مدخل إلى تعليم كريشنامورتي وفلسفته  مقابلة مع الكاتب ربيع داغر، حاوره د لويس صليبا

مدخل إلى تعليم كريشنامورتي وفلسفته

جدّو كريشنامورتي بقلم ربيع داغر

أحد كتب كريشنامورتي

سوامي فيجاينندا متصفّحاً كتابه “فرنسي في الهملايا”

 

مقابلة مع الصحافي والكاتب ربيع داغر، حاوره د لويس صليبا. أجريت وبثّت على Zoom الأربعاء 3/3/2021

قامةٌ فكرية وفلسفية أثارت، ولا تزال، الكثير من التساؤلات والاهتمام، إنّه المفكّر والحكيم الهندي جِدّو كريشنامورتي (1895-1986) Jiddu Krishnamurti.  سبق لي أن تحدّثتُ عنه في “كتابي أديان الهند وأثرها في جبران” (جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2015)، وتناولتُ علاقته بهذا الأخير، كما سبقني في الحديث عنه صديقي وزميلي البروفسور قيس غوش في كتابه جبران وتأثراته الهندوية والتيوزوفية. ويُنسب إلى جبران قوله بعد أن التقى كريشنا مورتي: “عندما دخل إلى الغرفة قلتُ لنفسي: ها قد قدم ربّ المحبّة بلا ريب” (داغر، ربيع، جِدّو كريشنامورتي معلّم العالم، جبيل، 2020، ص7).

وفي كتابي “جنبلاط اليوغي وعلاقته بنعيمه والحايك”، تناولتُ أثر كريشنا مورتي في كمال جنبلاط، ويقول هذا الأخير عنه (داغر، م. س، ص7): “كريشنا مورتي تشبه طلعته البهيّة شعشعة ألوف الشموس المشرقة الطالعة فجأة في الأفق البعيد”، وقد ترجم له كمال جنبلاط كتاب الصديق الخالد.

وواضح أن لهذا المفكّر أثرٌ بيّنٌ في الفكر اللبناني، وهذا لوحده كافٍ كي نستعرض أبرز معالم فكره وتعليمه. وهو ما سأتركه لمن سأحاور في هذا اللقاء، ولن أستبق ما سيقول، وإنّما أكتفي هنا بإيراد ما ذكره عنه معلّمي الحكيم سوامي فيجاينندا (1914-2010). ففي كتابه Un Français dans l’Himalaya (المطبوع في باريس، 1997)، إذ روى في فصلٍ خصّصه له لقاءاته بكريشنامورتي والأثر الذي تركه فيه، وهو ينوّه ببساطة هذا الحكيم وتواضعه، فيقول (ص77): “إذا كانت عظَمة الشأن الروحي تكمن في أن يظهر المرء بمظهرٍ طبيعيّ تماماً، فإن كريشنامورتي قد بلغ بلا ريب ذروة هذا التحقّق”.

أمّا عن لقائه الأوّل به، فيروي فيجاينندا (ص80-81): “أقمتُ في فترة 1951-1959 في أشرم معلّمتي مآ أنندا مايي (1896-1982) Ma Annanda Mayi في بنارس، وكان كريشنا مورتي يأتي كلّ عام في شهر كانون الأوّل إلى مدينة الهندوس المقدّسة هذه، ويقيم في المدرسة التي أسّسها فيها، ويلقي محاضرات عامّة أثناء إقامته.

وفي سنة 1953 اصطحبني أصدقاء لي إلى جامعة بنارس BHU حيث سيلقي كريشنامورتي محاضرة، فذهبت بلباسي المعتاد أي في زيّ سوامي (رجل دين هندوسي). والغريب في الأمر أنّني كنت الغربي الوحيد ربّما في تلك القاعة المكتظّة بالحاضرين وفي زيّ هندي تقليدي، وذلك وسط مئات الهندوس الذين يرتدون الزيّ الأوروبي.

وفجأة دخل رجلٌ القاعة، دون أن يُعلَن عنه، ولم يكن يميّزه عن سائر الحاضرين أيّ شيء، وما من أحدٍ يرافقه، واعتلى المنصّة، وبدأ يتحدّث ببساطة، ومن دون أيّة مقدّمات. كان ذلك الرجل كريشنامورتي نفسه. ونظر إلى الحاضرين، فرآني في زيّ رجل دين هندوسي، وكانوا قد أجلسوني في الصفّ الأمامي، فابتسم بسمة فيها شيء من السخرية، ذلك أنّه لا يحبّ المظاهر الخارجيّة للحياة الروحية. وقد هاجم في محاضرته الدور التقليدي للغورو (المعلّم).

وخلال هذه المحاضرة كان ذهني في حالة وعي تنبّهي عليا Mon Esprit était dans un état d’Hyperconscience استمرّت طيلة اليومَين التاليين.

