مبدعون من لبنان/عدد آب 2018
بقلم أ. د. لويس صليبا
الفنّان مروان صالح يصغي إلى ملاحظات أستاذه المخرج جلال خوري
جلال خوري يهدي صديقه الفنّان مروان صالح إحدى مسرحيّاته
مروان صالح في أحد معارضه ويبدو إلى أقصى اليمين الشاعر رياض فاخوري
الفنّان الراحل مروان صالح في محترفه
إحدى منحوتات مروان صالح
منحوتة أخرى لمروان صالح
مروان صالح شاعر الخشب بقلم أ. د. لويس صليبا
مروان صالح (1952-1999) مبدعٌ من وطننا له في عالم النحت إسهامات مميّزة تحكي عن خلق وريادة. لم يُتِح له القدر سوى حقبةٍ قصيرة من الإبداع، فقطفه الموت شابّاً وهو في ذروة العطاء. اختطّ مروان لنفسه أسلوباً في النحت ومساراً جعلا منه رائداً في مجاله، فمنحوتاته كلّها مادّتها الخشب، لا الحجر، وخشب الزيتون في الغالب. مرّ مروان في دنيا النحت في لبنان مرور نيزك أو شهبٍ وضّاء: لمع نجمُه في الثمانينات والتسعينات، وما لبث أن أفل برحيله المفاجئ! ولكن أثره باقٍ تحكي عنه منحوتاته المبدعة الموزّعة بين متحفٍ هنا، ومركزٍ هناك.
“لقد كان عمراً قصيراً، وموتاً طويلاً” كانت هذه آخر كلماته، يردّدها على فراش العذاب، ومعها أسلم الروح! وهي تختصرُ بحقّ مسار شابّ طرق باب الخلود، عاش فنّاناً فقيراً، ومات فنّاناً كبيراً.
وكي لا ننسى هذا المبدع اللبناني الرائد كان هذا التحقيق. وقد استمدّينا مادّته من أوراقه الخاصّة، وذكرياتنا عنه.
بين الجرد والبحر
أبصر مروان النور في قريته كفور العربي، وهي ضيعة نائية من جرود البترون في شمال لبنان. وكان لها، ولوالده الشاعر الزجلي سمعان صالح، أثرٌ بالغ في نشأته. أما سنة ولادته فهي 1952 كما يشهد شقيقه ورفيق دربه سمير، وذلك خلافاً لما ذكرت أكثرية المراجع إذ اكتفت بنقل الوارد في تذكرة الهوية التي كبّر والده عمرَه فيها.
وعن قريته يقول مروان (الشراع 24/5/1993): “أنا ابن منطقة جردية نائية بعيدة عن المدن الرئيسية. فحتى العام 1965 لم تصل الطريق إليها. أي لم نكن نرى السيّارات. وحياة العزلة الاجتماعية جعلتنا نركّز فيها على الجمالات الطبيعية وتنويعاتها: تكوّر الصخور، انتصاب الجبال، وتكوّم الثلوج…عناصر دأبَت على تحريكِ مشاعرنا، فقوّةُ العواصف كانت تجنح بنا إلى أقصى الشاعرية والفكرية المثالية. كما كانت عوامل الحثّ الطبيعي تدعونا قصراً لولوج عالم النحت. فالجبال والصخور كانت تتجلّى أعمالاً إبداعية ومنحوتات متقنة الصنع. أذكر أنّني كنتُ أتدارس تلك الأشكال الطبيعية كما أنكبّ حالياً على دراسة المنحوتات والتماثيل التي أواجهها.”
قريته النائية، وعزلته التأملية الاضطرارية فيها جعلت منه إذاً مشروع فنّانٍ نحّات.
وعن والده الشاعر سمعان صالح وأثره فيه يشهد مروان (نداء الوطن، 28/5/1998): “ربيتُ في كنف والد شاعر زجل، أورثنا شيئين: الفقر، والصدق. كان يربّينا على مبادئ “لا تسرقوا، لا تؤذوا” وكأن من العيب أن نقبض المال من أحد. وفي لاوعينا رسخنا تحت تربيتين متشابهتين في جوهر الإنسان: الاشتراكية، والمسيحية، هذا مع قِلّة تديّننا. غير أنّنا تحت وطأة الأخلاق المسيحية الإنسانية. هذا أثّر في وعينا ولاوعينا، مع قلّة اتّجاهنا ناحية الالتزامات”.
