عنوان الكتاب : أخبار كرسي المشرق
من كتاب المِجدَل للإستبصار والجدل
مؤلف الجزء الأول: ماري بن سليمان (القرن 12م/6 ﻫ)
مؤلفاً الجزء الثاني : صليبا بن يوحنّا (القرن 14 م)
عمرو بن متّى (القرن 14 م)
مُحقّق الجزئين : الأب هنري جيسموندي اليسوعي
عنوان المدخل الدراسة: النساطرة والإسلام: جدلية علاقة
منذ ما قبل البعثة إلى ما بعد سقوط العباسيين.
مؤلف الدراسة : د. لويس صليبا
باحث وأستاذ في الدراسات الإسلامية/باريس
عدد صفحات المدخل والدراسة : 55 ص
عدد صفحات الجزء الأول : 180 + 8 ص
عدد صفحات الجزء الثاني : 157 + 7 ص
سنة نشر الطبعة الأولى : 1896
سنة نشر الدراسة، والطبعة الجديدة : 2005
Byblion1@gmail.com
2005 جميع الحقوق محفوظة
مدخل إلى كتاب المِجدَل
النساطرة والإسلام: جَدَليّة علاقة
منذ ما قبل البعثة إلى ما بعد سقوط العباسيين
بقلم : د. لويس صليبا
باحث وأستاذ في الدراسات الإسلامية
هذا السِفر النفيس الذي نضعه اليوم بين أيدي القرّاء، هو بدون شك، من أقدم ما وَصَلَنا من مصادر عن أحوال النصارى، في ظلّ الدولة الإسلامية أمويّة وعبّاسية. وهو لا يقتصر على هذه الحقبة، بل يعرض لتاريخهم أيضاً قبل الإسلام. في حين يتطرق القسم الأخير، من الجزء الثاني منه، إلى أوضاع النصارى في ظلْ الحكم المغولي، بعد سقوط بغداد. والنصارى الذين يتناولهم كتاب المجدل هم السريان المشارقة (أو النساطرة)، <<في حين تتناول تواريخ ابن العبري وديونيسيون التلمحري وميخائيل السرياني، السريان المغاربة>> .
وإذا كانت كتُب ابن العبري قد حظيت منذ زمن بَعيد بالاهتمام والشهرة. فقد ظلّ كتاب المجدل ومؤلّفيه، زمناً طويلاً طيّ النسيان. وحقيقة الأمر أننا اليوم لا نعرف سوى النذر اليسير عن “ماري بن سليمان” أول وأبرز كتّاب المجدل. وكذلك عن “صليبا بن يوحنّا الموصلي” الذي أتى بعده ، وأضاف إلى كتاب المجدل . وأيضاً عن “عمرو بن متّى الطيراهني ”
الذي صاغه مختصراً من جديد. وسنعود إلى الكلام على كلٍّ منهم. والثلاثة هؤولاء يجمعهم انتماؤهم إلى الكنيسة النسطورية. وهي موضوع كتابهم المجدل. وهذا الأخير لا يقتصر على تاريخ النساطرة، بل يبحث أيضاً في عقائدهم وشرائعهم وعلومهم، كما سيمرّ معنا.
فما هي هذه الكنيسة ؟ ومَنْ هو مؤسّسها ؟ وما هي عقائدها ؟
أسئلة لا بدّ من البحث عن إجابة عليها، كمقدّمة لفهم هذا الكتاب في خلفيته وموضوعه.
أولاً : نِسطور، الكنيسة النسطورية والعلاقة بالإسلام
1 – نسطور مؤسس مذهب
نسطور أو “نسطوريوس” Nestorius، والذي إليه تنتسب هذه الكنيسة. هو كاهن إنطاكي وُلد سنة 378 م. وتنسّك في دير أوبريبيوس قرب إنطاكية. فزامل هناك القديس يوحنّا الذهبي الفم. وتتلمذ على ثيودورس المصيصي. وغدا في عهد الأمبراطور “تيودوسيوس” الثاني وتحديداً عام 428 بطريركاً على القسطنطينية. فكان له هناك تعليماً خاصّاً في طبيعة المسيح، عُرف بالمذهب النسطوري، أو بدعة نسطور، أو البدعة النسطورية، وفق التسمية التي أطلقها مخالفوه على مذهبه. وتعليم نسطور هذا أثار تدخّل القديس “كيرلّس الإسكندري”، الذي حاربه واتّهمه بالهرطقة. وتدخّل بعد ذلك البابا “قلستينس” ، فحرمه في سنة 430 . وتكرّس هذا الحُرم
في مجمع أفسس بعدها بسنة 431. إذ أعلن هذا المجمع <<أن أحدى رسائل نسطور العقائدية هرطوقية. فعَزَله عن البطريركية.>> .
بعد عزله نُفي نسطور إلى البتراء (في الأردن حالياً)، ومن ثم إلى ليبيا. وهناك توفي. وكان لا يزال حيّاً أثناء انعقاد المجمع الخلقدوني(451). وهو المجمع الذي أعلن بشكل نهائي صيغة إيمان هامة حدّدت <<وحدة أقنوم المسيح في طبيعتين: إنسان كامل وإله كامل، بلا اختلاط ولا تغيير، وبلا انقسام ولا انفصال>> . إنه التعليم الرسمي الذي لا تزال تتبنّاه إلى اليوم الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية. ممّا يتنافى والتعليم الذي دعا إليه نسطور. وينسب إلى نسطور<<كتاب هيراقلبوس الدمشقي>>. وفيه دفاع عن مذهبه وسلوكه.