وعن لقائه الثاني بكريشنامورتي يروي فيجاينندا (ص82-85): “وفي أذار 1957 جاء كريشنا مورتي إلى مدرسته في بنارس وأقام لمدّة فيها، فعزمتُ، مع بعض أفراد أشرم مآ أنندا مايي، أن نقوم بزيارة له، واتّصلنا بمقرّه، فقيل لنا إنّه في فترة صمت ولا يستقبل الزائرين، وهو لا يخرج إلا عند الساعة الخامسة بعد ظهر كلّ يوم في نزهة في حديقة مدرسته، وهي الفرصة الوحيدة التي يتاح فيها للزوّار أن يلتقوه. وكانت مدرسته على الضفّة الأخرى من نهر الغانج الذي يجتاز بنارس، فقصدناها في قارب عبرنا به النهر لنصل إليها. وكان يوماً عاصفاً وممطراً. وما أن بلغنا المدرسة حتى رأينا أحد المساعدين الذي أبلغنا بأسف أن كريشنامورتي لن يخرج اليوم بسبب العاصفة. فقرّرنا أن نعود أدراجنا إلى الأشرم، ولكن، وقبل أن نقفل عائدين جاءنا هذا السكرتير نفسه ثانية معلناً أن كريشنامورتي يدعونا إلى لقائه في غرفته في الطابق الأوّل. وهنا كانت فرصة ثمينة لي كي أرى وجهاً آخر لهذا الحكيم لم أعهده، ولم يعرفه الآخرون به. فرغم أن زميلتي في الأشرم أتمنندا، وهي تلميذة سابقة له، كانت قد حذّرتني من أن أنحني أمامه أو أحمل إليه الزهور كما يفعل الهنود مع سائر المعلّمين، فقد جمعتُ عدداً من الورود من حديقة الأشرم، وحملتها معي بنيّة أن أقدّمها له. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت كريشنامورتي يأخذ ورودي بيدَيه فرحاً، وكانت تعابير وجهه تُظهر رجلاً يتلقّى هديّة ثمينة. ووقع بعض تويجات الورود على الأرض، فانحنى المعلّم والتقطها واحدة بعد أخرى، كما لو كان يقول إنّه لا يريد أن يضيع أيّ شيء من هذه الهديّة الثمينة. وهكذا فوجه المعلّم غير المنتظَر هذا حرّك فيّ مشاعر عميقة.

وبعدها جلس كريشنامورتي على حصيرة بسيطة كانت مفروشة على الأرض، فجلسنا معه، ولم نتبادل سوى كلمات بسيطة، إذ كان في فترة صمت، وساد السكوت جلستنا. ونحن بالحري لم نأتِ لنطرح الأسئلة، بل كي نرى المعلّم أي ما يعرف ب” الدارشان” Darshan. وفي هذا الصمت المؤثّر، ومن دون سابق تصوّر وتصميم، أغمضتُ عينيّ واستغرقتُ في تأمّل عميق. ولا أدري كم استمرّ تأمّلي هذا، لكن أحد مرافقيّ أفادني لاحقاً أنّه تجاوز العشرين دقيقة. وكلّ ما أعرفه أنّه كان ممتعاً واستغراقيّاً. وبعدها نهضنا لنمضي، فرافقنا كريشنامورتي عابراً معنا الرواق، وواضعاً ذراعه على كتف كلّ واحدٍ منّا، واحداً بعد الآخر، ونحن نمشي، وذلك في بادرة صداقة مميّزة خصّنا بها، وكأنّنا من أصدقائه القدماء.

وكما في الذهاب، كذلك في الإياب، كانت تمطر طيلة رحلة العودة. وارتسمت أمام عينيّ صورة كريشنامورتي التي اكتشفتها لتويّ: المعلّم الذي يعرف أن يوفّق بين عقلانيّة مرهفة، ورحمة لامتناهية، وطيبة عفوية، وهي ميّزات الحكماء الأصيلين” Un français, op. cit, pp82-85

وحكاية هذا اللقاء المميّز رواها لي معلّمي سوامي فيجاينندا في مقابلة لي معه في هاريدوار الهند في 16/10/2003، وهي مسجّلة فيديو ومتوفّرة على اليوتيوب. فسألته في ختامها هل تعتبر كريشنا مورتي معلّماً متحقّقاً، فأجاب: أعتقد أنّه متحقّق ولكن ليس تماماً.

Je crois qu’il était réalisé mais pas complètement

فسألته لماذا، أجاب أنه قرأ في سيرته أنّه عندما كان يتعذّب كان يفقد الاتّصال، وقد طلب، وهو على سرير المرض، أن يُحقن بالمورفين لأنّه كان يتألّم كثيراً.

Quand il souffre il ne peut plus avoir le contact. Et il a réclamé la morphine quand il avait trop mal

هذه شهادة معلّمي سوامي فيجاينندا نقلتها باختصار، لكن بأمانة.

وسأحاور الآن كاتباً وصحافيّاً أمضى ردحاً من الزمن يقرأ لكريشنامورتي، ويتابع محاضراته ويتفحّص ما كُتب وروي عنه. إنّه الصحافي ربيع داغر، وقد أصدر مؤخّراً كتاباً بعنوان “جِدو كريشنا مورتي معلّم العالم”، جمع فيه مختارات من نصوص هذا المفكّر الرائد وترجمها إلى العربية.

  • أستاذ ربيع سؤالنا الأوّل بديهي: ما الذي قادك إلى دراسة كريشنامورتي، وبالتالي تأليف كتابٍ عنه؟

تعرّفتُ إلى كريشنامورتي عن طريق الصدفة البحتة. إذ شاهدتُ فيديو له على شبكة الإنترنت باللغة الإنكليزيّة، وأثار انتباهي، بل أذهلني منذ أن سمعته للمرّة الأولى. لأنّه كان يطرح مسألةً عميقةً ومعقّدة. وكان يطرحها بطريقةٍ جدّ مختلفةٍ عمّا يفعله علماء النفس وسائر المتخصّصين في الموضوع. وهذا العمق الاستثنائي عند كريشنامورتي لفتني، فتابعتُ مشاهدة محاضراتٍ وأحاديث أخرى له، فكان يثير فيّ المزيد من الاهتمام مرّةً بعد أخرى، ما جعلني مشغوفاً بمتابعة كلّ ما يمتّ إليه بصلة. فشاهدتُ كلّ ما أتيح لي من أفلام فيديو، وقرأتُ كتبه الورقيّة، وأصغيتُ إلى الكتب المسموعة، واطّلعتُ على أكثر المسائل التي يطرحها.

