عنها عند اللاهوتيين بالأديان الإبراهيمية الثلاثة، باعتبار أن الدين الطبيعي يستوعبُ ظاهرة الأديان الوضعية، ويصهرُها في بوتقته. وتبنّى العلايلي توسيعَ هويّةِ الإنسان، وتضييق هوّةِ الأديان. ورفع شعار: “لا الدين يُغلّ ولا هو يُستغلّ”. وكان في نظرته ونظريّته في الدين رائدَ الانفتاح والعصرنة. وسبّاقاً في الدعوةِ والتمهيد لعصر سلام الأديان واحترام الغيرية وطيّ صفحة التكفير الدمويّة. وأكّد أن: “السبيل إلى الله تعالى لم يكن يوماً، ولن يكونه طريقاً وحيداً حانقاً خانقاً مأزوماً ضيّقاً. إذ إن لكلّ أحدٍ أن يسلُكَ إلى الله تعالى من طريقه”  وكرّر بذلك، على طريقته، مقولة الصوفي نجم الدين كبرى: “الطرائق بعدد أنفاس الخلائق”.([7])

في طروحات العلايلي حلولٌ لكثيرٍ من مشاكِلِنا المستعصية.

“الدولةُ المدنية” يخنقها النظام الطائفي: دعوة صريحة إلى العلمانية، وإن بتغيير التسمية، بعد أن دأب الأصوليّون والمتطرّفون على شيطنة هذا المفهوم والمصطلح. ويؤكّدُ طابَعَ دعوتِه العلمانية هذه قولُه إن المواطنة لا تقوم على الأكثرية والأقلّية. فمطلبُ إلغاء الطائفية السياسية في لبنان مطلبٌ طائفي بامتياز، تروّج له اليوم فئات وتيّارات تعتبر نفسها الأكثرية العددية لكي تثتأثر بمقدّرات البلد وتتفرّد بحكمه. “لا الدين يُغلّ، أي يقيّد بالأغلال، ولا هو بالمقابل يُستغلّ، كما هي الحال عندنا وفي أكثر الدول العربية، حيث يكون الدين دوماً حجّة وذريعة للعنف وضرب المجتمع المدني، والقضاء على الحرّيات.

للمسيحيّة أيضاً دواعشها

ونحن جميعاً لا نرى التطرّف والتعصّب إلا في معسكر الآخر. لا نتوهمنّ أن الدواعشَ ظاهرةٌ محصورة في الإسلام، ففي المسيحية دواعشُها، وما أكثرُهم. ونحن نسمعهم، ونشاهدهم على التلفزيونات ووسائل التواصل: هذا يشيطنُ اليوغا، وذاك يهاجمُ الزواج المدني، ويرفضُه، ويعتبرُه زنى، إلى ما هنالك. ولن يقومَ لنا وطنٌ من دون محاصرةِ ظاهرةِ استغلالِ الدين السرطانية هذه.

ولا يتحقّق هذا الشعار إلا بفصل الدين عن الدولة.

والخلاصة فالعلايلي يدعو إلى دولة مدنية تقوم على المواطنة بمفهومها السمِح المعاصر. وصحيفة المدينة التي وقّعها رسولُ الإسلام مع يهودِ يثرب وسائرِ سكّانها كانت السبّاقة، ورائدةٍ في مفهوم المواطنة التي تقومُ على أساس الانتماء إلى وطن لا إلى دين.

“توسيعُ هويّة الإنسان، وتضييقُ هوّة الأديان”. لا حلّ لمعضلتنا من دون أن نلتقي على مفهوم عابر للأديان، والعمل على نشر قيَم الأديان، كحلّ لصراعات أبناء الأديان. وعلى رأس هذه القيَم الإنسان: حقوقُه وحرّياتُه. وفي المسيحية: Pour être chrétien il faut d’abord être humain. كي تكون مسيحياً، عليك أولاً أن تكون إنسانياً.

وفي ذلك يقول العلاّمة المونسنيور ميشال الحايك: «المسيحية تعلّمني كلّ يوم أن أكنس باب نفسي، وأن أغمض عيني، وأفتح ذراعي على الناس أجمعين، فلا يوقفني بغض، ولا تردعني عداوة عن محبّة كلّ إنسان، وكلّ شيء.» ([8])

وفي الإسلام: جاء في القرآن: {إنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان} (الأحزاب33/72)، هذه الأمانة تجعلُني سواسية مع أي إنسان آخر، وفي الطريق الحنيف، يقول عددٌ من المفسّرين. ([9])

وفي الحديث الشريف: «الإنسانُ بنيانُ الله في أرضه، ملعونٌ من هدمه»([10])

اللاعنف هو الحلّ

ومسألةُ اللاعنف: علينا أن نربّي أنفسَنا وأجيالَنا على اعتماده نهجاً وحلّاً. وقد جرّبنا العنفَ والحربَ الأهلية والصراعات ورأينا إلى أي دَرْكٍ أوصلتنا. فالعنفُ ذو طبيعة ارتدادية، ويولّد حتماً العنف. ولنذكر هنا القانون الثالث لنيوتن: 3ème Loi de Newton

L’action est toujours égale à la réaction c à d que les actions de deux corps l’un sur l’autre sont toujours égales et de sens contraires.

ردّة الفعل تساوي دوماً الفعل. ما يعني أن مفاعيل جسمين الواحد على الآخر هي دوماً متساوية، وفي اتّجاهات متعاكسة.

ويدعو العلايلي إلى حلّ سلمي لا عنفي للقضية الفلسطينية: وهل علينا أن نقاومَ إسرائيل ونحاربَها لوحدنا، وعن كلّ العرب. ونحملَ بالتالي وحيدين، وفي وطن محدود المساحة وضعيف المقدّرات، وزر جريمة الأرض المغتصَبة؟

كما تكونون يولّى عليكم

وتبقى لنا بضع ملاحظاتٍ أساسية في سبيل البحث عن حلولٍ ناجعة: نحن نلومُ السياسيين والزعماء، ونذمُّهم، ونؤكّدُ على فسادِهم. ورغم ذلك نعيدُ انتخابَهم مرّة تلو أخرى، ونُبقي على هذه الطبقة الفاسدة متحكّمة بمقدّراتِ البلد. زعماؤنا وحكّامُنا مرآةٌ تعكسُ فسادَنا نحن، وطرقَنا الملتوية التي لا نرتدعُ عن سلوكها. “كما تكونون يُولّى عليكم”. تقولُ القاعدة الفقهية والعربية القديمة كما صاغها الإمام مالك بن أنس. ([11])ولا يستقيم أي نظام إلا باستقامة الإنسان الذي يكوّنه ويمارسه.

ومن هنا فالتغيير الحقيقي هو القادمُ من الذات، من داخل كلّ فرد. وفي الآية القرآنية: {لا يغيّرُ الله ما بقومٍ، حتى يغيّروا ما بأنفسهم} (الرعد/11). وكم تعبّر هذه الآية عن معضلتِنا المزمنة في لبنان. ونحن شعبٌ سريعُ النسيان. يسهو عن التجاوزات والسرقات، ولا يحسابُ أيّاً على فساده وجرائمه، “الجماهير الغفورة، لا الغفيرة” كما كان يحلو لفليمون وهبه أن يقول. ومجتمعُنا المدني نفَسُه قصير، ولا يتابع: إضراب الخليوي، مثلاً، سكّر خطّك. كان ناجحاً جدّاً، ولكنّه لم يُستتبع. ولم يأتِ بالتالي بنتيجة. وكذلك كان حال الحراكِ المدني في أزمة النفايات، ولن أطيلَ وأغرقَ في التفاصيل.

 

لبنان لا يزال رائداً في محيطه

وبعد، فهل الهجرة هي الحلّ؟ لقد احترفنا نحن اللبنانيين، في الحربِ وما بعدها، النومَ على أدراجِ السفارات بحثاً عن مفرّ من جحيم الصراع. درستُ الهجرةَ في كتاب لي([12])، وعشتُها نحو خمسة عشر عاماً متواصلاً في أوروبا، ودولٍ عربية وشرقية. وقلتُ بشأنها وأكرّر:

L’immigration change le visage du Stress et sa forme, mais jamais son intensité ni sa nature.

الهجرة تغيّر وجهَ العقبات وشكلَها، ولا تخفّف من حدّتها، أو تغيّر من طبيعتها. فنتوهّمُ لبُرهةٍ أننا تخطّينا العقبات، وتجاوزنا الصعوبات. وما يلبثُ هذا الوهمُ أن يتلاشى. فالتحدّيات والرهانات حاضرة في كلّ مكان وزمان. ولا يغربنّ عن بالنا هنا القول الشهير لنيتشه: «الشدّة التي لا تقتلني تقوّيني»([13])   Ce qui ne me tue pas me rend plus fort

ولو تفحّصنا الأوضاعَ في الدول العربية المجاورة، و«لا بدّ من ملاحظة الجوار لسبر ما يقال»، يردّد إخواننا الدروز في أمثالِهم. ([14]) لوجدنا أن هذا البلد، على علّاته، لا يزالُ سابقاً لأشقّائه وجيرانه في الكثير من المجالات. فالدولة اللبنانية مثلاً، لمّا تزل الدولة الوحيدة المحايدة دينيّاً. ودستورُها أقدمُ وأعرق وثيقة حكومية في منطقتنا (1926)، تضمنُ الحرّياتِ العامّة وحقوقَ الإنسان.

وخيرٌ من الغربةِ عن الأوطان، السعيُ الحثيث للقضاءِ على الغربة في الوطن. «أغربُ الغرباء، من صارَ غريباً في وطنِه» يقولُ أبو حيّان التوحيدي([15]) ولا يكونُ ذلك إلا بالعودة عن استقالتِنا من مسؤولياتِنا تجاه بلدنا، والكفّ عن بيع أراضينا، والعمل الجماعي والفردي على العبور إلى دولة المواطنة والمجتمع المدني. فهي وحدُها خشبةُ الخلاص.ويبقى لبنان الكبير وبعد مضيّ قرنٍ كامل على إعلانه، التحدّي الكبير، أو بالحري الرهان الكبير. ولا خيار لنا إذا شئنا لكياننا وللوطن والهوية البقاء سوى أن نواجه معاً التحدّي…كي لا نخسر الرهان

 

 

 

قراءة في كتاب أ. د. لويس صليبا

لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي؟/أ. د. عبدالغني عماد

 

يعود بنا الصديق والباحث البروفسور لويس صليبا في كتابه حول إشكالية إعلان لبنان الكبير إلى مناقشة الأسس التي قام عليها لبناننا، طارحاً كعادته الأسئلة الحرجة، ومحاولاً ولوج بعض من المسكوت عنه في تاريخنا الإشكالي. هل ثمة غلطة ارتُكبت حين ركّب هذا الكيان، ولا تزال تجرجر حروباً وأزمات؟ هل كنّا نفبرك وطناً، ثم نبحث له عن تاريخ وفلسفة وقومية؟ أي لبنان هذا الذي أراده مؤسّسوه؟ وبأيّ حدود وموزاييك طوائف وسكان وهواجس.. تلك هي القصة والمأساة، وحكاية الوطن التي نسعى لمناقشتها في ما يلي.

يتألّف هذا الكتاب من أربعة أبواب، في الأول منها يتناول المؤلّف المرحلة الانتقالية من المتصرفية إلى لبنان الكبير، وفيها يعرض لتبلور مشروعين لهذا اللبنان مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تبلور الأول في كتابات ومواقف بطريرك الروم الارثوذكس غريغوريوس حداد المؤيّد للحكومة العربية الفيصلية في دمشق، والرافض لأي تقسيم. والثاني كان على النقيض منه مؤيّداً لدولة لبنان الكبير، ومعارضاً للمشروع الفيصلي العربي كما عبّر عنه البطريرك الياس الحويك.