2 – عقيدة نسطور
تتلخّص عقيدة نسطور بأن <<المسيح مكوّن من شخصين شخص إلهي هو الكلمة، وشخص بشري هو يسوع>> . ولا يعتبر نسطور أن ثمة اتحاد بين طبيعة بشرية، وأقنوم إلهي في شخص المسيح. بل إن الأمر هو، برأيه، مجرّد صلة بين شخص بشري واللاهوت (الطبيعة الإلهية). ويقول نسطور أن لاهوت المسيح لَبِس الناسوت، وأن الناسوت صار هيكلاً للاّهوت، ومسكناً له. وورد في أحدى عِظاته: << إن في السيد المسيح طبيعتين وأقنومين ، ولذلك فهو مسيحان ، أحدهما ابن الله والآخر ابن
الإنسان>> . وثمّة عقيدة بارزة لنسطور تنتج عن نظرته هذه، وهي رفضه أن يطلق على مريم لقب: “والدة الإله” أو” أم الله”. فمريم، بنظر نسطور، لم تلِد اللاهوت. بل ولدت شخصاً هو إله وإنسان معاً. يقول نسطور في رسالته الثانية إلى كيرلس، والتي تُليَت في مجمع أفسس : << والقول أن الإله الكلمة لم يحتج إلى ولادة ثانية من امرأة ، وأن اللاهوت غير قابل للتألّم . كل ذلك معتقد صحيح (…) إن العذراء القدّيسة يجب أن تـدعى بتسمية أدق أُم المسيح لا أُم الله>> . يشرح نسطور في خطبة له:<<إن مريم لم تلد إلهاً متجسّداً، بل إنساناً محضاً هو يسوع المسيح. ثم حلّ فيه كلمة الله. ولذلك لا يجوز أن تُدعى: “والدة الإله” بل أم المسيح. وحيث أن الله لم يولد، فلا يجوز القول أن الله قد تألّم ومات. وقال كذلك:<<إنني لاخجلنّ من أن أدعو طفلاً ابن شهرين وثلاثة إلهاً>>. كما أبطل نسطور عبارة “يا مَن صُلب لأجلنا” في الصلوات والتقاديس . وسنعود لمقارنة عدد من النقاط في عقيدة نسطور، مع العقائد الإسلامية. وقد شجب مجمع أفسس كما ذكرنا مذهب نسطور وعقيدته. وانتهى إلى حرمه. في حين ثبّت لقب “والدة الإله” لمريم.
وفي ختام الحديث عن عقيدة نسطور، نشير إلى أنه في أواخر حياته، ووفق رواية المؤرّخ ” سقراطس” ، قَبِل لفظة ” تيوتوكس ” أيّ أُم الله . وكأنه مرغم غير مقتنع، وذلك بغية إنهاء الخلاف. وقال : << لتدُعَ مريم أمّ
الله وليبطل هذا النزاع>>1. ولكن تراجعه هذا جاء متأخراً ولم يُقبَل. كما أن النزاع لم يتوقف. بل تطايرت شظاياه إلى أمكنة عديدة وبعيدة في الشرق، لتصل واحدة منها، كما يزعم بعض المستشرقين، إلى الجزيرة العربية، فيردّد الإسلام أصداءً لعقيدة نسطور.
3 – الإسلام والعقيدة النسطورية
وعقيدة نسطور في طبيعة المسيح، ولا سيما رفضه لأمومة العذراء للإله، تستحق منّا هنا وقفة قصيرة. فقد اعتبر عدد من المستشرقين أن عقيدة القرآن في طبيعة المسيح، ولا سيما رفضه لما ينسبه إلى النصارى من تأْليه لمريم أم المسيح، هي بالحقيقة صدى لموقف نسطور وعقيدته. وقد ورد في آية منه: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ﴾ . والآية القرأنية هنا، لا تتّهم النصارى بتأليه المسيح فقط، بل تنسب إليهم أيضاً تأليه أمّه مريم. وهو مفهوم خاص للثالوث المسيحي، لا نجد له أيّ أثر في العقيدة المسيحية الرسمية.
يقول المستشرق “زاهنر”، في صدد هذا الموقف القرآني: <<إن رفض أن تكون مريم أمّاً لله، يبدو أنه يأتي كدعم مباشر للموقف النسطوري الذي رفض أن يلقّب مريم بوالدة الإله. لا بل رفض حتّى أن يُقال عنها أنها أم “الكلمة” التي ألقيت إليها. كون هذه الكلمة قد وجدت قبلها. وإذا كانت الأمومة تعني التوليد “Génération” . فمريم ليست أمّ الله، وإن
كانت أم المسيح، والذي هو بطريقة معيّنة، ولكن غير محدّدة في القرآن، متّحدٌ بالكلمة الأزلية. وهكذا فالموقف القرآني بشأن طبيعتي المسيح يبدو كموقف نسطوري >> ويستفيض “زاهنر”، بعد هذا المقطع الذي ترجمناه له، في دعم نظريته بالشواهد والبراهين. وخلاصتها أن الإسلام، في اتهامه للنصارى بتأْلِيه مريم، وعقيدته في المسيح “كلمة الله”، آخد ومتأثر بالعقيدة النسطورية. مما لا مجال للتوسّع فيه هنا. وما إشارتنا إلى هذه المسألة إلاّ للفت النظر إلى العلاقة الوثيقة بين الإسلام والنسطورية. والتي قد تعود حتى إلى بداية الإسلام. وهو أمر من شأنه أن يساهم في فهم تطوّر هذه العلاقة، في الحقبة التي يتناولها كتاب المجدل.
ولكن ما أثاره زاهنر ليس النقطة الوحيدة التي تلتقي فيها عقيدة نسطور بالتعاليم القرآنية عن المسيح. فثمة الكثير مما قاله نسطور، وردّدت أصداءه آيات الذكر الحكيم، وأحاديث الرسول محمد.
1- قال نسطور أن الله لم يلد ولم يولد. وهذا ما ركّز عليه القرآن في سورة الإخلاص الشهيرة: ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ① اللهُ الصَّمَدُ ② لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ③ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ④﴾ .
قال نسطور: <<لا يجوز أن يُقال أن الله تألّم ومات>>. كما أبطل عبارة “يا مَن صُلبت لأجلنا”. أي أنه بطريقة أو بأخرى شكّك في عقيدتين أساسيتين في المسيحية، هما الفداء والصَلب. وهذا بالتحديد ما وأن يكون كذلك قد تألّم وصُلب ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾1.
وهنا سؤال يُطرح حول فرضية لقاءٍ بين الإسلام، في مهده، وقبل البعثة، والكنيسة النسطورية؟!
تحدّثنا كتب السيرة النبوية ، عن أكثر من لقاء بين الرسول محمد – صلعم- ورهبان هم على الأرجح نساطرة، وذلك قبل مبعثه. فيروي ابن إسحاق في السيرة لقاءً أولاً لمحمد الفتى براهب يدعى بَحيرى، وكان في رحلة إلى الشام مع عمه أبي طالب، ويذكر ابن اسحاق هذا الحدث ويستفيض في رواية مجرياته2.
ويروي ابن اسحاق حدثاً مماثلاً آخر جرى لمحمد – صلعم- في رحلته الثانية إلى الشام. وكان قد دخل في خدمة خديجة فأرسلته في تجارة لها مع غلامها ميسرة. يقول ابن اسحاق <<فنزل رسول الله في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان _ وكان اسم هذا الراهب نسطور3- فاطّلع الراهب إلى ميسرة، فقال له: مَنْ هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجلٌ من قريش من أهل الحزم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلاّ نبي4. وقد روى ميسرة لخديجة هذا الحدث عند عودته.
ليس من شأننا، في هذا البحث، استقراء وتحليل هاتين الروايتين. لا سيما وأن عدداً من الباحثين يقول أنها من نسج خيال الرواة. لكننا نكتفي، بالإشارة إلى الروايات التي تقول أن الراهبين بَحيرى والثاني هما من النساطرة. واسم الراهب الثاني – نسطور– دليل كافٍ على انتمائه إلى الكنيسة النسطورية.
وكل ما يهمنا هنا، هو القول أن الكنيسة النسطورية، لم تكن في حضورها العقائدي بعيدة جغرافياً، ولا فكرياً، عن بيئة الجزيرة العربية في فجر الإسلام. وهذا ما سنعود إلى تفصيله بعد التعريف بالكنيسة النسطورية.
4 – الكنيسة النسطورية
ماذا الآن، في ختام التعريف بنسطور وعقيدته، عن النساطرة والكنيسة النسطورية، وتاريخها كما أشرنا هو لبّ موضوع كتاب المجدل. الكنيسة النسطورية هي كنيسة بلاد ما بين النهرين السريانية الشرقية. ودعي النساطرة السريان الشرقيين، مقابل اليعاقبة (نسبة إلى يعقوب البرادعي) الذين عُرفوا بالسريان الغربيين. وقد قطعت هذه الكنيسة العلاقات مع كنائس العالم الروماني (شرقاً وغرباً). ولم تعترف بمجمع أفسس (431) ولا بتعاليمه. وهو المجمع الذي حرم نسطور كما رأينا. وما زالت هذه الكنيسة تعلن أمانتها، وإيمانها بتعاليم “ثيودورس المصّيصيّ”. معلّم نسطور، وتعتبره المفسّر المثالي للكتب المقدّسة . وقد عرفت هذه الكنيسة
في القرون السابقة انتشاراً واسعاً شمل آسية بأسرها، فوصلت إلى الصين وجنوبي الهند. في حين عاد عدد من مؤمنيها في القرون الأربعة الأخيرة إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية. وتعرف هذه الكنيسة اليوم باسم: <<الكنيسة الآشورية المشرقية>>.
5 – الكنيسة النسطورية في بلاد العرب قبل الإسلام.
ارتبط النساطرة بعلاقات ودّية مع أباطرة الفرس، لذا رغب هؤلاء بالإفادة عن علوم النساطرة، لا سيما وأنهم أول مَن ترجم الفلسفة والعلوم اليونانية إلى السريانية. فسمحوا لهم بتعليم هذه الفلسفة لأبناء مملكتهم. مما جعل سلوقية، على نهر دجلة قبالة العاصمة طيسفون، مركزاً ثقافياً يضاهي الرّها ونصيبين. وغدا المركز هذا أبرز معقل للنساطرة. ومنه انطلقوا للتعليم والتبشير في العراق، وسائر أنحاء الأمبراطورية الفارسية.
ومن النساطرة هؤلاء أخذ عرب بلاد العراق، لا سيما منهم أهل الحيرة، العقيدة النسطورية. ومن أهل الحيرة انتقلت النسطورية إلى جزيرة العرب. <<وغدت السريانية لغة نصارى العرب الطقسية، بها يرتّلون صلواتهم في الكنيسة، وبها يكتبون>> .
وورد في أسماء مَن حضر المجامع النسطورية، اسم أسقف يدعى “اسحاق” اشترك في مجمع النساطرة الذي عقد، 57 م .
ويقول الأب لويس شيخو عن الكنيسة النسطورية في البحرين وقطر:<<وكان للنساطرة في بلاد البحرين أساقفة، وخصوصاً في قطر، وهم يسمونها بيت قطرايا. وقد ذكروا في مجمعهم الذي عَقَدَه سنة 585 الجاثليق يسوعاب، أهل البحرين المتنصرين،(…) وقد ثبت هؤلاء النصارى على دينهم بعد الإسلام، كما يظهر من مجمع آخر نسطوري عقد سنة (57 ﻫ/676 م). ومنه يظهر أن بلاد البحرين كانت حافلة بالكنائس والأديرة ودعاة الدين>> .
ويذكر الأب شيخو، نقلاً عن وثائق هذه المجامع، أسماء عدد من أساقفة النساطرة، في قطر والبحرين وجُزر البحرين: دارين وسماهيج والإحساء ما بين 410 م و 676 م.
ومن الحيرة انتقلت النسطورية أيضاً إلى اليمامة، فالافلاج، فوادي الدواسر. وبالتالي إلى نجران واليمن. يقول جواد علي: << وصلت (النسطورية) إليها بالتبشير، وبواسطة القوافل التجارية. فقد كانت بين اليمن والحيرة علاقات تجارية وثيقة. وكانت القوافل التجارية تسلك جملة طرق في تنمية هذه العلاقات وتوثيقها. وقد قوي هذا المذهب ولا شك بعد دخول
الفرس إلى اليمن. لما كان لأصحابه من نفوذ في بلاط ملك الفرس، ومن صداقته لهم>>1.
وقد ذكر صليبا بن يوحنّا، في إضافاته على المجدل (الجزء الثاني من هذا المجلد)، نشاط عدد من المبشرين النساطرة، في الجزيرة العربية، ولا سيما في اليمامة. وروى خبر عبد يشوع السائح، الذي بشّر بالنصرانية في جهات اليمامة في أواخر القرن الرابع للمسيح. ويمكن العودة إلى روايات صليبا في مكانها من مجلدنا هذا.
وكان عدد كبير من سكان اليمامة قبل الإسلام نصارى.
<<وملك عليهم قبل الإسلام بقليل هوذة بن علي، الذي كان أسر قوماً من بني تميم. ثم أطلقهم يوم عيد الفصح كما ذكر ابن الأثير في تاريخه، فقال الأعشى يمدحه:
<<بهم يقرّب يوم الفصح ضاحيةً يرجو الإله بما يرجو وما صنعا>>.
وتشير الاكتشافات الأثرية إلى قدم النصرانية في الجزيرة، لا سيما في جنوبها. وقد كشف المستشرق غلازر عن رقيم أثري (543 م): لأبرهه يعرض لانهيار سدّ مآرب، وفي مطلعه هذه الكلمات:<< بقوة ونعمة ورحمة الرحمنان ومسيحه وروح قدسه>> .
استعملها قبل ذلك، واحد من أبرز شخصيات اليمامة التي نتحدّث عنها، وهو مسيلمة. وقد ادّعى النبوّة قبل الرسول – صلعم- وعُرف بـ:” رحمان اليمامة”.وإذا لم تكُن نصرانية مسيلمة، والتي تحدّث عنها عدد من الباحثين، مؤكّدة. فإن تأثره بالنصرانية أمر شبه مؤكد. لا سيما، وأن اليمامة، موطنه كما رأينا، كانت معقلاً للنساطرة.
أما عن النسطورية في اليمن، فيتحدّث ماري بن سليمان، في الجزء الأول من هذا الكتاب. وصليبا بن يوحنّا في الثاني منه، عن نشاط مبشّري النساطرة هناك. ونشاط القوافل التجارية بين العراق واليمن، والتي حملت معها المبشرين. ويورد ماري (ص2) وصليبا (ص1) أن رسولي النساطرة الأولين أدي وماري سارا إلى بلاد العرب، سكّان الخيم، وإلى نجران وجزائر بحر اليمن. ويمكن العودة إلى تفصيل ذلك في مواضعه.
وبقيت النسطورية قائمة في اليمن أيام الإسلام. ففي الأخبار الكنسيّة، أن رئيس البطاركة النساطرة (طيموثاوس)، نصّب في أواخر القرن الثامن للميلاد أسقفاً لنجران وصنعاء، اسمه مار بطرس: <<وأن أساقفة من النساطرة كانوا في مواضع متعدّدة من اليمن وفي عدن في القرن 13 م>> .
نكتفي بهذا القدر من تاريخ الكنيسة النسطورية وحضورها في بلاد العرب قبل الإسلام. هذا الحضور الذي ترك بصمات عديدة في الدين الذي خرج من الجزيرة العربية. وما تركيزنا على نقاط القُربي، العقائدية والتاريخية ، بين الإسلام والنسطورية ، سوى محاولة لفهم جدلية العلاقة
اللاحقة بين الاثنين. وما شهدته من مدٍّ وجزر طيلة قرون. وهو <<موضوع كتاب المِجدَل الرئيسي>>.
ثانياً: ماري بن سليمان وكتاب المِجْدَل
هذا عن النساطرة ونسطور، والكنيسة النسطورية في بلاد العرب موضوع كتاب المجدل، كما قلنا. ماذا الآن عن الكتاب عينه ومؤلّفيه ومواضيعه ؟
1 – الكتاب وعنوانه
ليس ما نعيد وضعه اليوم بين يديّ القارئ سوى جزء بسيط من كتاب المجدل. وهو الجزء التاريخي الذي يتناول أخبار بطاركة المشرق، وتحديداً النساطرة منهم. وأحوال النساطرة في الدولة الإسلامية وقبلها الخ…
وواقع الأمر، أن معلوماتنا عن كتاب المجدل ومؤلّفيه، محدودة. وتعود في مجملها إلى العلاّمة الماروني يوسف سمعان السمعاني1. في موسوعته الضخمة ” المكتبة الشرقية ” 2.
والعنوان الكامل للكتاب هو على الأرجح: ” المجْدَل للاستبصار والجدل” .
ماذا يعني هذا العنوان.
المجدل : لم يكن من السهلِ علينا مَعرفة كيفية نُطق وتحريك هذه الكملة. وكذلك أصلها ومعناها.
وبعد العودة إلى عدد من المعاجم العربية والسريانية استخلصنا ما يلي:
مَجدَل Majdal (بفَتح الميم) في اللغة الآرمية السريانية. ولفظة مِجدَل (بكسْر الميم) بالعربية، هما على الأرجح كلمة واحدة. وذات مدلول واحد.
مَجْدَل : لفظ آرامي مشتق من Magdla ، ومعناه : المِرقَب والمكان العالي المشرف للمراقبة والحراسة . أو <<المرقب أو البرج العالي والقلعة >>. ويورد الخوري بولس الفغالي ألفاظ قريبة له بالمعنى عينه في المصرية القديمة واليونانية. ويشير إلى استعماله في رسائل تلّ العمارنة، وفي الترجمة السبعينية للعهد القديم فيقول: مجدل وفي المصرية م ل ت ر أو : م ل د ر. وفي
اليونانية مغدولوس ( عند هيرودتس والترجمة السبعينية)، هو اسم كنعاني يعني الحصن. وقد استعمله المصريون للكلام عن حصون بُنيت على مدّ الحدود الشرقية للدلتا .
المُلفت في الأمر، أن هذه اللفظة عينها وجدناها أيضاً بالعربية، وبالمعنى إيّاه. يقول ابن منظور:
المِجْدَل : القصر المشرف لوثاقة بنائه، وجمعه مجادل. ويورد أبياتاً من الشعر في هذا المعنى. قال الأعشى:
في مِجدَلٍ شدّد بنيانه يزلُّ عنه ظُفر الطائرُ
وقال أبو كبير:
في رأس مشرفة القذال، كأنّما أُطر السحاب بها بياض المِجْدَل
وللفظة مِجْدَل معنى آخر بالعربية. فهي تَفيد الرجل الشديد الجَدَلْ. أما مَجْدَل فلها معنى ثالث: الجماعة من الناس. وينقل ابن منظور عن ابن سيده: أراه (أي معنى جماعة من الناس) لأن الغالب عليهم إذا اجتمعوا أن يتجادلوا. ويورد ابن منظور بيتاً للعجّاج:
فانقضَّ بالسّير ولا تعلّلِ بِمجدَلٍ ونعم رأسُ المَجدَلِ
وفي ختام هذا العرض نخلُص إلى القول أننا نؤثر استعمال لفظة: المِجدَل (بكسر الميم). وإن كانت المَجدَل (بفتح الميم) أيضاً صحيحة. وذلك
لأنها كلمة عربية أصيلة كما رأينا. وتفيد المعنى عينه الذي قصده مؤلف المِجدَل. ويأتي ترجيحنا لمعنى المِجدل: الحصن أو القصر من عنوان الفصل الأول في الكتاب: الصَرح كما هو مبيّن في المخطّط العام للكتاب، الوارد لاحقاً.
المِجْدَل للاستبصار والجَدَل
الإستبصار: استبصر الأمر: تمكّن من النظر إليه.
والاستبصار في الأمر التأمل فيه. وفي القرآن: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ .
والجَدَل : مقابلة الحجّة بالحجّة. والجدل شدّة الخصومة. والجدل عند المنطقيين: هو القياس المؤلف من مقدّمات مشهورة أو مسلّم بها، أي قياس مفيد للتصديق، لا تعتبر فيه الحقيقة وعدمها. بل عموم الاعتراف والتسليم كقولك <<فلانٌ يطوف في الليل فهو لصّ>>:<<والغرض منه إلزام الخصم وإفحام مَن هو قاصر عن إدراك مقدّمات البرهان>> .
وباختصار، فالعنوان يبيّن أن المصنَّف هو كتاب محاججة، وبراهين، وجدل في اللاهوت المسيحي، من وجهة نظر الكنيسة النسطورية. وقد شاءه المؤلّف “حِصناً” مِجدَلاً للدفاع عن عقيدة كنيسته، وتاريخها، ومآثرها، وعلومها. 2 – مؤلّف الكتاب:
أمّا كاتب المِجدَل فهو “ماري بن سليمان”. ولا نعرف عن هذا المؤلّف النسطوري سوى أنّه عاش في عهد البطريرك برصوما (1134 – 1136) وعبد يشوع الثالث (1138 – 1147)، كما يقول العلاّمة السمعاني في كتابه “المكتبة الشرقية” . وكتاب “المجدل” كما أشرنا، مجموعة ضخمة. ولا تحتل لائحة البطاركة وتاريخهم سوى جزء صغير منه. وهو المنشور في مجلّدنا هذا. في حين يبقى الجزء الأكبر إلى الآن مخطوطاً غير مطبوع.
ويقسم الكتاب إلى سبعة أبواب تتضمّن ثلاثين فصلاً.
ويشير الأب شيخو إلى وجود أربع نسخ، من مخطوطاته، في مكتبة ” القُاتيكان “. تعود واحدة منها إلى سنة 1401. وواحدة في المكتبة الوطنية في باريس. وأخرى في مكتبة الكلدان في ديار بكر-العراق.
3 – مواضيع المِجْدَل وفصوله
أما أبواب الكتاب وفصوله، فتتوزّع وفقاً للعلاّمة السمعاني كما يلي:
الباب الأول: الصرح، المقدّمة
الباب الثاني: البيّنة:
1 – موسوعة في وحدة الله وصفاته.
2 – أساس التجسّد ونسب المسيح والتنبؤات المسيحانية.
3 – البنيان على الثالوث والتجسّد.
الباب الثالث: الأسس
1 – العماد.
2 – في سرّ الذبيحة الليتورجية.
3 – براهين من الإنجيل في لاهوت المسيح وناسوته.
4 – في الصلب.
الباب الرابع: المنارات السبع
1 – التقوى والفضائل والرذائل.
2 – المحبة
3 – الصلاة
4 – الصوم
5 – الرحمة(الصدقة)
6 – التواضع
7 – الطهارة والعفاف.
الفصل الخامس: العُمد
1 – في خلق العالم.
2 – حقيقة القيامة والدينونة والعقوبات.
3 – صحّة التنبّوآت من إسحاق إلى مجيء المسيح.
4 – اثبات عن مجيء المسيح.
5 – في القوانين والشرائع والمقرّرات التي اتخذها الرسل وخلفاؤهم،وفي هذا الفصل يأتي تاريخ الجثالقة(أو البطاركة) الشرقيين. أي النص المنشور هنا من المجدل.
6 – ما عمله الملوك والأحبار لإثبات الإيمان.
7 – اتفاق المسيحيين بشأن كتب العهدين.
الباب السادس : الهوات
1 – الصلاة نحو الشرق.
2 – تقديس الأحد.
3 – التمنطق، وإضاءة المصابيح أثناء الصلاة، واستعمال التبخير.
4 – التعويض بالتوبة.
الباب السابع: البساتين
1 – نبذ عادة الختان.
2 – حذف السبت في العهد الجديد.
3 – السماح بأكل اللحوم المحظورة في العهد القديم.
4 – ضلالات اليهود المذمومة.
يتبيّن لنا من هذا الثبت التفصيلي لأبواب الكتاب وفصوله، أن المنشور في مجلّدنا هذا ليس سوى فصل من فصول المِجدَل الثلاثين. وهكذا نجد الصفحة الأولى معنونة: الفصل الخامس من الباب الخامس. وذلك في كتاب “ماري بن سليمان” . ولـكنه فصل مستقل فـي موضوعه يتناول تاريخ بطاركة النساطرة ونشاطاتهم. وما جرى أيام بطريركيتهم.
ويتناول كذلك الكلام على عدد من الرجالات الذي عُرفوا في الدولة الإسلامية من أطباء، وكتّاب، أمثال “حنين بن إسحاق” وغيره.
ثالثاً: الإضافات اللاحقة على كتاب المِجْدَل وواضعيها
ويلاحظ القارئ أن مجلّدنا يتضمّن جزئين، يحملان العنوان عينه، وثلاثة مؤلفين: فكيف يفسَّر هذا الأمر.
الحقيقة أن “ماري بن سليمان” هو مَن سطّر أولاً كتاب المجدل. وقد عاش كما رأينا في منتصف القرن الثاني عشر م. ثم جاء بعده بحوالي قرنين مؤلّفين اثنين. نورد في ما يلي ما نعرفه عنهما، وأبرز إسهاماتهما في كتاب المجدل.
1 – صليبا بن يوحنّا
الأول والأبرز بين الاثنين هو صليبا بن يوحنّا، وهو قسيس نسطوري من الموصل. ولد على الأرجح في أواخر القرن الثالث عشر م. وتشير مقدّمة مخطوط “صليبا” أنّه عكف نحو سنة 1332 على دراسة كتاب المجدل لـ “ماري بن سليمان”. لا سيما – منه الفصل المختص بتاريخ البطاركة. وقد أضاف إليه أسماء ثمانية بطاركة توالوا على كرسي المشرق بعد “ماري بن سليمان” على الأرجح. وسلسلة البطاركة الثمانية هؤلاء أوّلهما عبد يشوع ابن المقلي (1138 – 1147) وآخرها “يهبالاها الثالث المغولي” (1281 – 1317). ولكن عمل “صليبا بن يوحنّا”، لم يقتصر على هذه الإضافة. وإنّما حذف أموراً كثيرة، وأضاف أموراً غيرها. مركّزاً على مدح عدد من البطاركة ، ذاكراً أوصافهم الخارجية ، وأثوابهم ، وحِللَهم ،
وألوانها. ويذكر الأب لويس شيخو أن لكتاب صليبا هذا مخطوطتان في روما، واحدة في المكتبة ﺎﭭﻟﺍتيكانية مؤرخة سنة 1643 يونانية (أي 1332 م)، وأخرى في المتحف البورجياني.
وبالإضافة إلى مساهمته في المجدل، فقد دبجت يراعة “صليبا بن يوحنّا” مصنّفات أخرى أبرزها:
1 – مجادلة جرت بين أيشوع الراهب، ورأس الجالوت رئيس اليهود في أمر سيدنا يسوع المسيح. وضع “صليبا” هذا الكتاب في مدينة الماغوسة في قبرص سنة 1330، على ما يذكر الأب شيخو. ولهذا الكتاب نسخة مخطوطة في مكتبة باريس الوطنية .
2 – تعريب كتاب الإقرار والأمانة التي يعتقدها النصارى السريان المشارقة (أي النساطرة)، وهو كتاب ألّفه “ميخائيل” أسقف آمد.
3 – رسالة البرهان والإرشاد في بعض بيوت الكلدان في الموصل. ينقل شيخو خبر هذه الرسالة عن الراهب “برصوم”، في تاريخ دير الزعفران .
2 – عمرو بن متّى
أمّا الثاني فهو “عمرو بن متّى الطيرهاني النسطوري”.
وما نعرفه عن “عمرو” أنه عاش هو الآخر في النصف الأول من القرن الرابع عشر م . ويورد العلاّمة السمعاني أنّه عكف نحو سنة 1340
على صياغة جديدة مختصرة لكتاب المجدل . ولا نعرف إذا كان “عمرو بن متّى” قد تعاون مع “صليبا بن يوحنّا” في هذا الأمر. وإن كانت بعض المراجع تشير إلى ذلك . وثمّة نسخة مـن كتاب عمرو فـي المكتبةﺎﭭﻟﺍتيكانية. والصيغة الحالية، أي الجزء الثاني من هذا المجلّد تنسب عامة إلى عمرو. ولكنها على الأرجح عمل الاثنين صليبا بن يوحنّا وعمرو بن متّى. ولصليبا المساهمة الأبرز فيها. لذا نجد عدداً من المؤلفين أمثال د. جان موريس فييه والأب ألبير أبونا ينسبوها إليه.
3 – إضافات صليبا وعمرو: وثيقة نادرة عن عهد المغول
أبرز ما يميز الإضافات التي ألحقها صليبا بن يوحنا، وعمرو بن متّى بكتاب المجدل أنها تتناول فترة عصيبة ومهمة من تاريخ العراق والدولة الإسلامية: ألا وهي سقوط بغداد بيد “هولاكو” حفيد “جنكيزخان”. وقيام الدولة المغولية على قسم كبير من أرض الإسلام. وقد سقطت بغداد بيد الفاتح المغولي الوثني سنة 656 ﻫ/1258. وحكم المغول العراق.
وهكذا انتقل المسيحيون، وغيرهم من الأقليّات، من وضع أهل ذمّة في الدولة الإسلامية، إلى وضع مختلف.
وواقع الأمر أن المصادر التي تتحدّث عن العراق، بعد سقوط بغداد، وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية قليلة. وأبرزها كتاب الحوادث الجامعة المنسوب إلى ابن الفوَطي (ت 723 ﻫ/1323) . وكتاب جامع
التواريخ لرشيد الدين الهمذاني (ت 718 ﻫ/1319 م). وإذا كان كتاب الحوادث الجامعة يشير أحياناً إلى أحوال النصارى في دولة المغول، فإن إشاراته تبقى غير كافية. ولا تروي غليل الباحث. أما ابن العبري (ت 1286)، المؤرخ السرياني اليعقوبي الشهير، فلا نجد في مؤلفاته وصفاً للعلاقات المميزة التي قامت بين المغول والنصارى. ولعلّ ذلك يعود إلى العصر الذي عاش فيه هذا الأخير. إذ يصعب الجهر فيه بمثل ما صرّح به صليبا وعمرو في المجدل. فقد شهد ابن العبري حروباً طاحنة بين المغول وملوك الموصل. وحدثت في أيامه مذابح خطيرة وفتناً مهولة . في العراق والجزيرة.
ولعلّ ذلك قد أثناه عن تناول مواضيع حسّاسة تثير النعرات مثل العلاقة بين النصارى والمغول.
أما صليبا وعمرو، فقد عاشا في زمن متأخر. إذ باشر صليبا بن يوحنّا كتابة إضافاته على المِجْدَل، بعد حوالي نصف قرن من وفاة ابن العبري. أي في زمن استقرت فيه الأوضاع. فليس بالمستغرب أن تكون هذه الأجواء قد أتاحت له شيئاً من الحرية، والجرأة في الرواية والتعبير، لم تتوفّر لابن العبري. لذا نظر صليبا إلى الأحداث من بُعد. في حين عاش ابن العبري في معمعتها. المهم أن كتاب صليبا، أو إضافاته على المجدل، امتازت بذكر طرائف تاريخية غير معروفة في مستند عربي آخر.
وروايات عن سيرة الطبقة الأولى من سلاطين المغول، وعن سياستهم مع النصارى في << كـلّ من الشرقين القريب والبعيد . ولا نجد أثـراً لهذه
الطرائف التاريخية، لا في كتب ابن العبري >> ولا في غيرها من المصادر التاريخية.
وإذا كان مؤلّف “الحوادث الجامعة” قد ذكر إجمالاً أخبار سقوط بغداد، وحسن المعاملة التي لقيها النصارى من المغول، وما حظوا به من عون ومساعدة، لدرجة أن الأخيرين وهبوا النصارى الكثير من قصور الأمراء والخلفاء العباسيين، فحوّل هؤلاء بعضها إلى كنائس ومعابد، فقد اكتفى هذا الكتاب بإشارات عامّة.
في حين عُني صليبا وعمرو بإيراد الكثير من التفاصيل والإيضاحات لهذه الأحداث والتغيرات. فجثالقة النصارى-ومثلهم حاخامو اليهود- كانوا في ظلّ الدولة العباسية، لا سيما في الحقبة الأخيرة منها، يُستدعون إلى ديوان الخلافة، فيتلو عليهم الوزير أو مَن ينوب عنه، نص البراءة الصادرة بتعيينهم. وغالباً ما كان هذا النص يتضمّن فقرة تؤكّد أن ديانة البطريرك المعيّن قد نُسخت (أي أُبطلت) بالرسالة المحمدية (الإسلام). وسنورد نموذجاً من هذه البراءات في مُلحق مقدّمتنا هذه. وبعد تلاوة النص يؤمر الجاثليق (أو الحاخام اليهودي) بالانصراف. وهذه التدابير التي شابها الكثير من الذلّ، جاء بعدها مع المغول عصر المواكب والاحتفالات الرسمية والخُلَع واستقبال الوفود في القواعد العسكرية وإكرام الوافدين وتقديم الهدايا لهم . هـذا بعض ما خصّ به أمراء المغول رؤساء
النصارى . يروي لنا صليبا كل ذلك، ذاكراً ما حظيت به المسيحية من تقدير، عند سلاطين المغول، أو حاشيتهم.
ويحدثنا صليبا عن ثلاثة بطاركة: مامكيخا، ماردنحا، وبابالاها الثالث. وقد عاصروا ثلاثة من سلاطين المغول: هولاكو، أباقا، وأرغون. ونعموا بسياسة الودّ والتقرّب التي انتهجها الأخيرون تجاه النصارى.
ويشير صليبا، بشيء من الزهو والفخر، إلى العصر الذهبي الذي عاشته المسيحية في دولة المغول، لا سيما في رئاسة الجاثليق بابالاها، فيقول: << نال – أي بابالاها- من العز والجاه والسلطان ما لا ناله أحد من قبله. حتى أن ملوك المغول والقاآنية وأولادهم كانوا يكشفون رؤوسهم ويبركون قدّامه. ونفذ حكمه في جميع الممالك بالمشرق. وارتفع النصارى في أيامه إلى عز عظيم وجاه كبير>>.
وليس من مجال هنا لذكر تفاصيل ذلك. وللقارئ أن يعود إليها في مكانها من الكتاب. كل هذه الأمور، وغيرها تجعل من إضافات صليبا وعمرو <<مستنداً نادراً عن علاقات النصارى بالمغول>> وفقاً لتعبير المؤرخ، وصاحب دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، حسن الأمين.
ويعلّل كامل مصطفى الشيبي بعض تصرفات النساطرة في أوائل العهد المغولي من تحويل بعض القصور إلى كنائس وغيرها (…) بأنّ
<<كان ذلك تعبيراً عن شعور النصارى بما عانوه على يد النظام السابق وغيره طوال قرون>> .
وقبل أن نختم فقرتنا عن النصارى والمغول، نذكر أن فسحة الحرية هذه لم تقتصر على النصارى فقط. بل استفادت منها بقيّة الأقليات الإسلامية، وغير الإسلامية، التي كانت تحت الحكم العباسي.
فالشيعة مثلاً في ظلّ الدولة المغولية كانت لهم اهتمامات فكرية لم يعرفوها سابقاً. يقول: الشيبي في ذلك :<<لم يشتهر عن الشيعة الاهتمام بالفلسفة، لأن هذا يلحقهم بالإسماعيلية. فحاولوا أن يكتفوا بعلم الكلام والفقه. وأن يتجنّبوا الفلسفة ما أمكنهم. فلما جاء الفتح المغولي، وانتهى إليهم أن هولاكو <<يحب العلماء والفضلاء ويحسن إليهم>>. ورأوا مصداق ذلك، في استيزاره نصير الدين الطوسي، بعد إخراجه من سجن آخر الأمراء الإسماعليين، نشطوا إلى هذا النوع من المعرفة>> .
مثل ثانٍ وأخير، على فسحة الحريّة في دولة المغول: إنه ابن كمّونه (ت 683 ﻫ/1284) وكتابه <<تنقيح الأبحاث للملل الثلاث>>. وهو من أقدم الأبحاث في علم الأديان المقارنة. ويقول عنه المستشرق ستنشنيدر Steinschneider <<إنه أهم وأبرز مؤلَّف في الجدل بين الأديان في اللغة العربية>>. هذا السِفر ما كان ليُكتب، ويظهر بنقده للمسيحية والإسلام، إلا في جوّ مماثل لما أتاحه الحكم المغولي . ومع ذلك فقد كاد ابن كمونة يفقد
حياته نتيجة نقمة العامة عليه جرّاء هذا الكتاب .
ولكن شهر العسل الذي عاشته جماعات النصارى والشيعة الإمامية واليهود في الفترة الأولى من الحكم المغولي لم يطل. يقول جورج ﺎﭬجدا (Georges Vajda):<<لا يبدو أن الاجتياح المغولي واحتلال بغداد قد غيّرا بشكل راديكالي وضع اليهود في بغداد. وإذا كان اليهود وكذلك النصارى والشيعة الإمامية، قد استفادوا إلى حدّ معيّن من تغيّر النظام في الحقبة الزمنية التي فصلت بين سقوط بغداد واعتناق ملوك المغول نهائياً الإسلام السنّي، فإن ذلك لم يدم>> .
كل هذه الآفاق، التي يفتحها لنا كتاب المِجْدَل، تُغري بمزيد من البحث والتحليل لمضمونه، ومقارنته بغيره من مصادر معاصرة له، ككتب ابن العبري والفوَطي والهمذاني. ما يتخطى نطاقه هذه المقدّمة. وعسانا نعود إليه، إن شاء الله، في بحث آخر، أو طبعة لاحقة لهذا الكتاب.
ننتقل الآن إلى القسم الأخير من مقدمتنا هذه، لنتحدّث عن تحقيق المِجدَل.
رابعاً: تحقيق الكتابين ونشرهما
عمد الأب هنري جيسموندي اليسوعي إلى تحقيق ونشر مجدل “ماري بن سليمان”، أو بالأحرى القسم التاريخي من المجدل، في روما سنة 1899 . فقدّم للكتاب باللاتينية . وقد استند على نُسخ المخطوطات التي في
القُاتيكان. وتشير واحدة منهما على ما يورد “جيسموندي”، أن ناسخها هو “يحيى بن الرضى بن ابن منصور بن فخيمة” المتطبّب بالجزيرة . وأنه
أنهى نسخه في 4 جمادي الأول سنة 610 ﻫ/1214 م. أي بعد تأليف “ماري بن سليمان” للمجدل بما يقرب الستين سنة. مما يوحي بالثقة بهذه النسخة القريبة من تاريخها، من عصر المؤلف.
وكتاب “ماري بن سليمان” يشكل القسم الأول من مجلّدنا هذا. وقد أرفقه المحقّق بعدّة فهارس.
أمّا كتاب “صليبا” و “عمرو” فقد نشره المحقّق عينه، قبل نشر كتاب “ماري” سنة 1896. ونَسَبَه، كما هو واضح في صفحة العنوان باللاتينية إلى “عمرو” و “صليبا” معاً. في حين أن صفحة العنوان العربية تنسب هذا المصنّف إلى “عمرو” وحده. ولا نعرف إلى مَن يعود هذا الخطأ. فمساهمة “صليبا بن يوحنّا” فيه أمر تؤكّده مقدّمة المخطوطة التي اشتغل عليها الأب “جيسموندي”، وأورد نصّها العربي في مقدّمته اللاتينية. تقول المقدّمة:
<<بسم الآب … نبتدي بعونه خالق الكل … ونكتب رسالة القس أضعف عباده وأحوجهم إلى رحمته صليبا ابن يوحنّا القسيس الموصلي شاكر فضل نعمته (…) ستة آلف وثلاثمائة واثنين وثلاثين م>>. ص VI.
لذا فقد أعَدنا في مجلّدنا هذا نسبة الكتاب الثاني إلى مؤلّفه الأول صليبا بن يوحنّا. ذاكرين بعده عمرو بن متّى.
فنص “ماري بن سليمان” هو إذاً وكما أشرنا، الفصل الخامس من الكتاب الخامس من كتاب المجدل. في حين أن نص “صليبا” و “عمرو”،
كما يُشار في الصفحة الأولى منه هو “الأصل الثاني” من السِفر الخامس وتعني عبارة “الأصل الثاني” على الأرجح النص المعدّل والمضاف إليه. وقد قام بهذه الإضافة “صليبا بن يوحنّا” كما أشرنا.
نشير أخيراً أن مكتبة المثنّى في بغداد لصاحبها قاسم محمد رجب، كانت قد أعادت طباعة كتابَيّ “المجدل”، تصويراً عن طبعة جيسموندي عام 1966.