وإلى هذا الخليط من المبادئ الماركسية والمسيحية كان للوالد أثرٌ في نشأة ابنه الفنّان يلخّصه هذا الأخير كما يلي (الشراع، م.س): “أثر والدي كبير فيّ. دفعني نحو الثقافة والفنّ. منه أخذتُ الفكر المتحرّر، والابتعاد عن الصراعات العائلية والطائفية. كان يرشدني إلى الجماليات الفنّية، أي أنه ساهم في تكوين ثقافتي الفنّية والفكرية والإنسانية. إضافة لكلّ ذلك ورثتُ منه الفقر، والرغبة بأن أكون الضحية بدلاً من القاتل”.
لم يكن نصيب مروان من الدراسة وافراً. ترك المدرسة قبل أن يُنهي المرحلة التكميلية. وبالمقابل كان مدمناً على القراءة، وكان جبران أديبه المفضّل. وعمل في النجارة وحفر الخشب، وقد مهّدت له مهنته هذه الطريق إلى النحت. وعشقه للخشب حكاية قديمة بدأت مع شروده طفلاً بين أشجار قريته وغاباتها، وتنشّق أريجها.
وإذا كان والده أستاذه الأول، فالثاني كان المخرج والكاتب الراحل جلال خوري (1933-2017). جمعتهما الماركسية، وكان مروان بمثابة مرافق لهذا الفنّان، وشارك في عدد من أعماله المسرحية، وأسكنه جلال في بيت له على البحر في الصفرا/كسروان كان محترفاً وصومعة له. يقول مروان (لبنان 90، أيار 1995): “بعد حرب الجبل [1983] تكرّم علينا الأستاذ جلال خوري بالبيت، وهناك وجدتُ الحرّية والهدوء للشغل. ومن يومها بدأتْ المرحلة الجدّية عندي في النحت”
وكان جلال يرافقُ خطوات تلميذه مروان، ويتابعُ تطوّرَ عمله، ويسهّلُ له الاشتراك في المعارض الفنّية.
أما المعارض التي شارك فيها، فهي وفقاً للترتيب الزمني كما يلي: 1988: -معرض SEP الأول/سن الفيل. -معرض رابطة قدامى مدرسة يسوع ومريم للفنون التشكيلية، الربوة. 1989:-المعرض الثاني للفنّانين الشباب، الحركة الثقافية/أنطلياس. –المعرض الثاني للفنّانين الشباب، الرابطة الثقافية/ طرابلس. 1989-1990: -معرض الخريف 14، متحف سرسق بيروت. 1990: -معرض الفنون التشكيلية في البيت اللبناني الألماني، الكسليك. 1991-1992: -معرض الخريف 15، متحف سرسق، بيروت. 1993: -المعرض الجماعي الأول للفنّانين اللبنانيين، المؤسّسة العربية للفنون التشكيلية. -معرض الكتاب الدائم، بيروت. –معرض الخريف 16، متحف سرسق، بيروت. –معرض مواسم الفنّ التشكيلي، صالون مسرح فخر الدين، بعقلين. –معرض فنّ الوصول إلى معرفة الذات، البيت اللبناني الألماني، الكسليك. 1994: -معرض الخريف 17، متحف سرسق، بيروت. -المعرض الدائم لجمعية الفنّانين اللبنانيين، صالة الجمعية، بيروت. -المعرض المنفرد الأول لمروان، وعنوانه “الغربة بين الجرد والبحر”، معهد غوته، المنارة بيروت وطرابلس. 1995: -معرض الخريف 18، متحف سرسق، بيروت. –معرض بينالي في الشارقة. –معرض شارع الحمرا، جمعية تجّار شارع الحمرا. –معرض الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية “أشكال وألوان” اللقاء التشكيلي الأول، حديقة الصنائع، بيروت. -1996: المعرض الدائم، غاليري عالم الفنون، الرملة البيضاء، بيروت. 1997: معرض الخريف العشرون، متحف سرسق، بيروت. –معرض فنّ وطفولة، غاليري عالم الفنون، الرملة البيضاء، بيروت. –معرض فسحة الأمس واليوم، بورتميليو، زوق مكايل. –معرض ليالي السوق العتيق، زوق مكايل. –معرض الخريف 21، متحف سرسق، بيروت. –معرض ليالي الميلاد، زوق مكايل. –معرض الفن بالعيد، مرايا بيروت. 1998: المعرض المنفرد الثاني لمروان، وعنوانه “الأرواح المتمرّدة”، المدرسة اللبنانية الألمانية، جونيه. 1999: -عرضت له منحوتة في الأونسكو بعد وفاته. 2000: -تمّ تكريمه في زاوية خاصّة ضمن معرض الخريف في متحف سرسق. 2001: -معرض خاصّ لأعماله في بلدة كفرحلدا، قاعة رشيد معتوق.
مروان النحّات الجبراني
بمن تأثّر مروان صالح، وعمّن أخذ؟ سؤال تقليدي، بل بديهيّ لا بدّ من طرحه والبحث فيه عند دراسة أي مبدع.
وفي وصيّته تطالعنا العبارة الأولى: “أنا جبراني، أحبّ الوعر أحياناً كثيرة، ولا أحبّ الناس”.
كان لنابغة المهجر أثرٌ حاسم في نشأة نحّاتنا الفكرية والفنّية في آن. وقد استلهم من جبران الأسلوب: أجسام عارية وسابحة في الفضاء، وحركة صاعدة إلى الأعلى. فبين رسومات جبران ومنحوتات مروان وشائج قربى واضحة: الجوّ الصوفيّ واحد، والأسلوبان متشابهان.
ولا ينكر النحّات هذا الأثر، ولكنه يرى أنه فكريّ أكثر ممّا هو فنّي. يقول في حديث إلى النهار العربي والدولي (ك1/1989): “منذ وعيتُ ثقافياً أحببتُ جبران بشكل غريب، حتى إنهم كانوا في قريتي يلقّبونني بجبران. ولا أنكر أنه أثّر فيّ وطبعني بطابعه من الناحية الثقافية”.
ويضيف مروان: “الناحية الثقافية بلورت فيّ الناحية الفنّية. الانعتاق والأثير أثّرا على الفكرة أكثر من الأسلوب. قد تجد انعكاساً للأشكال الجبرانية أحياناً، ولكنه لا يتعدّى إطار الاستيحاء. فلي أسلوبي الشخصي الذي بدأ يترسّخ”.
وفي حديث آخر (الشراع، 24/5/1993)، يعود مروان إلى الأثر الجبراني، فيقول: “كان تأثير جبران عليّ كبيراً منذ الطفولة، لدرجة أنه من باب التحبّب كان أصدقائي ينادونني بلقب الجبراني. التحرّر الفكري، والميل للتعمّق المثالي، والفكرة الفنّية المنادية للسموّ والارتقاء والانعتاق من عالم المادّة نحو الأثير…كانت من التأثيرات الواعية أو غير الواعية التي تبنّيتها في قراءاتي له”.
ورافقه اللقب حتى الرمق الأخير. فهو في وصيّته الآنفة الذكر يكرّره مراراً: “أنا جبراني، حين أموت أوصيكم أن لا يدفنني رجل دين أرضيّ. أوصيكم أن لا يصلّوا عليّ، أن لا يبكوا عليّ.”
فمن جبران استمدّ نحّاتُنا الثورة على الإكليروس. وهو يعيدُ التأكيد على جبرانيّته اللاكهنوتية في آخر الوصية: “أنا جبراني. إذا كان لا بدّ من أن تدفنوا جسدي على طريقتكم، فإنكم لن تمسكوا روحي. فهي طليقة لا تموت. أوصيكم أن تسرقوني بعد موتي، وتضعوني تحت صخور كفور العربي حتى إنني أعرف تحت أي صخرة أرتاح، ولا يزعجني رجال دينكم الأرضي”
ومعرض مروان الانفرادي الثاني والأخير اقتبس عنوانه من عنوان كتاب لجبران: “الأرواح المتمرّدة”.
ولكن جبران لم يكن المؤثّر الوحيد. فصديقه النحات والرسّام اللبناني يوسف الحويك (1883-1962). كان له دوره في تطوّر شخصية مروان الفنّية. ومعروف أن جبران هو من شجّع صديقه الحويّك على التكرّس للنحت. وكان والد مروان صديقاً للحويّك. يقول مروان (الشراع، م. س): “بين بشرّي وعُورة، أي بين قرية جبران وقرية النحات يوسف الحويّك نشأت…أما الحويك فقد جاءني تأثيره عبر والدي صديقه، ومن الجوار. شاهدتُ صوراً عن تماثيله، وقرأتُ عنه كونه جاور جبران. وحاولتُ أن أعمل بفكرة السموّ والارتقاء ووحدة الوجود مستلهماً جبران والحويّك”..
ونحّات لبناني آخر كان له أثر في مروان. إنه ميشال بصبوص وإخوته. يقول نحّاتنا ملخّصاً تأثراته بسابقِيه اللبنانيين (الديار، 13/1/1994): “أبي كان يعرف يوسف الحويك، وتعرّفتُ على أعماله، وبدأت أحبّ النحت من وقتها. ثم تأثرتُ بالبصابصة. كان بصبوص يقيم المعارض في الهواء الطلق أمام الستاركو وبالحديقة بالجديدة، وكنّا نهرب من الشغل اليومي إلى المعارض. ولكن التأثير الأساسي هو من جوّ البيت وحبّ الشعر والفكر والفن”
ويختصر مروان لجريدة الحياة (28/9/1992) تأثراته بسابقِيه من النحّاتين كالتالي: “تأثرتُ بيوسف الحويّك، اعتبره رائداً. ثم تعرّفتُ بميشال بصبوص، وأخذتني نزعته التجديدية. وكان جبران طريقي إلى رودان ونحته. وأحبّ أعمال هنري مور…طبعاً رأيتها في الكتب والمجلّات. فأنا لم أخرج من لبنان”.
والخلاصة، فجبران أولاً، ثم الحويك وبصبوص تلك هي مصادر النحت المرواني، وتتوّجها نشأةٌ قروية في الطبيعة، وبيتٌ يعبقُ بالفكر الماركسي وقضايا المعذّبين…
إنها المنابع، ومنها انطلق نحّاتُنا ليشقّ طريقه، ويطوّر أسلوباً مميّزاً يخرج عن التصنيفات والمدارس، وفي ذلك يقول (الديار، م. س): “لا أقرّ بالتصنيفات. عملتُ جهدي ليكون لي أسلوبي الخاصّ. تأثري الأساسي ثقافي فكري، أكثر منه تقني وفني. وأفكارُ جبران وأسلوبه أثّرت فيّ.”
مروان شاعر الخشب
وثمّة إشكالية بارزة تطرحُ نفسها بإلحاح عند دراسة نتاج مروان: لِمَ اقتصرت كل منحوتاته على الخشب حصراً؟
يشرحُ نحّاتُنا مراراً خيارَه الخاصّ هذا. يقول لمجلة النقطة (ربيع1993): “أنا من ضيعة زراعية، نعيش مع الخشب العمر كلّه: سقوفُ بيوتنا، مقاعدُنا، أسرّتنا، نعوشنا كلّها خشب، إنها رحلةُ العمر”.
وفي وصيّته الآنفة الذكر نشيدُ حبٍّ للخشب، يقول مروان: “الخشب عالم من الروح الهائمة في العُلى. وعالم من المادّة المنزرعة في أعماق التراب، وفي أعصاب الجسد.”
والخشب كالزهر يرافق المرء في كلّ أدوار حياتِه، يردف مروان: “سريري حين ولدتُ شممتُ رائحةَ خشبه. أبوابُ بيتي، شبابيكي، تماثيلي، تابوتي كلّها من خشب”.
دورةٌ كاملة من الحياة يقضيها الإنسان برفقة الخشب: مادّة نبيلة ترافقه من المهد إلى اللحد. يحبّها، فتحبّه، وتبادله ودّاً بودّ. يضيف مروان: “هذه الأشجار التي تحبّنا. طاولتي التي آكل عليها. شجر الزيتون. شجر الصنوبر. رائحة الهواء في كفور العربي كلّها من الخشب”.
من هذه الوصية نفقه خيار مروان الفنّي. آثر الخشب على الحجر. فللخشب قلبٌ يحنو، وليس هو بتاتاً كقلب الحجر. وفي الخشب قدرةٌ على التعبير عن عواطف الإنسان وشطحاته وانفعالاته ليست في الحجر. وفي الخشب حياةٌ ليست في الحجر!
وعلاقة الأخوّة هذه بين الفنّان والخشب جعلته يختار هذا الأخير مادّةً لفنّه. ويؤكّد مروان على علاقة العشق هذه التي تشدّه إلى الخشب، فيقول في حديث إلى الديار (11/11/1994): “هناك نوع من المودّة بيني وبين مادّتي. بيني وبين الخشب. وكأنّي تزوّجته بعد أن أحببته”.
ويصل نحّاتنا إلى حدّ تشخيص الخشب، يقول لمجلة النقطة (م.س): “للخشب مسامات مثل مسامات اليد والجسد. والعيش بين الأخشاب هو كالعيش بين الناس.”
لقد غدا الخشب عالمه، وأغناه إلى حدّ ما عن عالم الناس. وهو في فنّه يحاور الخشب، يستنطقه، ويُخرج منه الأشكال والأحاسيس التي رآها فيه. يقول: “أحبّ الخشب لطراوته والحرارة والحيوية. أتفاهم مع الخشب. لم أتعامل حتى الآن مع الصخر. أحسّه بارداً لا يتجاوبُ معي”.
أما ما يؤثره من أنواع الخشب، فيبدو أن نحّاتنا قد آخى الزيتون، عشقه وشخّصه، فوجد بينه وبين الإنسان شبهاً واضحاً وتفاعلاً وقرابة. يقول للديار (13/1/1994): “أفضّل الزيتون لأنه خشب شكله جميل ومطواع للعمل، وألطف وأرقّ من غيره، وعِرقه يشبه جسمَ الإنسان ومسامَه. ومن الناحية الوجدانية فالزيتون قريبٌ من الإنسان. استعملتُ الأرز والتوت. وليس كلّ الخشب قابل للنحت. ويبقى الزيتون الأفضل”.
وقد التقَتْ أكثر الأديان على تقديس هذه الشجرة. فجعلَتْ منها التوراة رمز السلام والأمان وعهد الله إلى الإنسان عندما حملت حمامة نوح غصن الزيتون مبشّرة بنهاية الطوفان (تكوين8/11) وفي الإنجيل استُقبل المسيح في أحد الشعانين بأغصان الزيتون، والزيتون رمزٌ له. وفي القرآن: {زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} (النور/34).
ويحنو نحّاتنا على أغصان الشجر حنوّ أمّ على وليدها، فلا يكسرُ غصناً أخضر، يقول في حديث إلى نداء الوطن (م. س): “أنا أستعملُ الجذعَ اليابس المنسلخ عن أمّه، ولا أعمدُ إلى قطعه. أتناولُه مكسوراً من الأرض. فالشجرة حياة جمال واخضرار”.
ولو لم يسمع المرء من مروان وعنه سوى هذه العبارة، لكانت كافية ليوقن أن الأمر يتعلّق بفنّان مرهفٍ وأصيل.
ويردف مروان في حديثه: “أعمدُ إلى اختيار الخشبة التي مرّ عليها عامل الزمن، لئلا تتشقّق لاحقاً، ثمّ أعملُ على حفرها وصياغتها”.
النحّات الشاعر
نشأ مروان في منزل شاعر زجّال مبدع. ومن هنا نزعته المبكرة إلى الشعر.يقول (الدولية، 7/12/1994): “بدأتُ النحت كهواية، ولم أفكّر يوماً بأنّني سأصل إلى الاحتراف…كنتُ أظنّ أنّني سأصبح شاعراً. فالشعر هو الحسّ، وهو وراء كلّ إبداعٍ فنّي. عملتُ بتأثيرات شعرية، ولم أكن واقعيّاً. كنتُ أفتّش عن عوالم مثالية ولامحدودة، ربّما غير موجودة، ولكنّني فتّشتُ عنها”.
ويقول لمجلّة لبنان 90 (م. س): “في فترة الشباب حاولتُ كتابة الشعر، فلم أنجح. وبالصدفة اكتشفتُ النحت، ولذلك أحاولُ أن أضعَ الشعرَ في النحت”.
ولعلّ بضاعته المحدودة من الدراسة لم تسمح له بأن يصير الشاعر الذي يحلم، فكان النحتُ تعويضاً، أو تحويلاً للحلم! يقول في حديث إلى الديار (11/11/1994): “إن لم أعبّر بالخشب كنتُ سأعبّر بالشعر. وبطبيعتي لا أحبّ التنويع، ولا أحسّ أنني متعدّد المواهب، بل أكره هذه المسألة”. فلأنه أحاديّ المواهب حوّل موهبته الشعرية التي لم تعبّر عن ذاتها إلى النحت. لذا بقي العمل الفنّي في عُرفه وتجربته قصيدة، يقول (م.ن): “يلازمني على الدوام الشعور وأنا أنحت، بأنّي أكتب”
وولادةُ المنحوتة كولادة القصيدة، يقول (النقطة، م. س): “الجمالُ هو تراكمات خيبات الأمل الشخصية والجماعية، وحبّنا وفشلنا. أن تحمل في داخلك خيال امرأة ولا تجدها. حلمٌ بالمثال نبحث عنه، نصطدم بالواقع…حينها أركضُ صوب الخشبة، أحاولُ أن أرسم أن أحفر ما رأيت كلّ ما أحسستُ خيالاً لامرأة غير موجودة”.
والإلهام الفنّي يوازي الوحي الشعري، يقول مروان للنهار العربي والدولي (م. س): “تملكني حالة هي أشبه بالحلم. لعلّها ما يتملّك الشاعر في لحظات وحيه. ربّما لأنّني عاجزٌ عن التعبير بالكتابة عبّرتُ بالإزميل”.
ويحكي مروان عن تجربة الإبداع في النحت، فإذا هي تجربة شعرية بامتياز. يقول لجريدة الحياة (28/9/1992): “لا أحضّر قبل الشروع في النحت. لا تصوّر مسبقاً للمنحوتة. حين أُمسك الإزميل أدخل حالة غامضة، ضبابية بين اللاوعي والوعي، لا أعرف ما هي. لكنّني أنحت. أشتغلُ حسب المزاج. والصباحات أفضل أوقات العمل. لا أسمعُ سوى البحر. إنه صديق، ولا أحبُّه هادئاً”. ويضيف عن صديقه البحر: “العاصفة اعتدتُ عليها. لا تؤذيني حين تهبّ من البحر. أدخلُ إلى صومعتي، أنحت، أكثر الأحيان أسافرُ في داخلي، وأُصغي للعاصفة”.
معاناة الخلق الفنّي واحدة. بعضهم يرسمُ بالكلمات، وبعضهم بالفرشاة، وآخر بالإزميل…
ميّزات النحت المرواني
عندما بدأ مروان نحت الخشب لم يكن هذا النمط جدّ مألوف في لبنان. وهو إلى ذلك اختطّ فيه أسلوباً مميّزاً مبتكراً أسماه “أنسنة الخشب”. ويؤكّد أنه، في فنّه، لم يكن اتّباعياً، ولم ينتمِ إلى أي مدرسة. ففي حديث إلى الديار (11/11/1994) يقول: “لستُ سليل تجربة فنّية، قد أكون سليل تقنية ما. إن تجربتي تتعلّق بالحدث والهاجس المتراكم. أعملُ تحت تأثير حالتين تجمعان الوعي واللاوعي في آن”.
وفنّه بمجمله يتمحور حول الإنسان، فهو وحده بانفعالاته ورغباته المتناقضة موضوع، بل بطل منحوتاته. يقول في حديثه الآنف للديار: “إني أعالج منحوتتي انطلاقاً من حال حسّية بالدرجة الأولى. إنها بشكل ما تعبّر عن الإنسان بأشكال وحالات متناقضة. المنحوتات عموماً مؤلّفة من عدّة أشخاص. والشخص الواحد فيها يعبّر عن عدّة حالات مختلفة ما بين الهبوط والانكسار والصعود. كمثل الحبّ والبغض، والانتصار والانهزام، وما يشابه ويتبع”.
إنها أنسنة الخشب، أو المنحوتة، وهو ما كرّره مراراً، يقول في حديث إلى الشراع (24/5/1993): “هاجسي أنسنة المنحوتة. الخشب أكثر مطواعية بيدي، فيه ليونة ويحتضنُ المشاعر”. ويضيف مؤكّداً أن فنّه سعيٌ حثيث لتجسيد حالة الإنسان بمختلف أبعادها وتناقضاتها في الخشب: “أحشد عدّة تعبيرات بمنحوتة واحدة. أعبّر عن الإنسان بانفعالاته وحالاته المختلفة. لا يمكن تصوير عالمنا سوى بأشكال متناقضة، وأشكال متنوّعة، وأبعاد متنوّعة. منحوتتي هي محاولة عميقة لتجسيد حالة الإنسان المنظورة وغير المنظورة”.
وفي حديث للنهار العربي يوضح مروان أن أعماله تجسيدٌ لانفعالات الإنسان المتناقضة، ما يضفي عليها بعضاً من غرابة: “هاجسي أشكال الناس، فكأنهم الحلقة المفقودة في هذا العالم. ليسوا أشخاصاً طبيعيين، بل أشكال أحمّلها المتناقضات، أو أجمع فيها خلاصات عدّة، وأعيد تركيب الأجزاء: ثلاث أيد، أو أجنحة وأيدٍ”. ما يذكّر بفنون النحت المقدّسة القديمة، كالنحت الهندي، حيث للإنسان والآلهة أيدٍ عديدة، وأجنحة، ورؤوس…
نحتُه لصيقٌ بشخصه، ورؤياه للناس وللعالم، وتعبيرٌ عن قلقه وحيرته، إنه عملية تأمل داخليّ واستبطان. يقول: “في وحدتي أعيش هواجسي فأنحتُها”!
ويبقى للفراغ حضورٌ أساسي في النحت المرواني، فهو الذي يوضح الصورة التي في خيال الفنّان. يقول في حديث لمجلّة النقطة (م. س): “للفراغ دورٌ بارز في عملية النحت. فالعملُ هو الذي يحدّد الفراغ. والضوء هو الذي يخلق الحركة. وهذه الانفصالات والتعرّجات هي التي تخلق الحركة. وصورة المنحوتة تأتي من داخلك أنت ومن تفاعلات ذاتك مع ضربات الخشبة من يدك. واليد والمادّة واحد. وهنا دور الفراغ، أن يأتي من خلال توضيح صورة ما بين يديك”.
ويؤكّد مروان على العلاقة الجدلية والتفاعلية بين الفكرة التي في ذهن النحّات، ومادّة النحت، أي الخشبة. يقول في الحديث عينه لمجلة النقطة: “علاقةُ الفكرة بالخشبة علاقةُ صراعٍ ومخاض وآلام. وأحياناً كثيرة الشكل يساعد الفكرة، ولكن هذه الفكرة ذاتها قد تتغيّر خلال عملية النحت”. هنا يبرز أثر حفر الخشب، وهي الحرفة التي انطلق منها فنّاننا، في نحته، فالحفّار يتبع غالباً خطّاً توحيه الخشبة التي بين يدَيه.
وهو إلى ذلك يصرّ على الجانب العفوي في فنّه، يقول في حديثه للديار (11/11/1994): “تعبيري غير مدجّن وعفوي. وطريقي هي الفطرية، ولا علاقة لي بالأكاديمية. البساطة هي الناقد الأهمّ. والمهمّ في نظري القدرة على إدراك المُشاهد العادي، فحين تدرك هذا المُشاهد تكون أنجزت عملاً مميّزاً.”
وهو يعلن صراحة تبرّمه من التكنولوجيا، ولا يرى لها دوراً في فنّ النحت سوى تشويهه والقضاء على طابع الإبداع الإنساني فيه. يقول في الحديث عينه: “التكنولوجيا تشلّ الإرادة الفكرية والنفسية. ثمة ما يشبه فيها ولادة الطفل الأنبوب. في التكنولوجيا يمكن أن يناسب ذلك العسكر أو الزراعة وغيرها. ولكن في الفنّ والناحية الإنسانية لا مجال لذلك. إنها تقتل الإنسان، تعدمه. وأنا لا أجيد استعمال الصاروخ ولا حتى المنشار الكهربائي. وأشتغل بمجموعة أزاميل والقدّوم والوسائل الأكثر بدائية”.
الفنّان الذي عرفتُ
عرفتُ مروان صالح أواخر 1983، وكان المخرج جلال خوري همزةَ الوصل بيننا. كان جلال يسكن في بلدته الصفرا، وبالقرب منه بيت مروان. بيت صغير يطلّ على البحر، ومنه يُسمع هديره. نصعد إليه بدرج محاط بفخّارات الحبق والنعنع البرّي، وبأزهار الخزامى وغيرها، فيدخلنا أريجها في عالم آخر. لقد حوّل مروان وأمّه وشقيقه سمير هذه الأرض المطلّة على البحر إلى حديقة فتّانة يغرق البيت الصغير بين أشجارها وأزهارها. فحول البيت شتول الذرة والقلقاس والورد الجوري وغيرها. وخلفه محترفه: خيمة قصب فيها يقضي أكثر أوقاته، بصحبةِ جذوع الزيتون التي كان يحملُها إليها زاداً لمنحوتة ستولد! وأدمنتُ على صحبة هذا الصديق الودود والفنّان المبدع. أُلقي عليه التحيّة نازلاً إلى بيروت، أو عائداً منها، وأنزل أحياناً لتفقّد سَير أعماله. فأواكبُ ولادة إبداعاته. وكانت فترة الحمل غالباً ما تطول، أما ساعة الوضع فعلمُها عند الله!. فالأمرُ يتعلّق بمزاج الفنّان المتقلّب. وكنتُ غالباً ما أعاتبه قائلاً: إنك على هذا النمط لن تعيشَ يوماً من فنّك. وقد هجرتَ حرفة النجارة وحفر الخشب لتعيش للنحت، فأضعفُ الإيمان أن تعيش ممّا تعيش له، وخادم الهيكل من الهيكل يأكل تقول الآية (1كورنتس9/13). أما جوابه فكان كثيراً ما يقتصر على هزّة رأس أو بسمة. وما كان بمقدور أحد أن يُقنعه بالإسراع، أو بتحويل فنّه إلى حرفة يرتزق منها! فهو إن لم يرضَ رضاً كاملاً عن منحوتته، فلن يخرجها إلى النور والمعارض، ولو استغرق العمل فيها سنة!
وكانت جلساتُ الحوار تطول بيننا. عاش مروان ملحداً، ومات ملحداً. ولكنه إلحادٌ مقرون بنزعة إنسانية مرهفة وعميقة. نصيراً كان لكلّ مظلوم ومعذّب، وهو الذي كان يقول (الديار 1994، م. س): “إذا ضربوا العراق أتألّم. وعندما يحاصرون الشعوب باسم الديموقراطية والأمم المتّحدة في الصومال وغيرها، وتموت الشعوب من الجوع، انا لا أستطيع أن لا أتاثّر…يجب أن يكون الفنّان الحقيقيّ ضدّ الظالمين”.
ورغم إلحاده وماركسيّته، لم يكن مادّياً. ووصيّته الآنفة الذكر تُظهر بوضوح إيمانه بخلود الروح. ولعلّ الأثر الجبراني كان حاسماً هنا. وأفكاره، وأعماله الفنّية تفصح عن روحانية، ونمط خاصّ من التصوّف، وهو القائل (الديار11/11/1994): “إني أقوم بإنجاز إنساني روحيّ. التطوّر روحياً وفكرياً ينعكس مباشرة في العمل”.
ودار الزمن دورةً انتقلتُ فيها إلى باريس. وعندما عدتُ للمرة الأولى وجدتُ أن صديقي النحّات قد صار مشهوراً وتتسابقُ الصحف على تغطية أعماله ومعارضه وأخذ حديثٍ منه. ولكن مرواناً بقي مروان الذي عرفته، وحاله بعد الشهرة كقبلها. فهي لم تغيّر شيئاً من تواضعه ودعته ووداده. وهي لم تفعل سوى أنها زادته تكرّساً لفنّه. بل أكاد أقول إنه لم يصدّق حتى أنه صار فنّاناً مشهوراً، وهو الذي كان يردّد (النهار العربي، م س): “ما زلتُ كالفتاة الخجولة، تغازلها وتقول لها: إنك جميلة، فتستحي ولا تصدّق” ولكن القدر لم يمهله طويلاً. وهو في الحقيقة لم يذق حلاوة الشهرة، فبين معرضه المنفرد الثاني ووفاته أقلّ من سنة! أدخله السرطان في جُلجلةٍ من العذاب طويلة لخّصها بعبارته الشهيرة: “لقد كان عمراً قصيراً، وموتاً طويلاً”. وجاءت عذاباته الأخيرة مصداقاً لقوله (الديار 1994، م. س): “طالما أنا أتالّم إذاً أنا موجود”. معادلة صاغها على وزن معادلة ديكارت الشهيرة. فالألم كان أبجدية فنّه، والفقر ألفباء حياته.
الفقر والألم كانا معاً رفيقه الدائم، فعاش مَطْهره على الأرض، وصعدت روحه مطهّرة طاهرة إلى باريها، وهي اليوم تتفيأ زيتونات كفور العرْبي، وتظلّل منحوتات الزيتون المشرورة هنا وهناك وهنالك!