مجلة الأمن/زاوية مفكّر وكتاب: مقابلة مع العميد الدكتور عبدالغني عماد- حاوره البروفسور لويس صليبا.
البروفسور والكاتب الراحل عبدالغني عماد (ت2020)
العميد الدكتور عبد الغني عماد باحث مميّز استطاع عبر مؤلّفاته العديدة ودراساته الرصينة أن يحتلّ مقاماً مرموقاً بين الباحثين وعلماء الاجتماع في العالَمَين العربي والإسلامي.
ثابت في قناعاته لا يساوم ولا يساير. ولكنه بالمقابل مرِن ودمث في التعبير عنها. محاور لبق وراقٍ تطيب معه الصداقة، وتحلو الزمالة. قيّض لي أن أرافقه وأزامله في عدد من المؤتمرات العلمية في لبنان والخارج، فقدّرتُ له رزانته في عرض أفكاره وطروحاته، وكذلك طيب معشره، ففيه الكثير من الطبع الطرابلسي الذي يحبّ الظُرف والنكتة، ويقدّر الروابط الإنسانية. وإلى ذلك فهو باحث متمرّس في مجال الدين والسياسة والمجتمع، وصدر له أكثر من ثلاثين كتاباً. ومداخلاته في المؤتمرات كانت دوماً محطّ اهتمام وتقدير من مختلف المشاركين.
لهذه الأسباب ولغيرها التقيناه، ودار بيننا حوار طويل. وفي ما يلي أبرز ما جاء فيه ننقله بأمانة وحرْفية.
*س: بداية حضرة العميد، وقفة عند تجربتك الجامعية والإدارية، كنتَ عميداً لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية:
-ما الذي أضافته تجربتك الإدارية هذه إلى مسارك البحثي والعلمي؟
ج- في الواقع شكّلت عبئاً عطّل بعض اهتماماتي البحثية، وأحمد الله أنها لم تطل. ومع ذلك كانت هذه التجربة مناسبة بالنسبة للبدء بورشة شاملة لتجديد وتحديث المناهج والبرامج المعتمدة في المعهد والتي بقيت على حالها منذ أواسط التسعينات في القرن الماضي على الرغم، من التطوير الذي شهدته مناهج علم الاجتماع وموضوعاتها واختصاصاتها في أغلب الكليات المنتشرة في العالم. والأمر الذي دفعني إلى إعطاء هذه المهمّة أولوية هو تخلّف المعهد عن الالتزام بمضمون المرسوم الخاصّ بما يعرف بنظام ( LMD) الصادر عام 2005. والواقع أنني اصطدمت، في تحقيق هذا الهدف، بصعوبات بنيوية وإدارية وسياسية، لكن بشيء من الإصرار والصبر والمتابعة استطعت تذليل هذه الصعاب حيث تمّ إقرار البرامج الجديدة وتطبيقها منذ العام 2014. هذه التجربة، رغم أنها لم تكن طويلة، جعلتني اكتشف كواليس الإدارة وبيروقراطيتها ومدى تداخل وتغلغل السياسة والمصالح في العمل الأكاديمي، خاصة حين صدر قرار التفرّغ للأساتذة الجدد خلافاً للأصول العلمية، وبما يشبه الصفقة السياسية للأسف.
*س: في كتابك “الثقافة وتكنولوجيا الاتصال” تقول (ص10): “اكتشف أكثرنا متأخّرين مع خواتيم القرن العشرين أن هذا القرن الآفل لم يكن قرن الاقتصاد والسياسة فحسب، بل قرن الثقافة والصراع الحضاري كذلك”.
-أين ومتى وكيف كان قرن الثقافة، وهل استطاعت وإن جزئياً أن تطغى على السياسة والاقتصاد؟
ج – في الواقع كنتُ قد بدأت بالاهتمام بهذا الموضوع منذ العام 2005 وخاصة في كتابي “سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات من الحداثة إلى العولمة” والذي طُبع أكثر من مرّة، فعرضتُ فيه قراءة مفصّلة لظاهرة العولمة وتأثيراتها على المجتمعات والشعوب والتي تجاوزت البعد الاقتصادي والتكنولوجي، إذ اصبحت العولمة الثقافية تمتلك قوة ضاربة قادرة على اختراق الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، وعلى ضوء ذلك أصبحت الثقافة سلاح يستخدمه المتصارعون في الحقل السياسي العالمي بهدف التعبئة والتأثير والترويج. ويأتي الإعلام في هذا المجال بكافة تقنياته الهائلة كأداة قادرة على التأثير والدخول إلى حياة الأفراد بطريقة لا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها.
-هل ترى أن الصراع الحضاري ازداد حدّة في هذا القرن 21 عن سابقه، ولأي سبب؟
ج- بالتأكيد، وهذا من أهمّ الخلاصات التي توصّلنا إليها، حيث شكّلت أطروحة صموئيل هانتنتغون حول صدام الحضارات الصادرة مع خواتيم القرن الماضي والاهتمام البالغ في الغرب لترويج أطروحاته دليلاً على توجّهات جديدة بدأت ترتسم في العديد من الحقول والمجالات. واليوم أصبح من المسلّم به، مع تحدّي الهوية الثقافية التي أثارتها العولمة، بالإضافة إلى مثل هذه الأفكار عن صدام الحضارات، كم هي أضرار هذه الرؤية الصدامية على عالمنا الذي يشهد انفجاراً غير مسبوق للهويّات الطائفية والعرقية والقومية والعنصرية .
*س: تقول في هذا الكتاب (ص8): “ينشئ الإنسان شبكة من المعاني والرموز وطرق التفكير والشعور والعمل ليحدّد غايته وسلوكه، ولكن المشكلة الأعمق أن الإنسان يتشبّث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه كما يقول فيبر، ويمنحها صفة القدسية ناسياً مرجعيّتها وأصلها”
– أليست هي مشكلة الإنسان عموماً، لا سيما في تقديس الأشخاص والأشياء، وخصوصاً النصوص الدينية وتجميد معانيها؟
ج- تعرّضتُ، بشكل موسّع، لهذه الفكرة في كتابي الجديد وعنوانه “سوسيولوجيا الهوية جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء”. وقد بحثت فيه بعمق موضوع الهوية التي شغلت السوسيولوجيين والأنتروبولوجيين والفلاسفة، فالهويّات لا تتشكل من العدم أو الفراغ، بل إنها سيرورة وبناء متواصل تنضج وتستكمل تشكّلها وتستقرّ في الوعي الاجتماعي العام حاملةً السمات الأساسية التي تميّز الجماعة عن غيرها. وهي سمات تتحدّد ضمن علاقات التماثل والاختلاف، وتعكس ارتباط الانسان بالآخرين وتميّزه عنهم في الوقت نفسه، المشكلة أن الناس يميلون إلى الاعتياد والتمسّك بما نشؤوا عليه، إلا أن الواقع يتغيّر بشكلٍ دائم، ممّا يفرض التكيّف مع هذه التغيّرات. وبالتالي فإن الذي يتخلّف عن هذه العملية يحكم على نفسه بالتحجّر والتراجع الحضاري. وها نحن في عالمنا العربي نشهد على نحو كارثي محاولات لتقديس الماضي وإعادة إحيائه في عالم يزداد تعولماً وتطوّراً وحداثة.
*س: تقول في الكتاب عينه (ص20): “هناك 4 وكالات أنباء عالمية معروفة باسم الأربعة الكبار تحتكر 80% من فيض المعلومات (…) بل إن الأمر طال شبكة الإنترنت حيث يستولي مئة موقع على 80% من إجمالي الزوّار، بينما تتنافس ملايين المواقع على الخِمس الباقي”
– كيف السبيل إلى كسر هذا الاحتكار، وهذه الحلقة المفرغة؟
ج- عندما ندرك أن تحوّلاً جذرياً قد حصل في مفهوم القوة وفي أدوات وتقنيات الصراع والهيمنة في هذا العالم ونمتلك بالتالي إرادة التغيير التي تجعلنا مشاركين في إنتاج المعارف والعلوم والأفكار والرموز والقيم وليس مستهلكين لها فقط. وهنا يمكن القول إن ثقافة الصورة وتكنولوجيا المعلومات أصبحت صناعة ثقيلة لا يمكن مواجهتها إلا بالكثير من الجهد والمصداقية في عالم انفتح فضائه بشكلٍ لا محدود، والأمر الطبيعي هنا أن من يسيطر على وسائل الإعلام والاتصال يسيطر على شرايين المعرفة المتسلّلة الى العقول، لأن الاحتكار الإعلامي يفتح الباب واسعاً أمام كل أنواع الاحتكارات حيث يسود الإعلان على الإعلام.
*س: تختم كتابك المذكور بالتالي (ص113): “إن الاكتئاب القومي الذي خيّم لفترة طويلة قد بدأ يتبدّد مع ربيع الثورات العربية الذي يصنعه الشباب وما يمثّلونه من أحلام واهتمامات”
– هلّا زلت على تفاؤلك هذا، أم أن الواقع أثبت عكس ذلك؟
ج- في الواقع شكّلت الانتفاضات التي شهدتها بعض العواصم العربية فرصة تاريخية للتجديد والتحوّل الديمقراطي السلمي خاصةً وأن خروج هذه الجماهير بالملايين إلى الساحات يعتبر ظاهرة جديدة في تاريخنا المعاصر، إلا أن ما حدث هو عملية إجهاض منظّمة نتج عنها انتكاسة حوّلت هذه الانتفاضات عن مسارها المنتظر لأسباب عديدة تحتاج إلى تقييم حقيقي وفعلي يستحقّ أن يخصّص له مجال أوسع للحديث.
– كم ستطول مرحلة التحوّل التي تحدّثتَ عنها (ص107) وهل ما نزال في بداياتها؟
ج- نعم نحن في بداياتها، ولا يجب أن ننسى أن عصر الأنوار والثورة الفرنسية لم تدشن عصر الديموقراطيات بين ليلة وضحاها، فقد احتاجت إلى ما يزيد عن مئة سنة لترسيخ مفاهيم الديموقراطية وحقوق الانسان. وأنا أعتقد أن المدخل الديمقراطي هو المقاربة الآمنة للخروج من حالة التراجع الحضاري التي نشهدها في عالمنا. إذ أن هذا المدخل كفيل بتأمين الآليات اللازمة لتصحيح الواقع عبر المشاركة الواسعة للناس في حق تقرير مصيرها، وفي توفيره لإمكانية المحاسبة والمساءلة لكل الفاعلين في الحياة السياسية فضلاً عن تحقيقه لمبدأ المساواة. وفي تقديري تشكل هذه الانتفاضات، بغضّ النظر عن نتائجها حتى الآن، رأس جبل الجليد لما يمكن أن يحدث ما لم نتدارك حال التراجع الحضاري الذي نشهده.
*س: في مؤتمر “دور الدين في السياسة” الذي نظّمه المعهد السويدي/الإسكندرية في جبيل تشرين الثاني 2017 ركّزت على التمييز بين الدين والتديّن، وممّا قلته: “الدين مقدّس، أما التديّن أي ممارسات البشر فلا يجب أن تكون مقدّسة. فالتديّن يتمثّله البشر في مجموعة من الطقوس وغيرها. ونمط التديّن في تونس مثلاً مختلف عمّا هو في مصر أو في لبنان. وليس التديّن بالضرورة انعكاساً للدين.”
– هل يعني ذلك أن ما نعرفه اليوم ونشهده في الإسلام تديّن وليس دين؟
ج- تعرضت لهذه الموضوع بشكلٍ موسّع في كتابي “الهوية والمعرفة، المجتمع والدين” الذي صدر السنة الماضية، ذلك أن الدين يتحدّد سوسيولوجياً من خلال الممارسة والمعنى والرموز والطقوس التي تضفيها الجماعة على الحياة. لذلك اتّخذت الظاهرة الدينية على الدوام سمتها الاجتماعية والجماعية وتركت بصماتها على العقول والذهنيات والعادات وأنماط العيش، وانتقلت عبر الأجيال في صيغٍ من التديّن التي تدفع الأفراد إلى التماثل بها ومعها. التديّن هنا هو الإيمان المعيش والطريقة التي يعبّر بها المؤمن عن إيمانه، إنها التجربة المعاشة والطريقة التي يتموضع فيها المرء كمؤمن قبالة العالم الخارجي بهدف الخلاص في الآخرة والنجاة في الدنيا وتحقيق الذات. لذلك يتّخذ التديّن أشكالاً عديدة قد تكون عن طريقة إماتة الجسد ورغباته أو عن طريق التماثل مع نماذج تاريخية دينية وإعادة إحيائها، هنا يتجسّد البعد الثقافي والاجتماعي للدين إذ يتجلّى في الكثير من الممارسات، فهو يساعد على تطوير شعور بالانتماء للجماعة ويزيد من التلاحم بينها أو على العكس يصبح المحرّك الأساسي لحركات الإصلاح والثورات. فعلاقة الدين بالمكان والزمان والإنسان هي علاقة حدود فاصلة بين المقدس وغير المقدس بين المشابه والمختلف، وفي الغالب فإن أشكال التديّن تتكوّن من خمسة عناصر( الاعتقاد والشريعة والطقوس والجماعة والمؤسسة الناظمة لصحة الممارسة الدينية). وهنا تستحوذ المؤسسة على فعالية الاعتقاد والشريعة (باعتبارهما نصّاً مقدّساً) عبر احتكار التأويل والتفسير لهما وتتحوّل الطقوس إلى شعائر وممارسات لتجديد وظيفة الدين كجزء مكوّن من نظام التحقق الثقافي للجماعة المؤمنة. هكذا نجد أن المؤسسة الدينية تقوم بتكريس أنماط التديّن المشروع بالمحصّلة دون أن يعني ذلك وجود نمط غير مشروع من التدين وفق وجهة نظرها، وهذا ما شهدناه في الحروب الدينية عبر التاريخ في أوروبا وغيرها.
– هل إن نظريّتك هذه تعبير آخر عن وجوب التمييز بين إسلام النصّ والإسلام التاريخي؟
ج – صحيح إذ إن كثير ممّا نعتبره دين ليس في الحقيقة سوى نمط من أنماط التديّن جرى تكريسه تاريخياً عبر تأويلات الفقهاء واجتهاداتهم للتكيّف مع الوقائع والمستجدات الدائمة التغيّر والتحوّل، وهذا يقودنا إلى اعتبار التديّن فعل اجتماعي تخلقه بالممارسة الجماعة المؤمنة، وهو فعل يخضع لإكراهات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالبشر سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو لادينيين هم صانعو تجاربهم، وبالتالي المسؤولون عن نتاجها، على الرغم من ادّعاء بعضهم أنهم إنما يفعلون ذلك بأمر من الله أو بوحي منه.
– وهل يسهل التفريق بين النصّ وعيشه وتطبيقه؟
ج – نعم وببساطة وعلى أرض الواقع يمكننا أن نميّز بين عدة أنواع من التديّن وقد حصرتها في دراستي بثلاث أنواع رئيسية، فهناك التدين الجوهري حيث عن طريقه يحاول الناس أن يعيشوا دينهم ويتمثلوا تعاليمه سعياً لكسب الآخرة، وهناك التدين الغرضي والذي يتّخذه البعض وسيلة لتحقيق أشياء ذات قيمة دنيوية منفعية أو سياسية أو اقتصادية وعند هؤلاء يكون التديّن سلوكي براني دونما معرفة بأصول الدين وجوهره، ثم أخيراً نجد التدين العاطفي والذي يؤدّي إلى التعصب والتطرف والذي ينتج بالعادة كردّ فعل عند بعض الأشخاص وقد يتحوّل الى تديّن مَرَضي حيث يظنّ البعض أنهم يملكون رسالة هداية للبشر، أو يتحوّل إلى تديّن دفاعي بنتيجة الشعور بالذنب أو القهر أو القلق. أما النص فيخضع إلى التأويل والتفكيك وإعادة البناء بما يجعل كل فئة من هؤلاء مالكة لمشروعية تمثّل النص على طريقتها وبما يجعلها قادرة على المواءمة بين نمط عيشها وسلوكياتها وتطبيقاتها للنص.
*س: قلت في المؤتمر المذكور وفي السياق عينه: “نحمّل النصّ الديني مسؤولية التطرّف والعنف، والأسباب الحقيقية ليست في النصوص بل في المجتمع: الاستبداد، غياب الحرّيات ومجتمع المواطنة. والنصوص الدينية ضحيّة التوظيف في الصراعات الدينية ويتمّ أدلجتها.” – ماذا تقصد تحديداً بالنصّ الديني؟
ج – المقصود هنا النص التأسيسي قبل إضافة المعطى البشري عليه، فالقرآن والكتب السماوية الأخرى تتمتّع بالقداسة عند جماعة المؤمنين الذين لا يناقشون في صحّتها ومصدريتها، وإنما قد يناقشون في معناها ومدلولاتها وطرق تمثلها وكيفية تطبيقها، وفي هذا اختلفوا وتصارعوا ونشأت مذاهب متعدّدة ضمن الدين الواحد وعند كل الحضارات.
-وهل تعتبر مطوّلات الفقه التي تستند إليها السلفية الجهادية في عمليّاتها الإرهابية نصوصاً دينية؟
ج – بالتأكيد ليست نصوصاً دينية بالمعنى الذي أشرت اليه، بقدر ما هي تأويلات لاجتهادات بشرية فقهية لم يكن حولها إجماع، بعضها جرى انتزاعه من سياقاته وتاريخيّته لتبرير مشاريع وأهداف مسيّسة وراهنة تتّخذ من الدين وسيلة وغطاء.
-الاستبداد وغياب الحرّيات ليست بالجديد في التاريخ العربي والإسلامي، ومع ذلك فهو لم يشهد ما نشهده اليوم من حدّة في التعصب والتطرف بل والإرهاب والوحشية، كيف تفسّر ذلك؟
ج- اذا اردنا ان نتحدث عن التاريخ فالحريات بمفهومها المعاصر جديدة على كل الأديان، وما نشهده اليوم يدفعنا إلى تشخيص الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحال. وهي أسباب لا يمكن حصرها أو اختزالها بعامل واحد، ثمة عوامل مركّبة أفضت إلى ما نعاني منه اليوم، أوّلها يتعلّق بأزمة الشرعية التي تعاني منها أنظمة وحكومات المنطقة، وهي مرتبطة بغياب الديموقراطية بمعناها الحقيقي والمترافق مع شعور راسخ بالظلم يغذّيه القمع والعنف المنهجي على أيدي حكومات استبدادية شيدّت حكمها على منظومة أمنية واستخبارية ومعتقلات، والمشكلة أن بعضها استخدم المكوّنات الطائفية للسكّان ووظّفها لتوطيد نفوذه وللاستقواء بها في مواجهة شعبه أو لإقصاء المعارضين.
حدث هذا في ظلّ فشل تنموي واقتصادي أنتج هوامش الفقر والحرمان والبطالة في الريف وفي ضواحي المدن الكبرى، لقد كانت نتائج ذلك كارثية على أكثرية ساحقة وجدت نفسها أسيرة غياب العدالة والمساواة والإفقار الممنهج المترافق مع القمع والاضطهاد والتهميش.
إن أفضل بيئة حاضنة للتطرّف والعنف تتشكّل في مثل هذه المناخات، لقد وصلت نسبة العاطلين عن العمل في أوساط الشباب العرب إلى حدود الـ 30%، وشريحة كبيرة منها تحمل شهادات جامعية. ولنا أن نتصوّر حجم الكارثة في منطقة تتراوح فيها سن واحد من كل خمسة بين الـ 15 و24 سنة، حيث تشير التقديرات الأخيرة إلى الحاجة لحوالي 105 ملايين فرصة عمل بحلول 2020 لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
هذا دون أن ننسى الدور الذي لعبه الاستعمار والتدخّل الأجنبي في بلادنا بدءاً من زرعه للكيان العنصري الصهيوني وصولاً إلى النهب المنظّم للثروات والحروب الظالمة التي لم تتوقّف حتى الآن ومثال اجتياح العراق لا يزال حيّاً وتداعياته مستمرّة، كل هذه العوامل تشير بوضوح إلى أن كل الشروط الموضوعية الموّلدة للتطرّف والعنف تتغذّى من هذا الواقع أكثر ممّا تتغذّى من النصوص الدينية الموجودة بالأساس منذ الآف السنين، وبالتالي يخطئ كثيراً من يظنّ أن المواجهة تقتصر على الحلول الأمنية فقط.
– في هذه الحال، وعلى ضوء دراستك للتطرف والارهاب، هل من دور تلعبه المرجعيات الدينية، ليس فقط لدرء هذا الخطر، وإنما لاجتثاثه أيضاً؟
المرجعيات الدينية تلعب دوراً هاماً في هذا المجال لكن الأمر يتخطّى هذا الدور، ذلك أن المقاربة العلمية والسوسيولوجية لتفكيك صناعة الإرهاب والتطرف في العالم العربي تتطلّب تقصّي أسبابه والشروط الموضوعية المنتجة له، والمغذيات السياسية التي تولّده، وفي مقدمتها الإقصاء والتهميش السياسي والاجتماعي في بلادنا. وبتقديري من الخطأ الذهاب إلى المربّع الذهبي للتطرف والتشدد الديني وحصر المقاربة التحليلية في حدود “النص الديني” وتأويلاته والاكتفاء بذلك.
فنحن بالنهاية لا نواجه كائنات إيديولوجية محضة مفصولة عن الواقع، فإن شريحة كبيرة بينهم انخرطت أو استُدرجت لأسباب مركّبة ومتعددة منها السياسي والاجتماعي وأيضاً الفكري والإيديولوجي.
فالمسألة التي نواجهها ليست معرفية محضة تتعلّق بالنصوص الدينية وطرق فهمها، فالمعتقدات التي يمكن تأويلها باتّجاه التطرف والإرهاب يوجد لها بذور وتاريخ في كل الأديان والمذاهب، ويكفي أن نعود فنقرأ التاريخ لنتأكّد من هذه الحقيقة في تاريخ أوروبا وصولاً إلى الحروب الدينية والصليبية الى الاستيطان الصهيوني في فلسطين وغيرها من الأمثلة. يتوقّف الأمر إذاً عند الأسباب والظروف السياسية والاجتماعية وغيرها. فالتطرف والعنف يحتاج في نموّه إلى أطر اجتماعية وديناميات سياسية واقتصادية فضلاً عن الثقافية.
* س: قلتَ في محاضرتك في المؤتمر المذكور: “الطائف أوقف الحرب، لكنه لم يؤدِّ إلى صنع السلام”
-ماذا تسمّي إذاً الحقبة التي نمرّ بها منذ نهاية الحرب 1990؟ أهي هدنة أم ماذا؟
ج- وهل ما نراه من تضخّم للخطاب الطائفي والمذهبي على حساب الانتماء الوطني وتضخّم المشكلات الاقتصادية والفساد والسقوط في فخّ لعبة المحاور الإقليمية وانتشار السلاح غير الشرعي يمكن أن يبني الاستقرار السياسي والاجتماعي؟ لذلك نعم يمكن أن نقول إننا في مرحلة سلم أهلي بارد، وعلينا تقع مسؤولية تحويله إلى سلم وطني دائم.
- ما هو المطلوب برأيك لصنع السلام: مؤتمر ثانٍ أم ماذا؟!
- ج- هذا سؤال كبير ويحتاج إلى ندوة خاصة. لكن باختصار أقول ما لم نبنِ دولة المواطنة والقانون على أنقاض دولة الطوائف والمذاهب والمحاصصة والمحسوبيات فإننا لن نستطيع أن نعبر إلى دولة المواطنة وبناء السلم الوطني الدائم.
*س: ختمتَ محاضرتك بالقول: “العبور إلى دولة المواطنة هو خشبة الخلاص.”
-هل هي دعوة مقنّعة إلى العلمانية؟ وما الفرق بمفهومك بين العلمانية، ودولة المواطنة، والدولة المدنية؟
ج- انها دعوة لبناء دولة القانون والمؤسسات التي يتساوى فيها جميع المواطنين على أساس الكفاءة والأهلية بغضّ النظر عن انتماءآتهم الطائفية والمذهبية، وبعيداً عن المحاصصات والزبائنية السياسية، وبعدها سمّها ما شئت، وهذا مشروع كان روّاد الاستقلال يبشّرون به، وكان الرئيس فؤاد شهاب قد بدأ به في إطار رؤية إصلاحية شاملة. لكنه انتكس فيما بعد، وليس المطلوب سوى العودة إلى روح الميثاق الوطني لبناء دولة الانسان، وليس دولة الطوائف والمذاهب.
*س: تقول في كتابك “صناعة الإرهاب: “الإرهاب لم يكن يوماً ثقافة وإيديولوجيا في التاريخ العربي الإسلامي. بل كان نهجاً وفلسفة وفكراً وممارسة في تاريخ الغرب وحضارته. الإرهاب صناعة غربية بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى”
– ماذا تسمّي إذاً ممارسات الخوارج والحشاشين وسائر الفرق في التاريخ الإسلامي وصولاً اليوم إلى داعش وأخواتها؟
ج – عزيزي ما تتحدّث عنه لا يمثل تاريخنا ولا يعبّر عن السياق العام والجوهر الانساني والحضاري الذي تميّز به، وفي كل تاريخ الحضارات وجدت جماعات مماثلة وعلى الدوام كانت مثل هذه الحالات شاذّة ومنبوذة من قبل الأغلبية الساحقة، لكن المسألة مختلفة في الغرب.
– أين ترى فلسفة الإرهاب وممارسته في حضارة الغرب؟
ج- لا شك أن الغرب قدّم للبشرية إنجازات باهرة على الصعيد العلمي والطبّي والتقني، لكنه في المقابل صنع حروباً مدمّرة أكثر من أي حضارة أخرى معروفة. وقد قهر الغرب كثيراً من الأمراض المستعصية لكنه أطلق العنان للسيطرة على الشعوب الأخرى. أعلن الغرب حقوق الإنسان لكنه من خلال الاستعمار بلغ حداً من العسكرة والغطرسة بما لا يضاهى في أي مكان آخر على وجه الأرض، لقد قتلت الحضارة الغربية ملايين البشر في المئة سنة المنصرمة أكثر ممّا فعلت أية حضارة أخرى. وقد نادى الغرب بالديمقراطية لكنه شهد أبشع أنواع الاستعمار والعنصرية ودعم أعتى النظم الديكتاتورية في بلادٍ عديدة.
*س: تقول في كتابك عبء الآخر: “ثمة هذيان وهستيريا ضدّ الإسلام كدين وثقافة. لقد أصاب مرض الإسلاموفوبيا العقل السياسي الأميركي، ويريد أن يسوّقه وينشره في العالم كلّه”
– أليس هذا تنكّراً لدور الحركات الأصولية كالقاعدة وداعش وأخواتها في تأجيج ظاهرة الإسلاموفوبيا والإفادة منها؟
ج- على العكس من ذلك يا صديقي إنها دعوة إلى طرح أساس المشكلة والتي تتلخّص بالبحث عن الأسباب التي أدّت إلى ظهور التطرّف والعنف والمغذّيات الحقيقية له، ألم تحتضن الولايات المتحدة الاميركية الجهاد الأفغاني عندما كان يقاتل “الغزو الشيوعي الكافر”، ألم تعتبر منظّري الجهاد مقاتلين من أجل الحرية في ذلك الحين، في تلك الأثناء لم يكن الإسلام خطراً بل كان حليفاً، هناك نمت بذور التطرف وكانت 11سبتمبر 2001 وتداعياتها من نتائجه، ألم يكن اجتياح العراق وتدميره فيما بعد سبباً لانطلاق العنف والتطرّف وتوسّع تنظيم القاعدة وظهور الزرقاوي الأب الملهم لداعش. وبالتالي فإن العداء للإسلام وتحميله مسؤولية ما يحصل من عنف بسبب هذه الحركات مجافٍ للحقيقة والمنطق.
– ألم يكن للعالم الإسلامي عموماً دور في ظهور الإسلاموفوبيا وتفاقمها؟
ج- هذه ظاهرة مَرَضية يقف خلفها في الغرب إعلام مبرمج ولوبيات الضغط الصهيوني التي توظّف أي عمل إرهابي للخلط بين حق المقاومة ضدّ الاحتلال في فلسطين وبين الأعمال الارهابية التي يقوم بها المتطرّفون التكفيريون، وليس من الإنصاف إلصاق التطرّف والإرهاب بحضارة معينة، أو دين محدد بسبب أن أفراد منه يقومون بأعمال إرهابية تستنكرها وتحاربها الأغلبية فيه، في حين أن أفراد وتنظيمات ودول في أمكنة أخرى من هذا العالم تقوم أيضاً بأعمال بربريّة وإرهابية ولا تُلصق هذه الأعمال بالدين الذي ينتمون إليه أو الحضارة التي ينتمون إليها. فالإرهاب بالمحصلة لا دين له.
*س: تنتقد بشدّة في كتابك “عبء الآخر” هنتنغتون ونظريّته “صدام الحضارات”، ولا سيما في قوله إن الإسلام يتعارض مع الديموقراطية (ص33). فهل ترى أن الإسلام نصّاً وتاريخاً يمكن أن يتوافق مع ديموقراطية على الطريقة الغربية وشرعة حقوق الإنسان؟
ج- الإسلام تحدّث عن الشورى قبل 1400 سنة، ويوم كانت الدول والأمبراطوريات في كل العالم تقوم على مبدأ الحكم بأمر الله، ويوم كانت السلطة وراثية واستبدادية في كل الحضارات، ولم ينصّ التشريع الإسلامي على شكل محدّد لنظام الحكم وطريقة بنائه، وهو ما أتاح المجال أمام المفكّرين المسلمين لتطوير نظرية الشورى في العصر الحديث باتجاه الديموقراطية. وبالتأكيد لا شيء في النص الإسلامي التأسيسي يتعارض مع مفهوم الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان، وإذا كان البعض يتحدّث عن اختلافات فهي تبقى في حدود الشكل ولا ترقى إلى المضمون.
*س: تتحدّث في كتابك المذكور (ص145) عن عنصرية القرن 21، وتقول هي ليست مبنية على التفوّق العرقي، بل التفوّق الثقافي.
-هل يفرض الغرب ثقافته علينا، أم هي التي تفرض نفسها بتطوّرها العلمي والتكنولوجي؟!
ج- بتقديري تتجاوز المسألة الكيفية التي تتمّ بها هذه العملية لتطال ما ينتج عنها من سلبيات تضعنا أمام خيارات تتلخّص إما بالالتحاق والذوبان والتبعية أو بالرفض الكامل لهذه الثقافة، أو بالتالي الموقف الوسطي الانتقائي الذي يأخذ المفيد والمناسب منها لمجتمعانتا. ما نتحدّث عنه هنا يشير إلى تنامي تيار محافظ وعنصري في الغرب، وهو مختلف من حيث المضمون والمدلول عن العنصرية القديمة، فالعنصرية الجديدة لم تعد تعتمد على العرق بقدر ما أصبحت تعتمد على الثقافة والتمييز الثقافي والديني كمحدد للفروقات بين البشر، وما ظاهرة الإسلاموفوبيا إلا أحد التجلّيات لهذه العنصرية المتنامية في الغرب والتي تقسم مجتمعاتهم بين تيّارين محافظ ومتنور. إن هذا النوع من العنصرية التي تعتمد الثقافة تقوم على الإقصاء وتعمل دوماً إلى إلباس ثوب الآخر المتخلّف والمتوحّش لكل المختلفين عنها.
– أهي فوقية ثقافية يمارسها الغرب، أم عقدة نقص عندنا سبّبها تقدّمه العلمي والتكنولوجي؟
ج- طبعاً لا يمكننا التعميم إلا أنه يمكن القول إن شرائح كبيرة في الغرب لم تتحرّر تماماً من رواسب المرحلة الاستعمارية التي من خلالها مارس الاضطهاد على شعوب العالم الثالث، ومن جهة ثانية فإن تخلّفنا عن ركاب الحضارة الانسانية يجعل بعضنا متوجّساً منه وحذراً من تبنّي أفكاره.
*س: نجدك في كتابك المذكور تقرأ تاريخ المسيحية والغرب قراءة نقدية: حروب الإبادة في أميركا، محاكم التفتيش في الأندلس، حروب عالمية ومحلّية طاحنة إلخ، ولكنك بالمقابل لا تتفحّص التاريخ الإسلامي بالعين الناقدة نفسها!
-ألا ترى في الأمر انحيازاً ومجانبة للموضوعية؟
ج- على العكس من ذلك، فقد كان نقدي لهذا التاريخ وللموروثات الثقافية أشدّ وأقسى، وأغلب جهدي وكتاباتي تنصبّ على هذا المحور، فقد خصّصت لهذا الأمر العديد من الكتب منها على سبيل المثال “الإسلاميون بين الثورة والدولة” و “حاكمية الله وسلطان الفقيه” وكتاب ونحو أربعة كتب لنقد تجارب الحركات الاسلامية المعاصرة بمختلف اتجاهاتها عدا عن مئات المقالات والدراسات في هذا المجال. إلا أن هذا لا يعني أن ننغمس في جلد الذات دون أن نعي، وبموضوعية، تأثير كل العوامل الخارجية منها والداخلية والتي فعلت فعلها في تحديد مساراتنا ومصائرنا الراهنة.
-ألا نحتاج بدورنا إلى قراءة نقدية ذاتيّة لتاريخنا والانتقال بالتالي من الأسلوب الدفاعي التقليدي إلى آخر إقراري؟
ج- لا شك أن قراءتنا النقدية لتاريخنا هي مسألة ضرورية وهامة ومقدمة لا بد منها لكي نعي عصرنا، إنما أيضاً يجب أن نتحرّر من الانبهار والتبعية العمياء للتجربة الغربية، فهي أيضاً تحتاج إلى قراءة نقدية وتفكيكية. ودليلنا على ذلك الكثير من المفكرين الغربيين الذين قاموا بهذا المهمّة وأبرزوا السلبيات القاتلة في تلك التجربة، وتيار ما بعد الحداثة اليوم يقوم على تفكيك هذه الحداثة ونقدها بشكل كامل. فكما نحن مدعوون إلى قراءة تاريخنا بشكل نقدي علينا أيضاً أن نقرأ تاريخ الغرب بعيداً عن التقديس الأعمى، ولا شيء يدعونا إلى قراءة إقرارية تسليمية بل ما نحن مدعوون إليه قراءة نقدية واعية تستوعب وتغتني بكل الإيجابيات التي انتجها الفكر الإنساني المعاصر.
*س: في كتابك “السلطة في بلاد الشام في القرن 18” تقول (ص9): “إن فصل دراسة الإسلام كدين عن الإسلام كحضارة أي كتاريخ مديني لمعالم الإسلام الحضارية ومعطياته يعتبر خطوة جديدة ونوعية(…) فمع هذا النوع من الدراسات أصبحت المدن الإسلامية موضوعاً علمياً يحمل دلالات معرفية”.
-هل تعتمد أنت في دراساتك هذا المنهج؟ ولماذا؟
ج- هذا الكتاب هو في جوهره قراءة نقدية لأصول تشكّل السلطة ومساراتها في مجتمعاتنا، وهو يعني في أهمّ خلاصاته أن السلطة هي نتاج مجتمعي يصنعه الناس في حراكهم التاريخي وليست إطاراً مقدّساً ثابتاً أو جامداً.
-ألا يعني المنهج المذكور فصل الدين عن الحضارة وبالعكس، وبالتالي تجاهل التفاعل بينهما؟
ج- من يصنع هذا التفاعل بين الدين والحضارة؟ من هو الفاعل الرئيسي فيه؟ أليس البشر سواءً كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو لا دينيين. في الخلاصة البشر هم المسؤولون عن أعمالهم، ولنكفّ عن تحميل السماء مسؤولية ما يحصل على الارض.
*س: تقول في خاتمة الكتاب المذكور (ص301): “لقد برزت أُسَر دينية في مختلف المدن، كما تفرّد علماء من أصول اجتماعية وعائلية مختلفة تمكّنوا من ممارسة أدوار تخطّت إلى حدّ كبير نفوذ الوظيفة والمنصب…”
-ألا يعني ذلك أن في الإسلام مؤسسة دينية كهنوتية، كما في سائر الأديان رغم النفي الرسمي لذلك؟
ج- كلا فالجهاز الديني الذي أنشئ وتكرّس دوره في تلك المرحلة مع الدولة العثمانية إنما كان من ضرورات السلطة أكثر مما هو تكليف ديني وشرعي، وإلا لكانت وُضعت أسس هذا الجهاز في نصوص القرآن ونشأت بالتالي تقاليده منذ بدايات الدولة الإسلامية في المدينة مع رسول الاسلام ، وهذا لم يحصل بطبيعة الحال إلا عندما قامت السلطنات فيما بعد وتحوّلت الدولة إلى ملك عضوض حسب ابن خلدون وصار بالنسبة لها توظيف الدين من لوازم السلطة .
-ألا يعني أيضاً أن السنّة والشيعة هم في توارث السلطة الدينية سواء، وعلى النمط العبري (سبط أو عشيرة تحتكر الوظيفة الدينية)؟
ج- ليس في الاسلام سلطة دينية على الإطلاق، وإنما السلطة والحكم شورى واختيار وعقد ، هذا في الأصل التشريعي ودعك من الممارسة والتجربة التاريخية التي هي من صنع بشر غير معصومين ، وهي تجربة تؤكّد كل سياقاتها أن الديني مستقلّ عن حقل السياسي وأن تجارب الحكم والسلطة في انبنائها وتفكّكها خضعت لسياقات الغلبة والصراع وإن كان الدين غطاءً لبعضها .
-ألا تعني خلاصتك هذه صعوبة، بل استحالة الفصل بين الديني والسياسي في الإسلام؟
ج- على العكس من ذلك إنها تعني أن الاسلام عقيدة ورسالة هداية ولم تكن الدولة يوماً أحد أركان الإسلام أو الإيمان المعتبرة بإجماع الفقهاء، أما المجال السياسي، فكانت فعاليته على الدوام تتأسّس على منطق الصراع والقوة والتحالفات، كما هو شأن كل الدول والامبراطوريات في التاريخ.
“لنكفّ عن تحميل السماء مسؤولية ما يحصل على الأرض”. صدقتَ دكتورنا العزيز، فالله بريء من قذاراتنا وجرائمنا.
د. عبد الغني عماد: أنت بغزارة نتاجك ورزانته، وبدأبك الدائم على البحث والتدقيق والانفتاح على كلّ جديد في اختصاصك، وبكتبك العديدة التي تتجدّد طباعتها مراراً وتكراراً مفخرة للبنان في دنيا العرب. فزدنا من بضاعتك النفيسة هذه، زادك الله عافية وحكمة، وجعل أيامك مديدة وحافلة بثمار الفكر.