  • نعرف أنّك من بلدة تنّورين/قضاء البترون، وفيها العديد ممّن درس الفكر الهندي أمثال الأب يوحنّا قمير وغيره، والبروفسور قيس غوش اليوغي وصاحب المؤلّفات العديدة في الفكر الهندي هو خالك. فهل كان لهذا الجوّ القرويّ والعائلي أثرٌ ما في خيارك دراسة كريشنامورتي؟

في بداياتي، وفي زمن الصبا والشباب، تأثّرتُ بخالي البروفسور قيس غوش كثيراً، وأعطاني هو عدداً من المراجع، وكوّنتُ صورةً عن الهند خلاصتها أنّها بلاد الحكماء والفلاسفة إلخ. لكن، وبصراحة، فليس هذا الذي قادني إلى كريشنامورتي. فكما ذكرتُ لتوّي فقد تعرّفتُ إليه عن طريق الصدفة، ووجدتُ فيه شيئاً مختلفاً تماماً. وجدتُ فيه المنهج العلمي الغربي، وفي الوقت عينه الحكمة الهنديّة العميقة. أي أنّه جمع بين الثقافتَين. وهذا واضحٌ من سيرة حياته، ومن مسيرته الفكريّة والثقافيّة، ومن تنقّلاته من الهند إلى بريطانيا والولايات المتّحدة وسائر بلدان العالم. كريشنامورتي مختلفٌ تماماً، وليس مختلفاً فقط عن الحكماء الهنود، بل عن سائر الحكماء كافّة، وهو بنظري أعظمهم.

-قرأتُ في كتابك عدداً من المقولات والحكم والمحاضرات لهذا المفكّر، سأستخدم بعضها مدخلاً لحوارٍ بيننا فعن منظومته الفكريّة والفلسفيّة. تنقلُ في كتابك عن كريشنامورتي قوله (ص38): “في العقل الصامت يصحو الذكاء، والعقل الذي تجتاحه الأفكار هو العقل الصاخب. أمّا العقل الصامت فهو الذي لا تستطيع الأفكار اقتحامه”.

فما هو العقل الصامت، وما هو موقعه في تعليم كريشنامورتي؟

العقل الصامت Silent Mind هو الذي تحرّر من المعلوم Known. والتحرّر من المعلوم عنوان واحدٍ من أشهر كتبه. عقولنا، يقول كريشنامورتي، تعمل في إطار المعلوم: أي خبراتنا وتجاربنا ومعرفتنا التي تخزَّن في الذاكرة. ومن خلال هذا التخزين يستمدّ الفكر وقوده ليعمل. الفكر الذي هو أداة كلّ تصرّفاتنا وسلوكنا. هذا هو عقلنا. ويطرح كريشنامورتي ضرورة إفراغ العقل من مضمونه أي التحرّر من المعلوم.

-كيف يمكن إفراغ العقل من مضمونه؟ وهل يجب أن نفرغه من الأفكار والمعلومات المخزّنة فيه؟

نعم. التحرّر الذي يوصل إلى العقل الصامت هو الإفراغ التامّ من محتوى الوعي. لأنّ وعينا هو محتواه. وعيي أنا هو ما جمعته في ذاكرتي من خلال التجارب والمعارف. يطرح كريشنامورتي مسألة التحرّر تماماً من ذلك، بمعنى أن أكون كلّ لحظةٍ بعقلٍ يواجه اللامعروف أو المجهول Unkwon، وليس عالقاً في المعلوم. وبذلك أكون حيّاً الآن في كلّ لحظة، بكلّ قدرة العقل المتحرّر تماماً، والذي أُفرغ من مضمونه، والمتأهّب تماماً، والذي ليس فيه أيّ عائق.

 – ألا ترى معي أنّه يلتقي هنا، أو بالحريّ يأخذ عن غوتاما بوذا الذي يتحدّث عن مستويات المعرفة الثلاثة: المعرفة الاكتسابيّة، والمعرفة التفكّريّة، والمعرفة الاختباريّة؟ فإنّني أجدُ هنا تأثّراً، بل أخذاً عن غوتاما بوذا. هذا هو انطباعي الشخصي. لكنّني أطرح عليك السؤال، فهل توافقني الرأي؟

أوّلاً ليس عند كريشنامورتي أيّ درجات، ولا أيّة تصنيفات.

  • لكنّ المعرفة الاكتسابيّة، يقول غوتاما بوذا، علينا أن نتخطّاها إلى معرفةٍ اختباريّة، وهذا ما يقوله كريشنامورتي على طريقته، هذا رأيي، وأجدُ أنّ الثاني ينقل عن الأوّل بطريقةٍ ما، ويستعيد طروحات غوتاما بوذا على طريقته.

الفرق كبير، وذلك لأنّ كريشنامورتي يعتبر المعرفة مصيبةً كبرى. فهو يقول مثلاً إنّ المعرفة هي دائماً في ظلّ الجهل، وهي محدودة وغير مكتملة. ويقول كذلك إنّ المعرفة هي الجذر الأساسي للفوضى. إنّه يطرح طرحاً مختلفاً تماماً، ومفاده أنّ هذا العقل الذي أُفرغ من مضمونه، هذا الوعي الذي أُفرغ من محتواه ومن كلّ ما جمعه يتحوّل إلى عقلٍ صامت، عقلٌ لا تقتحمه ولا تتحكّم به الأفكار بهذا المعنى، وليس عالقاً بالرؤيا وبالخيالات وبصدى الماضي. فهو عقلٌ متحقّقٌ تماماً في اللحظة الحاضرة، وفي اللحظة التي تليها يكون أيضاً متحقّقاً بدون أيّ تراكم.