ويخصّص المؤلّف الباب الثاني لشخصيات لبنانية وفرنسية بارزة عارضت هذا الخيار (لبنان الكبير) وكان بين هؤلاء من يدعو إلى لبنان الصغير، أو إلى تعديل مشروع لبنان الكبير يمثله سليمان البستاني وروبير دوكيه (المعاون الأساسي لغورو ونائبه)، في المقابل كان هناك تيار أيضاً يدعو لكي يكون لبنان جزءاً من فيدرالية سورية يمثله جبران خليل جبران وكاترو وميلران وغيره من الجانب الفرنسي.

الباب الثالث يبحث في إعلان لبنان الكبير وردود الفعل عليه ويركّز في أحد فصوله على الأوساط الأرثوذكسية والخلفية الاقتصادية والديموغرافية لموقفها الرافض له متوقّفاً عند بعض الشخصيات ومنها نجيب سرسق (أول من أطلق شعار لبنان خطأ تاريخي) قبل أن يعود ليكيّف نفسه مع هذا الخطأ، وهو الشعار الذي ورثه الإسرائيليون كما يشير الباحث إلى ذلك بنظرة ثاقبة.

الباب الرابع خصّصه المؤلف ليرسم صورة هذا اللبنان الكبير، وكيف كان يصارع من أجل البقاء من جهة، ويبحث عن هوية في نفس الوقت.

نرى باحثنا في هذا الباب يعود إلى قصة علاقة البطريرك حداد بالأمير فيصل وعلاقة البطريرك الحويك بالجنرال غورو ليستخرج منها مزيداً من الدلالات، فيتوقّف مثلاً عند مشاريع ضمّ وادي النصارى إلى لبنان، ويفنّد هذه الروايات التي تُطلَق برأيه للقول بأن البطريرك الحويك فضّل السنّة تارة أو الشيعة تارة أخرى على الروم في وادي النصارى؟ يؤكّد باحثنا أن ما من وثيقة تشير، وإن تلميحاً إلى أي مشروع من هذا النوع، فلا عُرض على البطريرك ضمّ الوادي، ولا هو فكّر بذلك. ولا الفرنسيون كانوا في هذا الوارد. والقصّة كلّها مجرد أقاويل وإشاعات!! وبتقديري هذه الخلاصة تحتاج إلى مزيد من التدقيق التاريخي لأنها غير محسومة؟!

كذلك يناقش باحثنا، في هذا الكتاب، ما يسمّيه أسطورة السعي لبناء وطن متعدّد الانتماءات والسائدة في كثير من الأوساط المارونية. إذ يردّد بعضهم أن البطريرك الحويك اختار، عن سابق تصوّر وتصميم، أن يضمّ لبنان خليطاً من الطوائف كي لا يتحوّل إلى وطن مسيحي الطابع، كي لا ينبذ في محيطه، أو يتحوّل كياناً على شاكلة إسرائيل اليهودية التي لم تكن قد ولدت بعد!

وواقع الحال غير ذلك، فوثائق ذلك الزمن بين يديّ باحثنا تكشف أنه سعى إلى كسب الجغرافيا وإن أدى ذلك إلى اختلال في الديموغرافيا، فالوطن في وجدانه ومفهومه كان جبلاً وسهلاً ومرافئ كحدّ أدنى لكي يكون قابلاً للعيش والاستمرار. وفي الذاكرة المجاعة في الحرب العالمية الأولى وأهوالها حاضرة دائماً.

تكشف وثائق الحويك ورسائله إلى المسؤولين الفرنسيين أنه حتى 1926، وفي عزّ أيام الثورة السورية الكبرى، وفي العام الذي وضع فيه الدستور اللبناني كان البطريرك يتحدّث في رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسي أريستيد بريان Briand عن لبنان المسيحي مقابل سوريا المسلمة، وعن لبنان الملجأ لكل مسيحيي الشرق، رافضاً التنازل عن أي جزء من لبنان الكبير لمصلحة سوريا المسلمة، داعياً بوضوح إلى تبادل سكّاني إسلامي–مسيحي بين لبنان وسوريا.

هذه الوثيقة، حسب باحثنا، تكذّب كل الادّعاءات والمزاعم من مارونية وغيرها، والقائلة أن البطريرك حويك سعى إلى وطن متعدّد الانتماءات الدينية، بل إنها تبيّن بوضوح أنه عمل مع فريقه على إدارة لبنان الكبير بذهنية لبنان الصغير، ممّا لا يعكس إدراكاً حقيقياً لعمق التغييرات التي طالت هويّة الكيان الجديد، والتي نتجت عن الانتقال من لبنان المتصرفية إلى لبنان الكبير، وهي التي حذّره منها سليمان البستاني السياسي المسيحي العثماني المخضرم، وروبير دوكيه الدبلوماسي الفرنسي.

في الفصل الأخير ينقل، وللمرّة الأولى، وثيقة قدّمها إميل إده في أيلول 1932. ورغم أن هذه الوثيقة لا تحمل توقيع إميل إده إلا أن المؤشرات التي يستحضرها باحثنا تجعله يؤكّد، وبشكل موضوعي ومنطقي، أن صاحبها هو إميل اده، ويقترح فيها التخلّي عن طرابلس شمالاً وجبل عامل جنوباً للتخلّص من أكثريّتين، والعودة بلبنان إلى أكثرية مسيحية طاغية. الوثيقة مقدَّمة إلى الخارجية الفرنسية وتتضمّن معطيات تدلّ بشكل واضح على أن هاجس الديموغرافيا والفوبيا من التوازن السكاني بين المسلمين والمسيحيين بدأ يصبح أقوى من جاذبية الجغرافيا التي كانت وراء مشروع لبنان الكبير.

يقارن الباحث في الخاتمة بين طرحين ومنطقين: تبادل سكاني اقترحه البطريرك الحويك وتخلّ جغرافي إرتآه إده. أيّها كان الأقرب إلى الواقع أو الصواب؟

هل جاء اقتراح إده صحوة متأخرة بعد أن سبق السيف العزل؟ وهل كان طرح البطريرك الحويك إقراراً ضمنياً بخلل ما بدأ يتسرّب إلى وعيه في استراتيجيته وسعيه الدؤوب إلى لبنان الكبير؟

ثمة بعض الملاحظات الاستكمالية لا بدّ منها لهذه القراءة  النقدية المتميزة والشجاعة التي قدمها الدكتور صليبا، والتي نجح فيها بتحقيق قدر عال من الموضوعية والحيادية في معالجة وتحليل مواقف القيادات المارونية والأرثوذكسية، ممّا جعل الكتاب مركّزاً في إعلان لبنان الكبير على تداعياته ضمن الملعب المسيحي دون أن يتوقّف بما يكفي من التحليل عند باقي الأبعاد الوطنية التي تتعلّق بباقي مكوّنات الاجتماع اللبناني والتي سبّب لها هذا الإعلان غير المرفق بأية ضمانات قلق وجودي، وأثار عندها الكثير من الهواجس والمتاعب، وبطبيعة الحال أتفهّم حرص الباحث على عدم الاستفاضة، لكن ذلك بالنتيجة قدم صورة لهذا الحدث الكبير من منظور واحد يختصّ بتداعياته المسيحية. لذلك لا بدّ من تسجيل بعض الملاحظات:

أولاً:   في الواقع خلق إعلان “دولة لبنان الكبير” وضعاً جديداً في المعادلة السكّانية، حيث لم يسبق للموارنة والمسلمين (السنة والشيعة) التفاعل سياسياً واجتماعياً كما كان الحال مع الدروز، إذ أصبح الواقع الجيوسياسي على الشكل التالي: مجموعتان طائفيتان كبيرتان تختلفان في النظرة الإيديولوجية والاستراتيجية لهذا الكيان الوليد المدعو “لبنان الكبير”. وهو خلاف وصل إلى حدوده القصوى مع سياسة الانتداب الفرنسي الذي حدّد هدفين غير قابلين للتوافق، أوّلهما محاولة الحفاظ على الوحدة السياسية والإدارية للبنان، والثاني ألا يصل ذلك إلى حدّ تمكين الطوائف من القدرة على معارضة الانتداب والاستقلال عنه. وكان هناك هدف ثالث يشترك به مع الإنكليز ضمناً وهو استغلال الوقائع الطائفية والأمنية وقضايا الأقلّيات لمواجهة صعود تيار الوحدة العربية آنذاك  ما يجعله- أي الإنتداب الفرنسي- في حالة انحياز واضح لصالح الفريق المسيحي فيه.

ثانياً : صحيح أن أعلان دولة لبنان الكبير غيّر في المعطيات الجيوسياسية والاستراتيجية والسكّانية لكّنه لم يكن معزولاً عن سياقاته الإقليمية، وصحيح أيضاً أنه أوجد نوعاً من الانقسامات والاصطفافات الطائفية وأطلق الهواجس والمخاوف عند الجميع، لكن الجوهري: هل بقي الوضع على حاله أم شهدنا تطوراً في المواقف الرافضة للدولة الوليدة عند المسلمين والمسيحيين؟؟؟ .  جواباً نقول : في الواقع لم تكن ذهنية الدولة الوطنية قد تشكّلت بعد في المنطقة، وهذه نقطة هامّة يجب أن لا تسقط من حسابنا وأغلب الاعتراضات على لبنان الكبير جاءت من ذهنية ما قبل تشكل الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة. وهي اعتراضات لم تكن ضد لبنان حصراً، بل كانت ضدّ المشروع التقسيمي الأجنبي الهادف إلى ضرب المشروع العربي وضدّ التقسيم الذي تعرّضت له المنطقة على يد الحلفاء المنتصرين حينها. إنه اعتراض له حيثياته وسياقاته، عبّرت عنه حينها قوى ومصالح وإيديولوجيات، ولا يمكن بحال من الاحوال اعتبارها أزلية وثابتة، ومثلما لا يمكن اعتبار التمسّك بالانتداب الفرنسي واعتباره ضمانة مبدأ ثابت وأزلي إذ أن له أيضاً حيثياته وسياقاته، عبرت عنها أيضاً قوى ومصالح وإيديولوجيات، وبالتالي لا يمكن التشكيك بوطنية أيّ من الطرفين بسببها .

   ثالثاً :  هذا الكتاب يؤكّد أن تاريخ لبنان الحديث كدولة ووطن بحدوده المعترف بها اليوم وحتى بعد إعلان لبنان الكبير لم يكن متبلوراً ونهائياً من الناحية العملية، فقد كان النقاش لا يزال حامي الوطيس عن أي لبنان نريد داخل كل طائفة، ولا فضل لطائفة على أخرى بهذا الأمر، ولا يمكن الإدّعاء أن المسلمين أو المسيحيين كانوا على رأي واحد من مشروع لبنان الكبير، لذا من الخطأ الوقوع في آفة التعميمات المتسرّعة، إذ يجب الإقرار بنظرنا أن الوعي بالوطن كدولة وسيادة وحدود كما هو اليوم بدأ يتبلور بشكل تدريجي منذ العام1920 عند كل الطوائف وتكرّس في العام 1943 مع الميثاق الوطني والاستقلال عند الجميع، وليس في ذلك أي عيب أو انتقاص من لبنانية أحد. وبالنسبة للمسلمين فإن تبلور البعد الوطني اللبناني في وعيهم الإسلامي لم يحدث بشكل مفاجىء أو مفتعل كما أنه ليس موضوع مستجدّ على الإطلاق كما يدّعي البعض، وهناك الكثير من الحقائق التاريخية التي تؤكّد ذلك، والتي تحتاج إلى شيء من التفصيل في دراسات أخرى.

  رابعاً:  في هذا الإطار يجب قراءة ذلك الاختلاف والتباين في النهج السياسي بين بعض الزعامات والبيوتات الإسلامية السياسية في مواقفهم من لبنان الكبير بين مؤيّد ومعارض، كآل شرف الدين الشيعة ممثلين بالمرجع السيد عبد الحسين وآل الأمين ممثلين بالسيد محسن الأمين، أو بين آل الجسر ممثلين بالشيخ محمد الجسر الذي شغل منصب رئاسة مجلس النواب وكاد يصبح أول رئيس مسلم للجمهورية بما يشبه الإجماع المسيحي الاسلامي حينها، لولا أن قام الانتداب بحلّ مجلس النواب لقطع الطريق على هكذا خطوة، وبين آل الكرامي ممثلين بالمفتي عبد الحميد كرامي، الذي كان يخوض معركة لا هوادة فيها ضدّ الدولة الوليدة وضدّ الانتداب ويرفض أي تعاون معه، أو حتى تلك الرسالة الشهيرة لكاظم الصلح ( الانفصال والاتّصال) والمدعومة من عادل عسيران بعد مؤتمر الساحل عام 1936، والتي تحمل ذلك الوعي الإسلامي المبكر في معنى الوطنية اللبنانية، بل وفي  ” لبننة العروبة ” وإضفاء المعنى اللبناني للعروبة الحضارية المنشودة. وهنا من الواجب القول أنه من السذاجة نعت هذا أو ذاك من هؤلاء بالعمالة للإنكليز أو للفرنسيين على شاكلة بعض التحليلات السطحية، فقد كانت هذه التنوّعات في المواقف حينها تعبيرات سياسية تعكس بحق بداية انخراط النخَب الاسلامية والمسيحية  في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية اللبنانية واندراجها في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج، وكمحصّلة لمسار تطور الوعي الوطني عند كافّة النخب الاسلامية اللبنانية من رياض الصلح إلى صائب سلام وعبد الحميد ورشيد كرامي، إلى صبري حمادة وعادل عسيران وآل الأسعد والزين والخليل وغيرهم.

لكل ذلك لا يمكن القفز فوق حقيقة أن المسلمين ارتضوا لبنان وطناً فعلياً وحقيقياً، سرّاً وعلناً، وطناً نهائياً، حملته قبل الطائف قوى وشخصيات ونخب، وكرّسته بعد ذلك، بشكل لا يقبل التشكيك، نصّاً في الطائف، ودماً في الدفاع عن ربوعه وحدوده في مواجهة العدو، وعن قراره المستقلّ وسيادته في انتفاضة الاستقلال التي تفجّرت إثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري وما تلاها من سلسلة اغتيالات .

خامساً : ينبغي الاعتراف أن منطق السعي إلى الغلبة والهيمنة، الذي جرّبته الطوائف اللبنانية في حالات انتفاخها كان كارثياً على الجميع، وفي تجربة “المارونية السياسية” الغابرة، رغم ما توفّر لها من عدة فكرية وثقافية وخطاب جمع بين الانفتاح والتعددية والقدرة على الاستيعاب والهيمنة والحرّيات والتحديث المحدود والدعم الخارجي المفتوح، ما يفيد أنها فشلت في تجديد النظام، وقادت البلد إلى الانهيار والكارثة، رغم ما في هذه التجربة من الكثير من العبَر والدروس التي تفيد أن عوامل الهيمنة والتفرّد والقوة الآحادية الجانب لأية طائفة في لبنان ليست كافية لحكمه أو حتى السيطرة على قراره، يبدو خطاب الأقلّيات ومنطقها لا يزال يمارس إغراءه لإنتاج المزيد من الصيغ الطائفية “المتفرّدة”. بل والأخطر من ذلك فإن هذا الخطاب المتحصّن بشعارات ” الحقوق المسلوبة ” و ” الغبن ” و الاضطهاد ” راح يتنامى ويتعمّق مع أطروحات مؤدلجة طائفياً ومذهبياً ومومأسسة حزبياً ومعسكرة ميليشياتياً، لامس خطاب بعضها حدود العنصرية تجاه الآخر في حالات التحريض والحشد العصبوي المكشوف.

العبور الى دولة المواطنة يحتاج إلى شجاعة ومقاربة نقدية جديدة من داخل البنى الطائفية القائمة ومن خارجها، ولم يعد مقبولاً مداراة التضخّم الذي يعيشه الخطاب الطائفي في لبنان عموماً، وبأي قناع تستر أو تخفى، حتى ولو لامس المقدّس، فللجميع مقدّساتهم، وللجميع حقوقهم، ولا يجب أن تكون لأي طائفة حقوق أو امتيازات على حساب الوطن الذي هو فعل الانتماء الجامع والمشترك بين جميع أبنائه.

 

[1] -مجلّة الدراسات الأمنية، بيروت، عدد 80، 2019، ص8-23.

[2] -صليبا، د. لويس، لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي نزاعات على الكيان نشأة وهوية، تقديم د. عبدالرؤوف سنّو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2017، 421ص. وتلافياً لإثقال الهوامش عند كل اقتباس من الكتاب سنكتفي بذكر الصفحة في المتن ونضعها بين قوسين.

[3]-Marx & Engels, Basic writings, NewYork, Collins, 1969, p492.

[4] -عشقوتي، راجي، آخر المطاف، سلسلة حقائق في خدمة وطني، بيروت، المطبعة اتلعربية، ط1، 1997، ص28.

[5]-Joumblatt, Kamal, pour le Liban, propos recueillis par Philippe Lapousterle, Paris, Stock, 1978, p113.

[6] -عشقوتي، راجي، كمال جنبلاط في الحقيقة والتاريخ، سلسلة حقائق في خدمة وطني، بيروت، ط1، 1989، ص50.

[7] -صليبا، د. لويس، مقالة عن كتاب عبدالله العلايلي للشيخ عبدالرحمن الحلو، مجلّة الأمن، بيروت، كانون أول، 2017، ص110.

[8] -الحايك، ميشال، أرض الميعاد، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ط1، 1970، ص85.

[9] -صليبا، د. لويس، الإسلاموفوبيا نحو صدام بين عالمين بحث في علاقات الإسلام المعاصر بالمسيحية والغرب، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2018، ص217.

[10] -أخرج هذا الحديث الزمخشري في تفسيره الكشّاف. وأخرجه الأزهري في “تهذيب اللغة”، وابن الأثير في “النهاية في غريب الحديث” فقال: «من هدم بنيان ربّه فهو ملعون، أي من قتل النفس المحرّمة لأنها بنيان الله وتركيبه. وقال ابن قتيبة: «جاء في الحديث أن سليمان النبي، صلوات الله عليه، قال من هدم بنيان ربّه فهو ملعون بين يديه. يعني من قتل النفس. لأن الجسم بنيان الله وتركيبه، فإذا أبطله فقد هدم بنيان ربّه.

[11] -صليبا، د. لويس، أديان الهند وأثرها في جبران قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر، تقديم د. بيتسا استيفانو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2015، ص247.

[12] -صليبا، د. لويس، الاغتراب اللبناني ملحمة أم مأساة، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2014، 590ص.

[13]-Nietzche, Friedrich, Crépuscule des idoles ou comment on philosophe avec un marteau, traduit par Jean-Claude Hémery, Paris, Folio, 1988.

[14] -جنبلاط، كمال، هذه وصيّتي، بيروت، مؤسّسة الوطن العربي، ط1، 1978، ص58.

[15] -السعدني، محمد، أبو حيّان التوحيدي في الفكر والسياسة، القاهرة، جريدة الأخبار، عدد 25/8/2010.

شاهد أيضاً

Note de la o VisioConferință de Lwiis saliba (Sur Zoom) Echanimitate și mindfulness Miercuri, 18 septembrie 2024

Note de la o VisioConferință de Lwiis saliba (Sur Zoom) Echanimitate și mindfulness Miercuri, 18 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *