مجلّة الأمن، زاوية مبدعون من لبنان/عدد ت1 /2019
الشاعر كابي حدّاد، شاعر ندى
بقلم البروفسور لويس صليبا
شاعر ندى كابي حدّاد بريشة صليبا الدويهي
أعداد من مجلّة منجيرة الراعي التي كان يصدرها كابي حدّاد وتتصدّرها قصائد له
كابي اسكندر حدّاد (1925-1965) “شاعر ندى”، أو بالحري “مجنون ندى”، رحل في تشرين منذ نصف قرن ونيّف. وفي كلّ سنة يعود تشرين ممطراً ذكرى كابي ومرجّعاً صدى صوته، وحاكياً وجع شاعرٍ عاشق، ومردّداً حبّه لوطنه إذ غنّاه حتى بحّ صوته وانقطع قبل أن يرحل. فإحياءً لذكرى مبدعٍ لبنانيّ أصيل كانت هذه الدراسة الموجزة.
ملامح من سيرة شاعر
ولد كابي اسكندر حدّاد في بيروت 1925، وهو من بلدة عين قني/الشوف. والده كان متموّلاً ثرياً وصاحب بنك حدّاد، وكان ينتظر بفارغ الصبر مولوداً ذكراً ليرثه. ولم يطُلْ عَيشُ الولد في عزّ أبيه إذ توفّي الوالد 1940.
درس في المدرسة الأهليّة في وادي أبو جميل/بيروت لينتقل منها إلى مدرسة فرير الجمّيزة، فكان متفوّقاً فيها، لا سيما في مادّتي الرياضيّات واللغة الفرنسية. وبعد أن أنهى الصفوف التكميلية انتقل إلى الكلّية البطريركيّة/بيروت، ومنها إلى الجامعة الأميركية، راغباً في متابعة الدراسة والتخرّج مهندساً. واجهته الصعاب فاستسلم لها، وغادر الجامعة قبل أن يكمل دراسته، لكنّه أضاف إلى دفتر علاماته تفوّقاً في مادّتي الرياضيّات واللغة الإنكليزية، كما أتقن العربية متَتلمذاً على صهره الأديب توفيق حسن الشرتوني (1890-1972) ما أهّله لدخول مجال التدريس. وأولى المدارس كانت في شرتون/عاليه حيث يصطاف عند صهره، فعلّم الرياضيّات لسنة واحدة لينتقل إلى كلّية مرجعيون الوطنيّة حيث وقف للمرّة الأولى شاعراً وخطيباً. ومنها ارتحل إلى جونيه وعلّم اللغة الإنكليزية في معهد الكريم للمرسلين اللبنانيين. وكانت محطّته التدريسية الرابعة والأخيرة في مدرسة العائلة المقدّسة في بيروت.
ومن التعليم تحوّل إلى الصحافة فانضمّ 1945 إلى أسرة تحرير جريدة البيرق وانتسب إلى نقابة محرّري الصحافة اللبنانيّة. ولم يثبت في موقع إعلاميّ واحد، فمن البيرق ارتحل إلى جريدة الجريدة 1960، والشمس 1962، والصفاء 1962-1965 (سنة وفاته) واستقرّ موظّفاً في الوكالة الوطنيّة للأنباء حتى وفاته.
شاعر ندى أو مجنون ندى
وأبرز ما يستوقفنا في سيرة كابي حدّاد حبّه الجارف، والذي كان نعيمه وجحيمه في آن. حبّ حمله من بيروت إلى دمشق فأولع بـ ناديا (ندى) صيدح المولودة مثله 1925. فتزوّجا 1941 وكانا مراهقَين في السادسة عشر وأنجبا نهاد ونديم. وبعد سنوات ستّ بدأت رياح الخلافات تعصف بالبيت الذي بُني على أحلام مراهقَين: هي تريد زوجاً عَمَلانيّاً يتقن التصرّف الأريستقراطي، وهو لا يستطيع إلا أن يكون بوهيميّاً يرفس الأريستقراطية برجله. وبعد أقلّ من عشر سنوات على هذا الزواج المضطرب، كان لا بدّ من وضع حدٍّ له. فتركت ناديا بيروت حاملةً ولدَيها وعادت إلى دمشق، فلحق بها كابي مراراً ساعياً إلى إعادتها ولم يوفّق. وطبقاً لتعبير الشاعر جوزف أبي ضاهر: “أبعدته ندى من حياتها، فاقترب من ظلّها أكثر فأكثر، حتى لبسه الظلّ، وبات شاعر ندى المغرَم الذي لا يرى العالَم إلا من خلال عينَيها” (حدّاد، كابي اسكندر، قصائد الوطن والحبّ، إعداد وتقديم جوزف أبي ضاهر، الكسليك، منشورات جامعة الروح القدس، ط1، 2018، ص17).
شاعر عاطفيّ حتى العظم
وإلى بوهيميّته كان شاعرنا رقيق القلب والإحساس إنسانيّاً حتى العظم، طبقاً لتعبيره. يُروى عنه أنّه في أحد الشعانين ألبس ابنه ثوباً ثميناً، ووقفا على شرفة منزلهما. فمرّت امرأة مُمسكة بيد ابنها الذي يرتدي ثوباً شبه ممزّق. فهزّه المنظر، وناداها لتقف، فوقفت. فنزع الثوب الجديد عن ابنه، وقدّمه للولد الفقير، وألبس ابنه بعض قديمه. وهو يصوّر شعوره الإنسانيّ هذا وعاطفته الجيّاشة، فيبدع في التصوير (قصائد الوطن، م. س، ص62):
شاعر عضامو عاطفي والعاطفي رقصة فراشي مسوسحة يوم الصحو
وجوانحا زهرة بإيد العاصفي ما بتتركا حتى لوانا ينمحو
واضطّره إسرافه وتبذيره وديونه المتراكمة إلى بيع البيت الذي ورثه عن أهله في حي السراسقة/الأشرفية، لينتقل للسكن عند شقيقته وصهره الأديب الشرتوني، ويغادر بعدها إلى غرفة صغيرة في فندق في ساحة البرج
وفي مطلع سنته الأخيرة 1965 ظهرت على شاعرنا ملامح المرض، فقاوم ورفض، لكنه كان يوجس خيفة منه. فدخل المستشفى اللبناني في الأشرفية وأجريت له في 15/5/1965 عملية جراحية أولى استُؤصلت فيها إحدى رئتَيه. وأعيد إدخاله المستشفى في ت2 1965، وزارته فيها زوجته ندى نتيجة تدخّل بعض الأصدقاء الذين نقلوا إليها رغبته الملحّة في رؤيتها. وبقيَت عنده يومَين فقط، وعادت بعدهما إلى بيتها في دمشق وهي لا تدري أنّها ودّعته الوداع الأخير. ففي منتصف ليل 14-15 ت2/1965 لفظ شاعرنا أنفاسه الأخيرة وودّع الحياة التي دلّلته في المهد وصفعته مراراً لتودعه اللحد.
حدّاد الزجّال والصحافي
أبرز آثار كابي حدّاد التالي:
1-“ميّ وغسّان”، قصّة غرامية بالزجل صدرت 1947، طُبعت في مطبعة سميا/بيروت، في 64 ص، و11قصيدة. تصدّرت صفحاتها صورة له بريشة صليبا الدويهي. لكن غابي حدّاد سرعان ما ندم على طباعة هذا الكتاب، وقال عنه: “كتبته في ساعة تخلٍّ، لا يمثّلني ولا يمثلّ شعري المختلف تماماً في الأسلوب والمضمون، إنها مرحلة مراهقة وانتهت”. (قصائد الوطن، م. س، ص19).
2-مجلّة “السلوى”، أصدرها الشاعر عبدالله أبو جودة باسم “سلوى المهاجر” 1944. اشترى امتيازها كابي حدّاد 1950، وتابع إصدارها 1950-1952، وكان من كتّابها: كرم ملحم كرم، لحد خاطر، جورج جرداق، توفيق حسن الشرتوني، أحمد الصافي النجفي، إميل مبارك، أسعد سابا وغيرهم. استعادها أبو جودة 1952، وتابع إصدارها 1954 حين توقّفت نهائياً.
3-مجلّة “منجيرة الراعي”، أصدرها كابي حدّاد 1954 مع رفيقه الشاعر خليل قرداحي، وكان كابي مديرها المسؤول، واستمرّت في الصدور حتى 1957.
4-“عصبة الشعر اللبناني” تأسّست 1952، وكان كابي من مؤسّسيها، وانتُخب أميناً للسرّ. ومن شعرائها: أسعد سابا، إميل مبارك، أسعدالسبعلي، طانيوس الحملاوي، منير وهيبة الخازن، خليل قرداحي، سليم الخوري، وعبدالجليل وهبة.
5-حاول كابي حدّاد ذات يوم أن يجمع شعره أو قسماً كبيراً منه، لكنه في لحظة تمرّد أحرق المجموعة منشداً:
مكبّش بشال حياكة الأوهام والدهر عم بيخزّق تيابو
بينظم كتاب… بتكسر الأيّام ولمّن يجنّ بيحرق كتابو
وفي النزع الأخير طلب من صديقه الصحافي جوزف نحّاس أن يطبع له ديوانه، فوعده بذلك، وحالت الحرب دون ذلك. (ضاهر، حنينة، الديوان منتخبات نثرية وشعرية، بيروت، مكتبة بيسان، 2010، ص75). وبعد وفاة النحّاس استلم الشاعر جوزف أبي ضاهر الأمانة من أرملته هدى، ونشر أشعار كابي في ديوان عنوانه “قصائد الوطن والحب” صدر عن جامعة الكسليك 2018
من القصر إلى الرصيف
تقول الشاعرة حنينه ملخّصة سيرة شاعرنا: “كان كابي حدّاد يعيش حياةً بوهيميّة متطرّفة، لا ترتبط بمفهوم، ولا تتقيّد بنظام. وحياته تلك جعلته في سباقٍ مع الموت. كان يختصر المسافة التي تفصله عن القبر. ينتحر بالتقسيط. وكان يخاف أن يُطبق جفنَيه، لأنّه كان متأكّداً أن حلماً ورديّاً لن يمرّ بينهما”. (ضاهر، م. س، ص73-74).
ويقول الشاعر أسعد جوان مركّزاً على تناقضات شاعرنا: “وكما فتح طفلاً صناديق الذهب والمال، عاد ونام في آخر أيّامه على الرصيف وداخل العرزال وباب الخمّارة والجريدة، وظلّ كبيراً في كلّ مكانٍ وزمان وحال، وشاعراً حتى باب القبر… وأنيقاً حتى في كفنه… ومعذّباً من الدرجة الأولى، ومهاجراً باستمرار داخل الوطن وداخل الأقفاص على أنواعها. (جوان، أسعد، يعيش الموت شهداء الشعر اللبناني، بيروت، مكتبة الشعر، ط1، 2008، ص220).
أما شاعرنا نفسه فينشدُ حاكياً حياته بالمختصر (قصائد الوطن، م. س، ص65):
عمري زهور منتّفي ونتفة قَمَر عم ينطفي
غنّي لشاعر عيشتو مُرّه حَبّْ الدني وما حبّتو مَرّه
وما كان منها يكتفي
ويبكي عمره الضائع في سجن الآلام التي كانت أشواكاً التهمت شيئاً فشيئاً وحيه (قصائد الوطن، م. س، ص66):
ضيّعت عمري بالقفض مأسور
متل الفرخ نِقودت إلهامي
ربّي أنا الزهرة الملاني عطور
عم ببتسم والشوك بكمامي
ومن أغراض شعر كابي حدّاد سننتقي أبرزها، أي شعره الوطني، وقصائده في ملهمته ندى التي جعلت حياته جنّةً فجحيماً، ووجدانيّاته.
كابي شاعر الوطنيّات
عديدة هي القصائد التي يتغنّى شاعرنا فيها بلبنان. حبّه له جزء من إيمانه، بل هو جوهر هذا الإيمان، ينظر إليه كما ينظر إلى ربّه ويراه متأرجحاً بين الأزل والأبد، وراسخاً بين اللابداية واللانهاية (ص35):
لبنان ودهور بتجي وبتروح وجبال تتدحرج على وديان
بيضلّ لبنان الحلو تَ يلوح آخر غصن من سجرة الإيمان
ولبنان للشاعر مهبط الإلهام، نَداه الصباحيّ يشهق وحياً، ويصبّ القوافي حكايات وأساطير (ص39):
لبنان صورة عاشقة صورة
ضحكة حلا ما بتنمحي
شهقة ندي بليلة وحي
سكبت قوافي الشعر أسطورة
ويبدع الشاعر في رسم لوحة للطبيعة اللبنانية الجبلية بين العرزال والضباب والوزّال (ص44):
سحر الطبيعة للشعر رسمال هيدا شعاع الشمس عَ العرزال
وليك الغطيطة غامرة التلّة وواقع شِقَف منها على الوزّال
فالضباب (الغطيطة) الذي سقط قطعٌ منه ونُتَف على العشب الأخضر صورة تُلهب خيال القارئ وتنعشُ رؤاه. ونتابع مع الشاعر تفاصيل لوحته القرويّة الزاهية الألوان:
والسندياني قصر للعصفور وراق خضرا مقصّبي بالنور
والحقول مشكّلي بزهور تمويجة النسمة عليها شال
والصخور اللابسي رمادي عم ينحت عليها النبع موّال
نحن أمام لوحة أخرى لونيّة وصوتيّة في آن: أوراق خضراء يضفي عليها شعاع الشمس شيئاً من ذهبيّ ألوانه. أمّا زهور الحقل فتتماوج مع النسيم حتى تخالها بمجموعها شالاً يغطّي الأرض. في حين أن سقسقة مياه النبع النازلة على الصخور الرماديّة تشدو موّالاً يضارع مواويل الرعيان.
ويصوّر لنا الشاعر عيشته في القرية التي يحنّ إليها حنين الوليّ إلى الجنّة (ص55):
هَونيك مِلهي كِنت بالرزقات أوعى عَ بُكرا وصَبّح العصفور
وتاخد خدودي من الشمس بَوسات وتبوّس شفافي رموش النور
وأقطف من عباب الهوا شامات وقدّيش ما لملم عَ دربي زهور.
فالشمس التيّ تقبّل وجه الشاعر، وشفاهه التي تعيد القبلة إلى أشعّتها المشابهة لرموش العيون لوحة رسمها خيالُ فنّان مرهف الحسّ مبدع.
وكما للقرية والجبل، كذلك للمدينة والساحل اللبناني نصيب من بديع أوصاف الشاعر وروعة لوحاته. ففي قصيدة لجبيل يصف كابي حدّاد شطّها الذهبي عند الغروب كما يلي (ص51):
والغروب المخملي ينسّل قصبْ والشطّ يبرق مُوت غِيرِة يا دَهَبْ
مشهدٌ آخر يأسرنا. فضفائر الشمس الذهبية عند الغروب تجعل الذهب الوهّاج نفسه يقضي غيرة من بديع ألوانها المتماوجة على صفحة المياه.
مجنون ليلى في نسخة جديدة
وتبقى قصائد حدّاد في ندى من أجمل ما نظم. فهو لم يقرض الشعر في الحبيبة بوحيّ من خيالٍ مجنّح بقدر ما كان يسجّل وقائع وحالات كانت معاناته هي التي تملي عليه ما يصوغه من عبارات. أبياته كانت خلجات وأحاسيس وتصاوير للجراح على طريقة الشاعر الفرنسي ألفرد دو موسيه القائل في ترجمة لأبي شبكة: “إجرح القلب واسقِ شعرك منه”. نقرأ له اعترافاً بجنون الحبّ، وتسطيراً لأبياته من دم القلب. كأس شربها حتى الثمالة، ثمالة الرحيل(ص68):
وشاعر ندى جنّ وكفر
رح موت عارف شو بني
زغيري عليي هالدني
ويا علّتي وكلّ العلل
خِلقان راكع عَ الجبل
قدّيش حلوة عيشتي
حَفترت قلبي بريشتي
ليل وضجر درب العمر ليل وضجر
ورح سافر وما أجملو هاك السفر
والموت أحلى من البشر.
ويجنّ الشاعر حتى تتماهى صورة ندى مع طيف ليلى، ويتوحّد هو بسابقه مجنون ليلى (جوان، م. س، ص228):
لاح الصبح والعتم عنّي غاب
ويلا ندى إن شافتك ويلا
من بعد ما تسكّر بوجّي الباب
ليلى فتحي الباب يا ليلى.
ويتابع الشاعر غزله بليلى المتماهية مع ندى:
شي لـمَحِتْ عينَيكِ غمرني الورد
والنار لفحِتني اشتعل قلبي
ليلى كنت رح إدْنق من البرد
لو ما شلحتي الشمس عَ دربي.
وندى، جحيمُ الشاعر ونعيمُه، كفره وإيمانه، وقصيدته التي لا نهاية لها (ص96):
الحلوي ندى العَ الدرب هشلاني جمرة حياتي وعزّ ماضيها
جهنّم خلودي وعالمي التاني وحكايتي الرح ضلّ إحكيها
الحلوي ندى كُفري وإيماني وآخر قصيدة حبّ بِرْويها
ويتأرجح الشاعر بين الذكرى الراسخة في البال والوجدان، وبين الماضي المطمور في غياهب النسيان، فعن هذا الأخير يقول ويعلن بالفم الملآن (ص98):
لا ترجعي كلمة ندى فسّرتها كَمشة تراب وبالتراب طمرتها
لا تِرجعي الماضي دِني دشّرتها هدّيت هاك المملكي العمّرتها
ولكن هيهات أن يستحيلَ وهمُ النسيان واقعاً وحقيقة، فالشاعر وإن جفّت الدموع التي بها كان يسقي الزهرة الحبيبة لا يقوى على أن يتحرّر من الذكرى (ص97):
هالزهرة البتضلّ عطشاني ما عاد عندي دموع إسقيها
صارت بليل البال دبلاني ومش قادر من البال إرميها
ويعودُ كابي ليعزفَ مراراً على وتر هذا التناقض والتضادّ في شخصية الشاعر العاشق التعِس، ما يُضفي على أبياته طباقاً شجيّاً يجعلنا نذرف معه دمعةً على هذا الزجّال المصلوب بين نسيانٍ يسعى جاهداً إليه، وتشبّثٍ بذكرى الحبيبة التي لمّا تزل تلهب الخيال. ينشد (ص121):
لا، لا، يا شاعر روق خِدْها عالهدا لسبدّ ما النجمة تقرّب للقمَر
وان طال هجرا عليك لا تتفقّدا نجمة من نجوم السما وصارت حجَر
بيد أن النجمة لا تقترب من القمر، ولا هي تستحيل بالمقابل في وجدان الشاعر إلى حجر كما يأمل ويرجو لعذابه معها من نهاية وختام، فطيفها يبقى جاثماً في البال (ص110):
مهما قلت راحت ندى من البالْ
وصارت على مفرق حياتي خيالْ
ومهما قلت، لا تصدّقوني بجنّ
يوم ال”ندى” عَ البال ما بتعنّ
ويبقى خيال ندى يلاحقه حتى المقبرة، فيرتجف له الضريح وتهتزّ العظام فرحاً وهي رميم (ص198):
لمّا التراب يلفّني فوق التراب في خيال بدّو يمرّ من عهد الشباب
السمرا ندى خدودا دموع مرفرفي فراشات عم بتدوب من نار العذاب
بِندَه ندى بِندَه ندى وما بكتفي بترجف عضامي كلّ ما إسمع جواب
يذكّرنا الشاعر هنا بقولة زميله جميل بثينة:
يهواكِ ما عشتُ الفؤادَ فإن أمت يتبع صدايَ صداكِ بين الأقبرِ
وجدانيّات شاعر ندى
ومن وجدانيّات الشاعر اخترنا قصيدتَين متوازيتَين، ننظر إليهما، فنخال الواحدة مرآة تعكس الأخرى. القصيدة الأولى يهتف كابي فيها إلى أبيه اسكندر الذي رحل باكراً ولم يكن الابن الوحيد المدلّل قد شبع بعد من حنانه الأبوي. (ص83):
بيّي صباح الخير يا بيّي
يا حلم غنّج ريف عينَيّي
وراح وتركني وغاب
بدنيه جمالا تراب
ويتوسّل كابي أباه أن يفتح له من قبره الباب ويخلّصه من عيشة العذاب التي فقد فيها الأصحاب:
بيّي فتحلي الباب
الناس صارو دياب
بجاه السما افتحلي
وخدني معك رحلي.
ولعلّ الشاعر كان يشعر ببعقدة ذنب ما تجاه أبيه، وهو الذي بدّد ما أورثه من ثروة في سنوات قليلة، فكان في المقابل يصرّ دوماً أن يقرن اسمه باسم والده، ويوقّع: كابي اسكندر حدّاد.
والقصيدة الثانية موجّهة إلى أمّه، وهي آخر ما كتب، إذ دخل بعدها المستشفى وغاب. وطلبُ الشاعر يتكرّر إيّاه، يلوذُ بأمّه سائلاً النجدة والنجاة، وما من منجٍّ سوى الموت (ص204):
إمّي ضلوعي من العذاب مكسّرة
عيوني جمر، حتى الدموع مجمّرة
إمّي!… أنا زعلان، روحي مكدّرة
طُلّي اسمعي صوتي، افتحيلي المقبرة
سيدخل الشاعر الضريح الذي سيجمعه بأمّه وأبيه، حاملاً معه قصّة حبّ جعلته يقطر دماً:
إمّي الدهر! ليكي نيابو مكشّرة
جايي لعندك نام نومي مخدّرة
وجايب معي حكايي بدمّي مقطّرة
بجروح قلبي، بكلّ جرح مصوّرة
خاتمة
ونغرفُ من أشعار كابي حدّاد ولا نرتوي. ففي مرّها ومرارتها نجد حلاوةً: إنّها حلاوة الصدق في التعبير، والنبل في العاطفة التي لم تزدها المعاناة الموجعة سوى أصالة. كابي حدّاد ليته يقيّض لهذا الوطن الصغير والجريح كما أنت، دوماً أحبّة صادقين ومتفانين مثلك.