  • تحدّثتَ الآن عن الخوف، ويقول كريشنامورتي إنّ الخوف هو الذي يوجِد الأمل عند الإنسان، وأنت تنقل عنه قوله (ص15): “خوفنا هو الذي اخترع آلهتنا”.

سؤالي الأوّل هل هو مفكّر ملحد؟

وبالتالي هل الدين والإيمان بالله نتاج الخوف البشري برأيه؟

خوفنا الداخلي هو الذي أوجد الأمل لدينا للتخلّص من هذا الخوف. والأمل إذا نضج ينشئ الإيمان. والدين والمعتقد والآلهة هي كلّها نتاج هذا الخوف. فالفكر في مواجهة هذا الخوف، الخوف المروّع الموجود في دواخلنا من الحياة، من الموت، من المصير، إلخ. ففي مواجهة هذا الخوف يوجِد الفكر حلّاً له عن طريق اختراع إله، وكتابٍ مقدّس، ودين، ومعتقد، إلخ. هذا رأي كريشنامورتي.

  • إذا كان هذا تشخيصه للمشكلة، فماذا يقترحُ كحلٍّ لها؟

كلّ هذه الإخراجات التي أوجدها الفكر هي هروبٌ من مسألة الخوف. والحلّ برأيه هو النظر إلى الخوف، ومعالجته عن طريق مراقبته وفهمه. وليس الهروب إلى نوعَين من التسلية Amusment كما يسمّيهما: وهما التسلية الترفيهيّة والتسلية الدينيّة.

  • ماذا تعني التسلية الترفيهيّة، وماذا تعني التسلية الدينيّة؟

ضرب كريشنامورتي مثلاً على ذلك، قال إنّه عندما قدم إلى بريطانيا وجد الناس يذهبون إلى أنواع الترفيه كافّة، ذلك لأنّهم يملكون المال، وبمقدورهم أن يصرفوه على الرياضة، والسيرك والمسارح، وغير ذلك. أمّا في الهند فقد وجد أنّ الناس يُكثرون من الذهاب إلى المعابد ويمارسون الطقوس الدينيّة. ورأى أنّ سبب كلّ ذلك هو الهروب من الخوف. البريطانيّون يهربون إلى التسلية الترفيهيّة، والهنود يهربون إلى التسلية الدينيّة. وهو يعتبر عموماً أنّ الدين هو تسلية للهروب من الخوف.

  • بشأن الخوف تحديداً، تنقل عن كريشنامورتي قوله (ص37): “إذا أراد المرء أن يفهم ويتخلّص من الخوف، فيجب عليه أن يفهم الرغبة أيضاً، فكلاهما يرتبط بالآخر. هما وجهان لعملةٍ واحدة”.

كيف يرتبط الخوف بالرغبة؟ وكيف يمكن التخلّص منه؟

مسألة الخوف معقّدة جدّاً، وتقبع في دواخلنا العميقة، أي في ما يسمّى اللاوعي، ويسمّيه كريشنامورتي الوعي العميق. وهذه المسألة، مع تعقيداتها العديدة، يجب مقاربتها خطوةً خطوة، تماماً مثل المعادلة الرياضيّة. ويبحث كريشنامورتي أوّلاً في جذور الخوف، فيدعو الإنسان إلى أن ينظر بعقله، بقلبه، بإحساسه وبكلّ ما لديه من وسائل، وليس فقط بالفكر. أن ينظر في حياته، وفي أعماقه، ويطرح السؤال: ما هو سبب خوفي أنا كإنسان؟ وهو يرى أنّ الأسباب العميقة لذلك هي الفكر والزمن. هذه برأيه هي جذور الخوف.

  • ما هي إذاً العوامل التي تغذّي الخوف؟

أهمّ العوامل المغذّية للخوف هي المقارنة. فالمقارنة هي التي تنمّي الخوف في الحياة. أمّا السبب الثاني فهو الرغبة، أو اللذّة. لأنّ اللذة هي استمراريّة الرغبة، الرغبة واللذّة هما شيء واحد. وعندما تنشأ الرغبة في الإنسان يأتي الفكر ويضع صورةً لها ويتابعها. وبمتابعة الرغبة لتحقيقها ينشأ الخوف، وينشأ الألم، وينشأ النزاع، وينشأ الصراع. إذاً عندما أطلب تحقيق الرغبة التي هي اللذّة، أي عندما أطلب اللذّة ينشأ معها الألم.

  • هل يعني ذلك أنّه علينا أن لا نرغب، أي أن لا يكون عندنا رغبات برأيه؟

عند كريشنامورتي هناك مقولة أساسيّة: أن نفهم يعني أن نتحوّل. هو يتحدّث عن الفهم، فهم الأشياء بكلّيّتها. طبيعة الشيء وبنيته، طبيعة الرغبة وبنيتها. وهو لا يوجّه بتاتاً، يدعو فقط إلى أن يفهم الإنسان ماذا يحصل، وبفهم ماذا يحصل يتحوّل الإنسان، ويختار ما يريد. لكنّ كريشنامورتي لا يوجّه: لا يمنع ولا يسمح.

  • تنقل عن كريشنامورتي في تحذيره من مغبّة الانتظارات (ص23): “هل لاحظتَ أنّ الإلهام يأتي عندما لا تبحثُ عنه؟ ويصل عندما يتوقّف كلّ توقّع، وعندما يهدأ العقل والقلب؟”.

هل يعني ذلك أنّه علينا، برأيه، أن نتوقّف عن أن نرغب وننتظر ونتوقّع؟

بالنسبة إلى كريشنامورتي فهو يدعو إلى الكفّ عن السعي. ويطرح المسألة كالتالي: عندما يكون العقل واضحاً تماماً لا يسعى، وعندما يكون العقل صامتاً فليس هناك من سعيٍ مطلقاً. والأمر الثاني أنّ كريشنامورتي يعتبر الأمل عنصراً هدّاماً على الصعيد النفسي.

  • حتّى الأمل، وليس فقط الرغبة؟!

أجل، فهو يقول إنّ الأمل Espoir عنصر هدّام على الصعيد النفسي.

  • هل يميّز بين الأمل والرغبة؟

طبعاً، ويعرّف الأمل، ويحدّد ما هو. وإضافةً إلى السعي والأمل، فهو يتحدّث عن أمرٍ ثالثٍ هو الطموح. فهو يعتبر أنّ انعدام الطموح طاقة هائلة، أمّا الطاقة الناتجة عن الطموح فهي هدّامة. وهذه الأشياء الثلاثة أي السعي والأمل والطموح رفضها كريشنامورتي لأنّها تضيّع الطاقة، وتهدرها وتبدّدها. وهذا بالذات ما يُبعد كلّ شيءٍ طبيعيٍّ وتلقائيٍّ مثل الإلهام.

  • أليس هذا نوعاً من القضاء على طموحات الإنسان؟! فمثلاً يقول كريشنامورتي (ص16): “نريد جميعاً أن نكون أناساً مشهورين، وبمجرّد أن نريد أن نكون ذوي شأنٍ لا نعود أحراراً”.

فلماذا نفقد حرّيّتنا برأيه متى بحثنا عن الشأن والمركز والشهرة؟!

لأنّ التحرّر يجب أن يكون من الذات، من الأنا Ego. وهو يقول بوضوحٍ إنّ هذه الشهرة هي جزء من إثبات الذات. وهو يتحدّث عن شيءٍ مختلف تماماً، ليس عن إثبات الذات، بل عن إلغاء الذات. وبهذا المعنى فإلغاء الذات (إلغاء الأنا Me)، هو الحرّية بذاتها. وأيّ شيءٍ لذلك كالشهرة والسعي لتحقيق صيت، وغير ذلك هو نقيض لما يطرح كريشنامورتي. هدفه الوحيد هو إلغاء الذات.

  • إلغاء الأنا؟ أم إلغاء الذات؟

هو يضعهما معاً.

  • أعتقد أنّه هنا لا يفترق عن خطّ الحكمة الهنديّة الفيدانتيّة مثل رامانا مهارشي وغيره، والذين يقولون إنّ طريق التحقّق هو طريق خسارةٍ وليس طريق ربح. وماذا علينا أن نخسر؟ أن نخسر أعزّ ما عندنا، وهو الأنا. إنّه على طريقته يعبّر عن الهدف عينه، ألا وهو أن نتخطّى الأنا، أن نخسر الأنا، أو ما يسمّيه الصوفيّة “محق الأنا”.

مع اختلافَين عمّا تفضّلتَ به. والأوّل أنّها ليست خسارةً بالنسبة إلى كريشنامورتي، ليست شيئاً مؤلماً، ليست تضحية، بل يقول إنّه شيء طبيعي ويتمّ بفرحٍ وسهولة.

  • كيف؟! دائماً المشكلة مع كريشنامورتي “الكيف” Le comment، أي عمليّاً كيف يمكن أن نتخطّى هذا الأنا، وبفرحٍ وبدون أيّ مجهود؟!

هذا ما كنتُ بصدد قوله، فالإشكاليّة الثانية مع هؤلاء الحكماء أنّ كريشنامورتي يطرح عدم التدرّج، وعدم اتّباع أسلوب، وعدم دخول الزمن في هذه المسألة نهائيّاً. فإذا ما دخل الزمن، فهو أيضاً عامل لتعزيز الذات وتعزيز الأنا، لأنّ الزمن هو الفكر. فأنا عندها أكون أعتمد على الفكر لإلغاء الفكر، أعتمد على الأنا لإلغاء الأنا. وهذه خدعة من خِدع الفكر أيضاً، والتي كشفها كريشنامورتي.

أمّا عن سؤالك كيف ذلك، فهو يقول في معظم محاضراته إنّه ليس هناك “كيف”، لأنّي إذا قلتُ “كيف” فعندها اضطرّ إلى اتّباع أسلوب، اتّباع معلّم، اتّباع طريقة، وبالتالي عدتُ إلى خدعة الفكر نفسها والتي هي التدرّج والتقدّم والزمن…

  • وهنا تحديداً يحضرني ما يقول كريشنامورتي بشأن الزمن والغد (ص39): “العيش بلا غدٍ يعني انتهاء الحزن”.

فماذا يقصد من قوله هذا؟ وهل يدعو الإنسان إلى الكفّ عن الاهتمام بالمستقبل؟

فلنفهم أوّلاً ما هو الغد. فهل الغد موجود بالمعنى النفسي؟

  • ماذا يقول كريشنامورتي بشأنه؟

الغد هو جزءٌ من الزمن النفسي الذي وضعه الفكر. الفكر وضع ثلاثة أزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل. وهذه أيضاً من اختراعات الفكر.

  • هل تعني أنّ الزمن بالنسبة إليه ليس له وجود حقيقي وفعلي؟! وهو مجرّد تصوّرٍ وتخيّلٍ افتراضي؟!

بل الزمن النفسي هو من وضع الفكر، أي افتراضي. أمّا الزمن الكرونولوجي، الزمن الخارجي، زمن الكون والكواكب والأزمنة الكونيّة فهذا شأن آخر. ومن هنا فهو يقول إنّ هناك زمنَين: الزمن الكرونولوجي، والزمن النفسي. وهو لا يطرح مسألة الزمن الكرونولوجي، بل يتركها لغيره من المختصّين. ويكتفي بطرح مسألة الزمن النفسي. ما هو زمني النفسي؟ هو ماضيّ الذي أتذكّره، وحاضري الذي أعيشه، ومستقبلي الذي أتصوّره. وهذا كلّه وضعه فكري. أمّا في الواقع فليس هناك هذه الأبعاد الثلاثة، هناك فقط الحاضر.

  • أظنّ أنّ أكثر الحكماء يقولون ذلك، ويردّدونه. في التصوّف الإسلامي مثلاً يقولون إنّ الصوفي هو ابن وقته، يعني لا ماضي عنده يؤرّقه أو يتحسّر عليه، ولا مستقبل يقلق بشأنه. إنّه ابن وقته ابن حاضره.

وثمّة أمرٌ آخر تتحدّث عنه في كتابك نقلاً عن كريشنامورتي وهو مفهومه للمراقِب والمراقَب. فهل يمكن أن تشرحه لنا باختصار؟

مسألة المراقِب والمراقَب من أكثر المسائل حيويّةً في فلسفة كريشنامورتي. فماذا يعني المراقِب والمراقَب؟ إذا أخذنا شيئاً ما: شجرة مقابلي: أنا المراقِب، والشجرة المراقَب. والفكر يعمل على الفصل بين المراقِب والمراقَب. يقول إنّ هناك مسافةً بيني وبين الشجرة. وفي هذه المسافة هناك فضاء هو زمن، وهذا الزمن كي أتغلّب عليه وأكون أنا والشجرة في التقاءٍ وفي حالةٍ واحدةٍ فيجب أن أبذل مجهوداً على الصعيد النفسي. فهو يريد أن يوصلنا إلى المراقب والمراقَب على الصعيد النفسي. إذا ظهر شعورٌ عندي مثل الخوف، أو الغضب، أو الحزن، وما إلى ذلك، يقول فكري: أنا المراقِب والخوف هو المراقَب. إنّما في الحقيقة المراقِب هو المراقَب، ما يعني: “أنا الخوف”. إذاً لا تعود هناك أيّ مسافةٍ بيني وبين الخوف لأنّي أنا الخوف. إذا كانت هناك مسافة كما يقول الفكر بين المراقِب والمراقَب، فإنّه عليّ أن أقومَ بجهدٍ ينتجُ عنه صراعٌ للتغلّب على الخوف، لتخطّيه ونسيانه، لتبريره إلخ. بينما إذا علمتُ أنّ المراقِب هو المراقَب: أي لستُ أنا خائفاً، بل أنا الخوف، فلا يعود عندها من فعلٍ أقوم به على الإطلاق. عدم الفعل هذا هو أعلى أنواع الفعل على الصعيد النفسي، وهذا يعني أنّ الخوف ينتهي من ذاته ولا يعود إلى الأبد.

  • أعتقد أنّه هنا يلتقي مع الفكر الهندي عموماً، وما نقله البيروني عن متصوّفِي الإسلام ومتصوّفِي الهندوسيّة في صيغة: “ويتّحد العقل والعاقل والمعقول ويصيروا واحداً”.

بالضبط، لكنّ الفرق أنّ الثلاثة لا يصيرون واحداً، فهم في الأساس واحد، لكنّ الفكر لا يسمح لنا برؤية هذه الوحدة، الوحدة في الأساس.

  • الحكيم الهندي المعاصر مهاريشي ماهش يوغي يتحدّث من ناحيته عن المعرفة والمعروف والعارف، ويقول إنّها تصير واحداً عند بلوغ التحقّق. أجدُ أنّ الفكرة هي عينها. فما رأيك أنت؟

الصيرورة تستلزم زمناً، وهكذا ندخل في خِدع الفكر مجدّداً.

  • تقول أنت في كتابك عن كريشنامورتي (ص5): “الرؤية التي يطرحها غاية في التشويق والتعقيد”.

فما الذي فهمتَه أنت، وما الذي فاتك فهمه حتّى الآن من تعليمه؟

فهمتُ أكثر الأشياء تعقيداً عند كريشنامورتي، مثل إفراغ العقل من مضمونه، وإفراغ الذاكرة من محتواها العاطفي، ومعنى الموت. وهذه أكثر الأشياء تعقيداً عنده. وتمكّنت من فهمها لأنّني واجهتُ هذا التحدّي الهائل في الأشهر الأولى من بحثي في فكر كريشنامورتي، وأصرّيتُ على الفهم. لكنّها كانت رحلةً شاقّة.

  • واستطراداً لما تقول أسألك: معرفة كريشنامورتي والتعمّق في تعليمه ماذا غيّرا فيك أنت؟

إنّه التغيير الذي يحدثه من خلال إيقاظك. ليس هو من يُحدث التغيير. هو يقول بوضوحٍ تامّ: أنا مرآةٌ للنفس البشريّة، من نظر في هذه المرآة وشاهد نفسه فليعالجها. ومن لا يرى نفسه في هذه المرآة فليذهب، أو فليكسر المرآة. ويقول من ناحيةٍ ثانية: إنّي أدعوكم إلى القيامِ برحلةٍ في كلّ بنية النفس البشريّة.

والتغيير الذي تتحدّث عنه في سؤالك هو بالأحرى تحوّل وليس تغييراً. التحوّل يعني تغييراً جذريّاً وليس تغييراً في بعض الصفاتِ والسلوكيّات والأفكار وحسب، بل هو تغيير جذري في طبيعة العقل البشري، ويعني أن لا يكون هناك بديلٌ عن الغضب بالتسامح، بل يصبح كلا الأمرين غير واردَين. إنّه نطاقٌ آخر تماماً. ولا يستطيع الإنسان حتّى وصفه، لأنّ كريشنامورتي يقول إنّ الوصف ليس الموصوف، والكلمة ليست الشيء. ولكن، قد يكون الصمتُ والتأمّل هما ما يدلّ على ما حدث في النفس.

  • تَحدَّثنا عن الرغبة وكيف يربطها كريشنامورتي بالخوف، ويقول إنّ أساس الخوف هو الرغبة. أودّ هنا أن أفتح قوَسَين بشأن الرغبة في مفهومه، وتحديداً الرغبة الجنسيّة. وأسألك عمّا رُوي عنه أنّه كان له ولدٌ غير شرعي، في حين أنّ ذلك لم يكن معروفاً في البداية؟!

عُرف عن كريشنامورتي أنّه كان متحرّراً على هذا الصعيد، ولا سيّما في بدايات إقامته في أميركا، فبعد أن استقال من الجمعيّة التيوزوفية سنة 1929، تعرّف إلى إحدى الفتيات وكانت له علاقة كاملة معها. وبعد فترةٍ افترقا، وأخذت هي تكتب عنه في الصحف، وكان قد أصبح مشهوراً على صعيدٍ عالميّ. ومن المرجّح أنّها استغلّت هذه النقطة لتتحدّث عنه وتشهّر به.

  • السؤال هنا: هو إذاً لم يعش على الطريقة الهنديّة التقليديّة بتولاً؟

بتاتاً، بيد أنّه لم يردّ على هذه المرأة قطّ، ولم يكذّب ادّعاءاتها، وهذا ما أوصل المسألة إلى حائطٍ مسدود. فلا نستطيع أن نعرف ماذا كانت حقيقة هذه العلاقة؟ وهل صحيح أنّ له ولداً غير شرعي؟

-يعني أنّها مسألة غير محسومة؟

إنّها غير محسومة، وما من إثباتاتٍ بتاتاً في هذا الموضوع، إذ اقتصرت المسألة على ادّعاءاتها في الصحف.

  • ماذا الآن عن المسألة الجنسيّة عموماً في فكر كريشنامورتي؟

طرح كريشنامورتي مسألة الجنس، وكذلك المثليّة الجنسيّة باستفاضةٍ في الكثير من حواراته. وهو يقول عموماً إنّ الجنس مسألة طبيعيّة، والمثلية الجنسيّة هي جزء من الجنس.

  • هل تعني أنّه يوافق على ما نسمّيه اليوم مثليّةً جنسيّة، وما سمّي سابقاً “الشذوذ الجنسي”؟

نعم، يوافق عليه لأنّه يعتبره جزءاً من الجنس. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة ميولاً جنسيّةً كثيرةً وغريبةً جدّاً. وكريشنامورتي يضعها ضمن هذا الإطار: الجنس. ويقول عن الجنس إنّه لا يجب أن يكون محلّ دعاية Propagande وهو أصبح دعايةً عالميّة، ويستغرب ذلك ويستهجنه. لماذا كلّ هذه الدعاية للجنس؟ وهو أمر طبيعي، عملي، ويحصل بكلّ سلاسةٍ في هذا العالم؟!

  • وماذا عن موقفه من البتوليّة وهي معروفة في التقليد الهندي؟

يقول ببساطةٍ وصراحةٍ إنّ بعض الأشخاص قمعوا الجنس على خلفيّاتٍ عقائديّةٍ مثل الرهبان والنسّاك إلخ. أي أنّهم قمعوا الطبيعة، ومن يقمع الطبيعة تقمعه الطبيعة، وتحوّله إلى ركام. وعلى نقيض ذلك، فهناك أشخاص أفرطوا في الجنس، فحصدوا ألماً كبيراً.

  • هو إذاً يقول إنّ الرغبة تقود حتماً إلى الألم؟ وهي بالتالي الوجه الآخر للألم؟

إنّه يضع الرغبة في موضعها. وهو يقول عموماً: إنّ فنّ العيش هو وضع الأمور في مكانها المناسب. والجنس له مكانه المناسب.

  • ما هو مكانه المناسب؟

هو مثل كلّ الغرائز الطبيعيّة، لا أكثر ولا أقلّ، مثل الأكل ومثل كلّ حركةٍ يقوم بها الإنسان. والجنس مختلف أيضاً عن موضوع الرغبة، لأنّه مسألة غريزيّة أساسيّة طبيعيّة. أمّا الرغبة فقد تتنوّع وتنتقل، مثل الشيخ العجوز الذي لا يستطيع أن يتمّم اللذّة الجسديّة الجنسيّة، فيحوّلها إلى لذّةٍ روحيّة. ومن هنا نجد أنّ المتقدّمين في السنّ يُكثرون من الذهاب إلى المعابد، ويتذكّرون المعابد في أواخر أعمارهم. أو قد تتحوّل الرغبة الجنسيّة إلى رغبةٍ فكريّةٍ مثل التعلّق بالكتب، والارتباط بالكتب، ويتحدّث عن ذلك كثيراً.

  • سؤال نختم به حوارنا الشيّق هذا. ما الذي من شأن تعليم كريشنامورتي أن يحمله إلى إنسان اليوم الغارق في الأزمات والمشاكل حتّى أذنَيه؟

عموماً، كلّ المدارس الفلسفيّة أو الدينيّة أو كلّ الطرق تعالج مسائل الناس والبشريّة بطريقةٍ تجزيئيّةٍ اقتطاعيّة: مشكلة البيئة، مشكلة الصحّة، إلخ. في حين أنّ كريشنامورتي يطرح حلّاً جذريّاً متكاملاً، إنّه الحلّ النفسي. فإذا حللنا مشكلتنا النفسيّة جذريّاً، فكلّ ذلك يكون سهلاً جدّاً ويحلّ من تلقاء ذاته. ومن هنا فهو يطرح شعاراً كبيراً للعيش ألا وهو أن نعيش نهائيّاً أبديّاً من دون أيّ صراع. وهنا تُطرح مسألتَان: الأولى العيش بدون مجهود، وهذه مسألة لا يوافق العقل عليها، لأنّ العقل مبرمج على المجهود منذ الطفولة، ففي المدرسة يعلّموننا أنّه يجب أن نبذل مجهوداً، ويشجّعون المجهود. في حين أنّ كريشنامورتي يعتبر المجهود لعنةً على حياة الإنسان. لعنة الإنسان المجهود، كما يقول. ويضيف أنّ البركة العظمى هي العيش بلا مجهود، ونستطيع العيش بلا مجهود.

والمسألة الثانية: التحكّم. فصراعاتنا ومشاكلنا تأتي من التحكّم. فيسأل كريشنامورتي: هل استيقظتَ يوماً وقلتَ سأعيشُ نهاري من دون أيّ ظلٍّ للتحكّم؟ عندها سترى أشياء غير متوقّعةٍ في حياتك.

وهذا ما يحصل مع الذي يعيش من دون مجهودٍ ومن دون تحكّم. وبالخلاصة فكريشنامورتي يطرح أموراً لم يطرحها أحد، لكنّك عند التطبيق تجدها صحيحةً ومحقّة.

 

 

خاتمة

ويبقى كريشنامورتي شخصية تثير الكثير من التساؤلات. محبّوه وأتباعه يبالغون في تثمين إسهاماته في مجالات الفلسفة والحكمة، في حين يغالي آخرون في إنكار ذلك. وأكتفي هنا بشهادةٍ بسيطة لي. فخلال رحلتي إلى جنوب الهند صيف 2003 قمتُ بزيارة لمنزل كريشنامورتي في مدينة مدراس في 30/9/2003، وهو في الوقت عينه مقّر الجمعيّة التي أسّسها وتعنى بنشر تعاليمه ومؤلّفاته وتسجيلات محاضراته وحواراته. Krishnamurti Foundation India, Vasanta Vihar, 64 Greenways Road, Chennai (Madras) 600028 India

ولا يبعد هذا المقرّ عن المركز العالمي للجمعيّة التيوزوفية في مدراس والتي بدأ كريشنامورتي مشواره الفكري والحِكمي معها.

وما لحظتُه في هذه الزيّارة، وبقي منطبعاً في الفكر والوجدان البساطة التي يتّصف بها هذا المنزل، والذي غدا بعد وفاة صاحبه بمثابة متحفٍ له. فرغم ما أصاب هذا المفكّر من شهرة وحقّق من نجاح ومداخيل، آثر أن يعيش حياة بسيطة، في حين خصّص عائدات كتبه ومحاضراته للمؤسّسة التي عملت ولا تزال على نشر كتبه وفكره. وأذكرُ أنّني جلستُ على كرسيّ في ذلك المنزل الجميل بالقرب من مكتب كريشنامورتي، وأغمضتُ تلقائياً عينيّ، واستغرقتُ في تأمّلٍ عميق حمل إليّ بعضاً من الفرح وهدوء الفكر اللذين عاشهما هذا المفكّر الحكيم، وذكّرني بتأمّل معلّمي فيجاينندا في حضرته، والذي سبق ذكره.

أمّا الحديقة المحيطة بالمنزل فهي في الحقيقة غابة شاسعة، بل هي محميّة طبيعيّة تحوي الكثير من الأشجار والأزهار والنباتات الرائعة. بساطة مؤثّرة، ومحميّة طبيعية، هي بمثابة واحة سلام وسكون وسط مدينة تعجّ بالسكّان والحركة، وكلّها عوامل وعناصر تتيح للزائر أن يعود إلى أمّه الطبيعة، ويخبر بل يلتقط بعضاً من تردّدات Vibrations ذاك الحكيم التي لمّا تزل عالقة على جدران منزله، وعلى بعضٍ من أشجار غابته. وهي تحكي عن مفكّر مختلف أثار الكثير من الجدل ولا يزال، بيد أنّه كان صادقاً وجريئاً ومخلصاً في ما قال وأعلن من طروحات. رفض كريشنامورتي أن يخلق أقفاصاً أخرى، أو أن يبتكر ديكورات جديدة لهذه الأقفاص، كما قال في خطاب استقالته من الجمعية التيوزوفية في 3/8/1929 (صليبا، لويس، أديان الهند، م. س، ص94)، رفض أن يؤسّس ديناً جديداً، وكان بمقدوره أن يفعل وأن يكون بالتالي محطّ تبجيل وتأليه عند تابعيه. وكان همّه التحرير الكامل وغير المشروط للإنسان، وسيبقى بعد مماته، كما كان في حياته مَعلَماً فكريّاً ومنارة للكثيرين.

يمكن مشاهدة المقابلة مع سوامي فيجاينندا عن كريشنامورتي على الرابط التالي

 

شاهد أيضاً

Note de la o VisioConferință de Lwiis saliba (Sur Zoom) Echanimitate și mindfulness Miercuri, 18 septembrie 2024

Note de la o VisioConferință de Lwiis saliba (Sur Zoom) Echanimitate și mindfulness Miercuri, 18 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *