مبدعون من لبنان/مجلّة الأمن شباط 2019
بقلم أ. د. لويس صليبا
موسى زغيب اليوم هو عميدُ الزجل اللبناني بلا منازع، والأمينُ والمؤتمنُ على تراثه.
عناوين فرعية:
-بولس سلامه: لبنان وزجّالوه كما الشمس وضوؤها… إن الأرز والزجل منبتهما لبنان
– قصيدةُ زغيب فعلت فعلَ آلةِ القانون للفارابي. وفي الشعرِ موسيقى تضارعُ أشجى ما تخرجُه الآلات
– شغلت شاعريةُ زغيب والزغلول الأوساط الشعبية والفنّية ردحاً طويلاً من الزمن ما يذكّر بخلاف أهل العصر الأموي
– علاقةَ موسى زغيب بسابقه خليل روكز جديرة بأن تُروى، أو بالحري أن تدرس بتأنٍ
-زغيب في الكثير من أبياته يبرع في التعبير ببساطة عن فكرته، ولكن بساطته هذه تبقى صعبة المحاكاة
-غيّر موسى زغيب وجه المنبر الزجلي، وشجّع المرأة على المشاركة في حفلات الزجل، وأبرز مواهب الكثيرات.
6-البطريرك صفير مستقبلاً موسى زغيب في بكركي
4-الرئيس رفيق الحريري مستقبلاً الشاعرين موسى زغيب وزغلول الدامور في احتفال تكريمهما في السراي الكبير.
3-بداياته: ينشد الشعر في مدرسة الفرير عمشيت 1958
8-حراجل وكل كسروان في احتفال إزاحة الستار عن تمثال موسى زغيب 2007.
5-الشاعر سعيد عقل يمنح موسى زغيب جائزته تموز 2002
7-في حفلة زجلية
مع الوزيرَين ماجد حمادة ولويس أبو شرف عند تقليده الوسام 1973
1-موسى زغيب الشاعر المجدّد والمتمرّد
تعليقات الصور:
1-موسى زغيب الشاعر المجدّد والمتمرّد
2-مع الوزيرَين ماجد حمادة ولويس أبو شرف عند تقليده الوسام 1973
3-بداياته: ينشد الشعر في مدرسة الفرير عمشيت 1958
4-الرئيس رفيق الحريري مستقبلاً الشاعرين موسى زغيب وزغلول الدامور في احتفال تكريمهما في السراي الكبير.
5-الشاعر سعيد عقل يمنح موسى زغيب جائزته تموز 2002
6-البطريرك صفير مستقبلاً موسى زغيب في بكركي
7-في حفلة زجلية
8-حراجل وكل كسروان في احتفال إزاحة الستار عن تمثال موسى زغيب 2007.
الزجل، هذا التراث الوطني النفيس، بل هذه السمة البارزة التي تميّزُ الهوية اللبنانية، فنٌّ هو اليوم مهدّدٌ فعلاً بالضياع والانقراض!! ويكاد الإهمال وقلّة اكتراث الأجيال الطالعة به يفترسه. كثرٌ هم من دقّ ناقوس الخطر وحذّر من ضياع هذا الإرث اللبناني الهويّة والهوى. وأن نضمّ صوتنا إلى هذه الأصوات النبيلة لهو أضعف الإيمان! ولكن مجرّد التحذير والنعي يبقى صرخةً في واد إن لم يُقرن بعملٍ ما. لذا ومساهمة منّا في “مجلّة الأمن” بصون هذا التراث الأصيل، سنعمد، وفي حلقاتٍ عديدة من زاوية “مبدعون من لبنان” إلى تسليط الأضواء على عددٍ من كبارنا في الزجل. والبداية مع موسى زغيب، فهو اليوم عميدُ الزجل اللبناني بلا منازع، والأمينُ والمؤتمنُ على تراثه.
الزجل إرث في طور الانقراض
في كتابه القيّم عن الزجل والصادر حديثاً يعبّر صديقنا الباحث د. نبيل أبو مراد عن خشيته على مصير هذا الفنّ الأصيل، ويحذّرُ من الآتي، وهو أعظم ممّا نشهدُ اليوم، يروي لنا في خاتمة كتابه بأسى بالغٍ معبّر: «كنتُ أتردّد في ما مضى إلى محلٍّ لبيع الأشرطة الزجلية، وكنتُ أرى رفوفَه مدجّجةً بها. (…) ومررتُ منذ فترة وجيزة، فرأيتُ الرفوفَ فارغة إلا من بعض الأقراص المدمّجة، وعندما ناولتني الموظّفة لائحةً بالموجودات، وجدتُ أن العددَ لا يتجاوزُ المائتين» (أبو مراد، نبيل، موسى زغيب مسار التجديد والتطوير في الزجل اللبناني، بيروت، المطبعة العربية، ط1، 2017، ص241).
وهنا يتساءل باحثُنا بأسى:«مائتا تسجيلٍ فقط لحفلاتٍ زجليّة ما زلنا نحتفظُ بها من هذا التراث الغزيرِ كبحر، الدفّاقِ كشلّال؟! أين الألوفُ والألوف من هذه الحفلات؟ أين أشعارُها وشعراؤها؟ خَشيتي أن هذا التراث سيضيعُ إن لم نتدارك الأمرَ الآن.» (ص241-242)
وبالمقابل فالزجل سمة أساسية من سمات الهويّة اللبنانية. يقول الشاعر الملحمي بولس سلامة (1902-1979): “لبنان وزجّالوه كما الشمس وضوؤها… إن الأرز والزجل منبتهما لبنان”. فإذا ضاع الزجل ضيّعنا جانباً مهمّاً من هويّتنا الثقافية والوطنية!
ونكتفي بهذا القدر، وعسانا نتدارك الأسوأ.
موسى زغيب ملامح سيرة شاعر
ولد موسى زغيب في بلدة حراجل/كسروان 1937. والده يوسف زغيب كان شاعراً زجّالاً ينشد أشعاره في المناسبات، وجدّه لأمه طنّوس بو فخر كان هو الآخر زجّالاً. تعلّم موسى في مدرسة الفرير في عمشيت/جبيل. وما أن بلغ سنّ اليفاع حتى أحسّ بميل لنظم الأزجال الشعبية فراح يمرّن قريحته على ذلك. وعندما أصبح في الخامسة عشرة من العمر استحوز الزجل على كامل اهتماماته فراح يتابع حفلات الزجل في المناطق اللبنانية ويلتقي بالشعراء ومن بينهم شاعر العتابا المعروف الياس النجّار الذي تبارى مراراً معه. بعدها تطلّع موسى إلى المنبر الزجلي، وشاء أن يكون من فرسانه. وكانت الجوقات يومها أي في الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي تتألف بسرعة، والشعراء يتنقّلون من جوقة إلى أخرى. فأتيحت لموسى الفرصة للانتساب إلى “جوقة الأرز” التي أسّسها حنا موسي 1944.وغنّى فيها إلى جانب أنيس الفغالي وخليل روكز وزين شعيب. ثم دخل جوقة الزغلول، وبقي فيها حتى اشتدّ عوده. فأسّس جوقته الخاصّة 1953 باسم “باز الجبل” وضمّت إضافة إليه غنطوس صليبا، سليم رشدان، وأحمد حماده. ولم تعش هذه الجوقة طويلاً، فانتسب موسى 1955 إلى جوقة الجبل التي أسّسها خليل روكز. ثم انتقل إلى جوقة “المنتخب الفنّي” التي أسّسها طانيوس الحملاوي 1957. لكن المرحلة الفاصلة في مسيرة موسى زغيب بدأت بعد أن توفي خليل روكز 1962. عندها بدّل موسى اسم جوقة هذا الأخير إلى “جوقة خليل روكز” وكان برفقته أنيس الفغالي وجريس البستاني وبطرس ديب. ثم تنازل عن هذا الاسم لأبناء خليل روكز ليصبح اسم جوقته “جوقة القلعة” التي عرفت شهرة واسعة، وتنقّلت في مختلف المناطق اللبنانية وبلاد الاغتراب. نال وسام الاستحقاق اللبناني1973. الدرع الملك حسين التقديري، الأردن، 1974. ودرع وزارة الثقافة 1998، ووسام الأرز الوطني برتبة فارس من الرئيس العماد إميل لحّود، 2002. نال جائزة سعيد عقل في 17/7/2002. كرّمته بلدته حراجل فأقامت له فيها تمثالاً 2007.
من مؤلّفاته: 1-عشرين سنة، ينشد فيه مأساة فلسطين. 2-قناديل الزمان، 1977، يتناول فيه الحرب اللبنانية. 3-قلم ودفّ، 1992. 4-أنا والسهر، 1999. 5-وصايا، 2006. 6-مبارح وبكرا، قصائد رثاء. 7-ملحمة الانتشار اللبناني، 2014، يروي فيه قصّة الإبداع اللبناني في المهجر في العصرين القديم والحديث.
في ستّينات القرن العشرين أطلّ موسى زغيب مع انطلاقة تلفزيون لبنان في ليالي الزجل. ثم في برنامج زجل وعتابا على شاشة Lbc، كما أطلّ على شاشة تلفزيون الجديد في حلقات تمّ تصويرها في أكثر القرى اللبنانية. وشارك وأشرف على برنامج “أوف” الخاصّ بهواة الزجل والذي عُرض على شاشة Otv، 2010-2012.
غيّر موسى زغيب وجه المنبر الزجلي، إذ ركّزه على تخت موسيقي شرقي متطوّر، وكورال منظّم من صبايا وشباب ذوي أصوات حلوة. وشجّع المرأة على المشاركة في حفلات الزجل، وأبرز مواهب الكثيرات في هذا المجال.
وهو أوّل من أدخل الشروقي في المآتم والمنابر الزجلية، بعد أن سمع صوت الربابة وأُعجب به. فصار بعد ذلك نظاماً زجليّاً تعتمده كلّ الجوقات. وله الفضل في إدخال الأغاني التراثية الجميلة في الزجل وحفلاته، مثل “هلّا هلّا يا جملو” “يا غزيّل”، ولا سيما الدلعونا التي صارت تغنّى في الحفلات بإيقاعات خاصّة وجديدة
موسى زغيب شاعر طليعيّ
يعي زغيب تماماً موقعه في الزجل اللبناني، ودوره المميّز في نشره والحشد له. وهو يقول في ذلك مفاخراً:
زجل لبنان سلّمني الأمانة أميرو وسيّدو ومالك مصيرو (أبو مراد، م. س، ص102)
وينقل لنا أبو مراد قول سعيد عقل له 1974: «يا صديقي موسى، أنت اليوم بين شعراءِ الزجل طليعتُهم ورئيسُهم(…) أنت عمودٌ من أعمدة بعلبك، أنت قطعةٌ من شرف لبنان.» (ص86).
ويروي محبّو خليفة خليل روكز ورفيقِه عنه حكاياتٍ تقاربُ حدَّ الأساطير. وهاك واحدةً ممّا يروون، حكاها لنا صديقنا الشاعر وراوية الشعر المهندس ناظم نعيم يزبك: «توفّيَتْ، صيف 2010 على ما أرجّح، والدةُ إميل نون رئيسِ عصبةِ الشعر، وكانت امرأةً مسنّة تخطّت التسعين بسنوات. فنظّم لها ابنُها في الأربعين، وفي قريته مشمش/قضاء جبيل، حفلَ تأبين، وتقاطرَ الشعراءُ للمشاركة، وعلى رأسِهِم موسى زغيب. ولكنّ هذا الأخير اشترطَ على صاحبِ الحفل قائلاً: يا بيحكو الشباب وأنا مش زعلان، يا إنّو إذا بدّي إحكي، بدّي إحكي وحدي. وقبِل إميل نون بشرطِ زغيب، ورتّب الأمور مع الشعراء الآخرين على هذا الأساس. فصعِد موسى إلى المِنبر، وألقى قصيدةً سحرت المستمعين. ورغم أن المتوفّاة امرأةٌ شبِعت من السنين كنتَ ترى رجالاً، شيباً وشبّاناً، تبكي، وتسحبُ محارمَها لتمسحَ دموعاً أبت إلا أن تعبّر عن التأثر. ثم انعطف الشاعر مقارِناً بين أمّهات الأمس واليوم وخادماتهن السريلانكيّات، وعندها مشى الضحك. وهكذا أبكى القومَ وأضحكَهم في قصيدةٍ واحدة.»
والحكايةُ الطريفة هذه تذكّرنا بما رُوي عن الفيلسوفِ الفارابي مخترعِ آلة القانون. فقد نقلَ ابنُ خِلّكان أن “المعلّم الثاني”، كما يسمّيه العرب، دخل يوماً مجلسَ سيفِ الدولة الحمْداني: «فأخرج من وسْطه خريطةً ففتحها، وأخرجَ منها عيداناً، وركّبها، وضربَ بها، فبكى كلُّ من في المجلس. ثمّ فكّها، وركّبها تركيباً آخر، وضربَ بها، فضحِكَ كلّ من في المجلس. ثمّ فكّها وغيّر تركيبها وحرّكها، فنام كلُّ من في المجلس حتى البوّاب. فتركَهم نياماً وخرج.» (ابن خلّكان،وفيات الأعيان، 3/225)
قصيدةُ زغيب إذاً فعلت فعلَ آلةِ القانون للفارابي. وفي الشعرِ موسيقى تضارعُ أشجى ما تخرجُه الآلات وأكثرَه سحراً. وحادثةُ مِشمش هذه تبيّن أن الكثير ممّا روي عن الشعر وسائر الفنون، وقاربَ الأساطير، يستندُ إلى أساسٍ واقعيّ.
وحكايةٌ أخرى للراوية عينه، فقد جاءه إلى نقابة المهندسين، منذ نحو سنواتٍ ثلاث، رجلٌ بصدد معاملة. ولمّا عرِف أنه من حراجل دارَ بينهما الحوار التالي:
-أنت من حراجل ضيعةِ موسى زغيب، فهل تحفظُ له شيئاً من الشعر؟!
-وكيف؟ أحفظ له قصائد. وهاك ما أنشده منذ أيام في حفلة تكريم ابن قريته الراهب الأب سلّوم، والتي تلت حفلَ تكريمٍ له بأسابيع.
وألقى قصيدةً عصماء، فتوقّفَ الموظّفون والمهندسون خلالَها عن أعمالهم ليُصغوا متأثرين. وقد حفظ منها الراوي الأبياتِ التالية:
يـا ضيعـتي شعّـار مـع رهبـان الشاعر اللغنّى الراهب اللصلّى
انتو يـا بونـا بتمنـحـو الغـفران للّي خُطي وعن نعمتو تخـلّـى
ونحنا منلحَـق عروةِ الفسطـان والعقـد يلّــي برقبـتو تدلّــى
من هيك نحنا منقُرب الشيطان ومن هيـك إنـتو بتـقربوا الله
وهذه الأبيات، في متانة سبكها، وطرافةِ تصاويرِها، وكلماتِها المفتاحية: “عروة الفسطان” “منقرب الشيطان” نموذجٌ راقٍ من إبداعات هذا الشاعر المطبوع. وتستوقفُنا عبارةٌ مفتاحيةٌ أخرى “عن نعمتو تخلّى”. إنها تختصرُ مفهوماً لاهوتيّاً عميقاً. بل هي تلخّصُ جوهرَ اللاهوت المسيحي: الإنسان الذي تخلّى بالخطيئة عن نعمة الله الأساسية. شعرٌ بسيطُ العبارة، بعيد المرامي، عميقُ الدلالة. تتفاعلُ معه الخاصّةُ والعامّة، محبّو الشعر وغير المهتمّين به في آن.
السهل الممتنع في أشعار زغيب
ومن بديعِ ما رسم زغيب من لوحاتٍ في شعره وحفظتُه له التالي:
صمت الصخور بيكتُم الأسرار مين المرق فوقو ما بيقلّك
بس الشواطي رملها ثرثار بيصوّر الدعسات تيدلّك
من ملاحظةٍ بسيطة، ومشهدٍ يراهُ كلُّ الناس رسمَ الشاعر لوحةً مبدعة. وأظهرَ مقدِرةً فائقة في تحويل الصورة الفتوغرافية إلى لوحةٍ تقرأُ الطبيعة وتستبصرُ في آياتِها وعجائبِها، وهذه العجائب قد يمرّ عليها أكثر الناس من دون أن يعيروها التفاتةً أو أيَّ اهتمام. نظرةُ الشاعر هنا تحاكي نظرةَ العالم. فزغيب ينظرُ إلى الصخرةِ والرمال كما يتطلّعُ الفلكيُّ إلى كَبِدِ السماء، فيميّزُ بين هذا الكوكبِ وذاك، وهذه المجرّة وتلك، في حين لا يرى الإنسان العادي فيها سوى نجوم، بل نقاط مضيئة متشابهة. و«بين الشاعر والعالِم مرجٌ أخضر، يقول جبران، إذا اجتازه العالِم صار حكيماً، وإذا اجتازه الشاعر صار نبيّاً» (صليبا، د. لويس، أديان الهند وأثرها في جبران، قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2015، ص208)
وإنني أوافق باحثَنا أبو مراد قولَه: «موسى زغيب شاعرُ الصورة المتجدّدة بالدرجة الأولى. يرسمُها بألفاظها النابضة، فتحتشدُ فيها الملامحُ والألوان والأخيلة، فضلاً عن الشُحُنات العاطفية.» (أبو مراد، م. س، ص99)
وزغيب في الكثير من أبياته يبرع في التعبير ببساطة عن فكرته، ولكن بساطته هذه تبقى صعبة المحاكاة! لنتأمّل مثلاً في بيته التالي:
كل ما بقلِّك مستحلي القدّ الميّاس ما بعرف ليش بتحلي بعيون الناس
التعبير واضح وبسيط، لكن الصورة تحمل لمعة ابتكار: ما أن يرى الشاعر حبيبته جميلة ويستحلي جمالها، ويعبّر لها عن ذلك هذه حتى يصاب الناس بهذه العدوى فينقلب عدم اكتراثهم بها إلى اهتمام بالغ وتقييم لجمالها يثير حفيظته بل وغيرته. فالصورة المميّزة هذه تضفي على أسلوب الشاعر السهل والبسيط مُسحة إعجاز! ومن هنا فمقاربة شعره، شأنها شأن مقاربة شعر سائر الفحول، تتطّلب دُربة طويلة وعيناً بصيرة.
مساجلات زغيب والزغلول
وممّا استوقفنا في كتاب أبو مراد تحليلُه للمعارك والمباريات الشعرية بين زغيب وأقرانِه، وعلى رأسهم الشاعر جوزف الهاشم المعروف بـِ “زغلول الدامور” (1925-27/1/2018). وهنا يلعبُ أبو مراد دورَ المراقبِ الحياديّ والحَكَمِ الرياضيّ، وكأنّنا في مباراة دولية. فهو يقيّم عند كلّ شاعر نقاطَ القوّة، ويشيرُ إلى نقاطِ الضعف بشيء من التجرّد والموضوعية تسجَّل له. ويسبرُ غورَ مكامنِ الإبداع الشعريّ عند كلّ فريق. فنراهُ يسجّلُ نقطةً في ملعب هذا، وأخرى في ملعب ذاك. يقولُ مثلاً في تحليلِه لإحدى المباريات: «تبدو حجّةَ الزغلول هنا قوّية، وقد صدّ الهجومَ الأول لموسى. لكن موسى يعودُ فيجيبُ متّهماً الزغلول بتزوير التاريخ (…) وتبدو حجّةَ موسى هنا غير مقنعة، فالزغلول لا يزوّر التاريخ أولاً، ثم إن عجُز البيت الأول [لموسى] ركيكٌ شعريّاً (…) والقولُ للزغلول “إنت حارس مسكني” قولٌ معيب في الأساس، وهو من تصانيفِ الهواةِ في الزجل.» (أبو مراد، م. س، ص73)
ولن ندخلَ في سائرِ تفاصيل تحليلات الباحث القيّمة لهذه الجولة بين الشاعرين، فما على القارئ المهتمّ سوى مراجعتِها في الكتاب، ونكتفي بذكر الحُكم الذي أطلقه قاضي الزجل: «من دون أن يملك [موسى] حجّةً صريحة اعتمدَ على قوّةِ السبك، ولباقةِ التركيب، وجزالةِ القول، ليقوّي موقعه، ويكسبَ الجولة بدليلِ الاستحسان الذي لاقاه من الجمهور. وهكذا يمكنُ لقوّةِ الشعر أن تفوزَ على قوّةِ الحِجّة.» (أبو مراد، م. س، ص74)
وبشأن جولةٍ أخرى بين الزغلول وزغيب نراه يُطلق حكماً مماثلاً، فهو يسجّل للثاني: «هذه صورة مجازية حجّتُها في قوةِ شاعريّتها، وقد لعِبَت دور الحجّة، وجعلَت غيرَ الحقيقي وكأنّه حقيقي…» (أبو مراد، م. س، ص78)
وقد شغلت شاعريةُ زغيب والزغلول الأوساط الشعبية والفنّية ردحاً طويلاً من الزمن، وهذا ما يذكّر بخلاف أهل العصر الأموي بشأن من هو الأشعر بين مثلّث ذاك العصر: الأخطل وجرير والفرذدق. ويقول أبو مراد في ذلك: «سيطرت هاتان الجوقتان [جوقتا الزغلول وزغيب] على الساحة الزجلية سيطرةً شبهَ تامّة. وقد التقيتا في عدّة مباريات كان التحدّي فيهما على أشدّه.» (أبو مراد، م. س، ص46)
وتبقى حفلة دير القلعة في بيت مري في 31/7/1971 معلماً أساسيّاً، وعلامة فارقة في تاريخ الزجل اللبناني. وقد جرى التباري فيها بين جوقتي زغلول الدامور وخليل روكز (برئاسة موسى زغيب). وخصوصاً بين الزغلول وزغيب ودامت المساجلات الزجلية بين الشعراء حتى الخامسة صباحاً، وكأن الزجّالين وجمهورهم أبوا أن يناموا في جوّ المنافسة الشعرية الحامي هذا.
وفي حفلة حبوب بين الجوقتين مثلاً (الثمانينات من ق20) جاء الناس ببوسطات من مختلفِ أرجاء لبنان، وذلك رغم أجواء الحرب المسيطرة، وبعضُهم نامَ ليلةً في حبوب كي لا تفوتُه الحفلة. إنه العصر الذهبي للزجل كما يسمّيه أبو مراد.
والناس تشغَلُهم المقارنةُ بين الشعراء والمفاضلة والحكمُ أيّهما الأشعر. ففي العصر الأموي انشغلوا بالحكم بين الأخطل وجرير والفرذدق، وفي العصر العبّاسي بالموازنة بين أبي تمّام والبُحتري. وليست هذه حال العرب وحدَهم، فالفرنسيون شُغلوا ردحاً من الزمن بالمفاضلة بين راسين وكورناي.
وكان والدي طانيوس صليبا، رحمه الله، مدمناً على الزجل و”حفلات القول” وفق تعبيره. وكنتُ أحاولُ دائماً أن أحشرَه، وأزركَه في سؤال ليفاضل بين الزغلول وموسى. كان يحبّ في الزغلول صوتَه الشجيّ، وفي زغيب قوّةَ السبك والشاعرية البارقة. فأجيبُه: أنت بذلك قد حكمتَ لموسى حُكماً مبرماً على خصمه. فيعودُ ليسجّلَ للزغلول عاطفة جيّاشة، وشعوراً مرهفاً في قصائده في محاولة الموازنة بين الخصمين، ويأبى المفاضلة والحكمَ المبرم لشاعر على آخر، وقد أحبّ كليهما، فهذه عينٌ، وهذه أخرى.
أما أبو مراد فمحكومٌ عليه أن ينطِقَ بالحُكم الصعب، وهو لا يُحسد على موقعه الحرج هذا. أياً يكن فقد أبدى في أحكامِه درايةً بالشعر، وموضوعيةً في النظرةِ والتقييم.
زغيب وخليل روكز
علاقة موسى زغيب بسابقه الشاعر الفذّ خليل روكز (1922-1962) جديرة بأن تُروى، أو بالحري أن تدرس بتأنٍ. وزغيب هو خليفة فقيد الشعر روكز ورئيس جوقته، وقد أبقى على هذه الجوقة باسم روكز حتى سلّم الأمانة إلى ابن هذا الأخير، وفي ذلك ينشد (أبو مراد، م. س، ص46):
ضلّيت لجوقة خليل روكز وفي وما إفتتح حفلة تا إسمك ينذِكِر
ولمّا كبر إبنك عطيتو مطرحي نحنا بغصونك مش أحقّ من التمِر
وموسى فخور بخلافة روكز في رئاسة جوقته، وفي تزعّمه على شعراء الزجل. فهو كالشاعر الراحل نسرٌ في دنيا الشعر، والآخرون من صغار العصافير، ينشد في حفلة دير القلعة/بيت مري(أبو مراد ص71):
النسر التركتو يا خليل بمعلقو حرّم جلابيط المنابر يعْتِلو
وكان موسى وفيّاً حقّاً لتراث صديقه روكز. يروي حكمت شكري حنين، وهو أول من ألّف كتاباً في سيرة خليل روكز وشعره، أن جاره موسى زغيب هو من طلب منه تأليف كتابه، وسهّل له الحصول على كتب الشاعر ومنظوماته غير المنشورة، ويضيف: «خلال العمل كنتُ أصادف أسئلة لا أجد لها أجوبة في شعر الرجل، فألجأ إلى الشاعر زغيب الذي ساعدني كثيراً في الوصول إلى معلومات دقيقة متعلّقة بموضوع البحث» (حنين، حكمت شكري، خليل روكز شاعر الحرمان والكفر والإيمان، بيروت، دار النجاح، ط1، 1972، ص7-8)
وتستوقفنا في هذا المجال قصيدة لزغيب ألقاها في احتفال تكريمي لخليل روكز نظّمته بلدية مزرعة يشوع في 7/6/1992، وأزيح فيه الستار عن تمثال له وُضع في ركن من الطريق العام في البلدة، كما أطلق فيه اسم خليل روكز على الشارع الرئيسي في مزرعة يشوع. فأنشد موسى زغيب قصيدة روى فيها حلماً رأى فيه خليله ورفيق دربه خليل روكز في منام (خوري، روبير، شاعر الحرمان خليل روكز، الكسليك، منشورات جامعة الروح القدس، ط1، 2013، ص57):
وبقشع بو روكز متل شي بحّار من بعيد جايي والشعر مَركب
تطلّعت شفت رفيق عمري صار وجّو ضعـيف وسالفو أشيَـب
وبالوهج بعدو بيرعب الشعّار وبالعمر سبعَن بسّ ما حردب
وقلّي يا موسى بعد هالأعوام كيف الشعر؟ قلت الشعر مُتعَب
كنّا بإيامك جفن ما ينام جـهد وتـباري ومُعـجبة ومُعجب
وعينك تشوف الشعر هالإيّام متل السمك محفوظ ومعلّب
بعدك إنت غنّية الإلهام مش شعر يُلقى أو شعر يُكتب
ومهما المنابر تعصر عناقيد بتبقى إنت عنقودها الأطيَب
في القصيدة هذه عاطفة صادقة ونبيلة، وإقرار بفضل روكز وريادته في الشعر، وكلّها ميّزات بل فضائل تسجَّل لزغيب. والقصيدة هذه تذكّرني بمقالة لميخائيل نعيمه (1889-1988)، يروي فيها حلماً رأى فيه صديق عمره جبران (1883-1931)، وتحاورا في مسائل الشعر وما استجدّ من أحداث بعد وفاة هذا الأخير. (نعيمه، ميخائيل، في مهبّ الريح، بيروت، دار صادر، ط4، 1966، مقالة: حدّثني جبران، ص158-164). يتحدّث جبران إلى نعيمه في الحلم مثلاً عن التجديد والتقليد في الشعر، فيقول: “أما ثرتُ على التقليد والمقلّدين؟ وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أني أصبحتُ نهباً للمقلّدين. ما دام في الأرض عباقرة دام فيها المقلّدون” (نعيمة، م. س، ص162). ونجد في قصيدة موسى معانٍ مشابهة. فبين قصيدة زغيب هذه ومقالة نعيمه نقاط شبه عديدة، ونقاط اختلاف كذلك. وأجواء النصّين متقاربة. والدراسة المقارِنة بينهما جدّ مفيدة ومجدية، ومن شأنها أن تكشف نقاط تفاعل مهمّة يبن الأدبيَن المحكيّ والفصيح في التراث اللبنانيّ. وتبيّن لنا في لقاء مع موسى زغيب الخميس 10/1/2019 (سننشر وقائعه في العدد التالي) أنه يعرف نصّ نعيمه هذا. وقد شبّه عدد من النقّاد والشعراء روكز بجبران (خوري، م. س، ص59) إن من حيث الإبداع الشعري، أو قِصر العمر وغير ذلك من المشتركات. وكان روكز معجباً بصاحب النبيّ وقد ذكره مراراً في شعره (خوري، م. س، ص113).
وعلاقةُ الشاعرين روكز وزغيب تذكّرنا بتلك التي جمعت بين جبران ونعيمه. إلا أن زغيب، على ما يبدو، كان أكثر وفاءً لصديقه وأكثر إقراراً بفضله. وليت هذه العلاقة الزجلية والإخوانية المميّزة تجد لها باحثاً يتوقّف عند تفاصيلها وخفاياها، ويدرس التفاعل بين هذين الشاعرين الفحلين وتأثيره في زجل كلّ منهما وفي أزجال الآخرين.
خاتمة
أختمُ بكلمةٍ إلى الشاعر الزغيبيّ
فإلى موسى الزجّال المبدع أقول: شعرُك ليس لك، فهو ككلّ تحفةٍ أدبية، أو إبداعٍ فنّي تراثٌ وطنيّ، بل وإرثٌ ثقافيٌّ عالميّ. شعرُك ما أن تنشدَه، لم يعد لك، ولكنّك تبقى وحدَك المسؤولَ الأول عنه ما دام في جسمك شريانٌ ينبض. وأنت وحدك المولج بصونِه وحفظِه من الضياع. واذكر كم كان المتنبّي ضنيناً على شعره وخائفاً عليه من الضياع. وهو الساعي أبداً إلى المجد والمُلك، إن فارقه سيفُه وفرسُه أحياناً، فديوانه لم يفارقْه أبداً، وكان يحملُه دوماً معه، بل ويتمنطق به ، ويضعه داخل ثوبه في الحِلّ والترحال، وينكبّ عليه زيادةً وتنقيحاً وتصحيحاً، حتى نجح في إيصاله إلينا شبه كامل، وغير منقوص، وفي ذاك يكمنُ سببٌ من أبرزِ أسبابِ خلوده.
ويا شاعرَنا الكبير، لا تميّزْ في قصائدك بين درّ وحجر، بل اذكر قول أبي تمّام: “قصائدي هي أبنائي وبناتي، ولا أميّز بين ابن وآخر في الودّ والحبّ”. (صليبا، د. لويس، مقامات الصمت محاولات وأبحاث في الصمت والتصوّف واليوغا، تقديم المستشرق بيير لوري، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2016، ص21)
أوليست أبياتُ الشاعر، بناتِ أفكارِه كما يقولون؟!
واذكر كذلك قول جبران: «نصفُ ما أقولُه لك لا معنى له، ولكنّي أقولُه ليتمَّ معنى النصفِ الآخر.»
فالقصيدةُ التي تعتبرُها غير ناضجة، ولا مكان لها في الديوان، قد يرى الباحثُ فيها طوراً مهمّاً، وعنوانَ مرحلةٍ في تطوّرِ صُنعتِك الشعرية، ونموِّ إبداعك.
(في العدد المقبل من مجلّة الأمن مقابلة مع الشاعر موسى زغيب)